وكالة أنباء الشائعات

إنها وكالة أنباء عالمية ... لا شرقية ولا غربية ... لا عربية ولا أعجمية ... وكالة أنباء لا حدود لها ولا جغرافيا تحكمها ...

وكالة لا مصداقية لأحكامها ... ولا قيمة لنشراتها ...

وكالة لا يعرف مراسلوها ... ولا من يقف وراءها ... ولا من يرعاها ... ولا من يمدها ... ولا أول من بث أخبارها لأول مرة .

وكالة لا يدرك غورها ...ولا يحاط بأسرارها ... ولا تعرف نهايتها ومداها ...

إنها وكالة أنباء الشائعات ... ومجموعة صناعة الأخبار التي لا حقيقة لها .... الأنباء التي توهن الأمة وتضعف من همتها ... الأراجيف التي تفعل في النفوس والأوطان ما لا تفعله فيها الأسلحة الفتاكة والجيوش الجرارة ... الأكاذيب التي تفكك العلاقات وتدمر الصداقات وتؤخر تقدم الشعوب.

أيها القراء الكرام :

إنه لا يعرف بالتحديد تاريخ ولادة الشائعات، ولا مسقط رأس أول شائعة... ولكن من المعروف حتماً أنه لم ينجُ من الشائعات حتى الأنبياء والمرسلون والعلماء والصالحون ... ولم يسلم من شررها أي مجتمع مهما علا وطهر وسما وتقدم

ليس يخلو المرء من ضد وإن *** حاول العزلة في رأس جبل

ففي غزوة أحد مر أنس بن النضر- عم سيدنا أنس بن مالك رضي الله عنه - وهو صحابي جليل لكن لم تكن له تلك المواقف المشهورة كشهرة مواقف أبي بكر وعمر وعثمان وعلي وأبي عبيدة وغيرهم رضوان الله عليهم أجمعين ... بل إنه لم يحضر غزوة بدر ...

في خضم معركة أحد ..والسيوف تلمع والرؤوس تتدحرج من على أجسادها ... رأى أنس جمعاً من الصحابة فيهم عمر بن الخطاب وطلحة بن عبيد الله رضي الله عنهما قد ألقوا بأسلحتهم وقعدوا عن القتال متأثرين بشائعة سرت في أرض المعركة تقول : إن محمداً قد قتل ، فقال : ما يجلسكم؟ قالوا : قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال : ما أقعدكم بعده ؟ ما تصنعون بالحياة من بعده ... قوموا فموتوا على ما مات عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم .

لم يقل لنفسه : إذا كان عمر بين القاعدين عن متابعة القتال فلماذا أقاتل أنا .

لم يقل : إذا كان عمر صدق الخبر فمن أنا حتى أكذبه ؟ بل قام فقاتل حتى قتل ، وفي ذلك نزل قوله تعالى : وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ ۚ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَىٰ أَعْقَابِكُمْ ۚ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىٰ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا ۗ وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ. سورة آل عمران ، الآية 144.

هذا هو المنهج الصائب في التعامل مع الشائعات ... ألا يُلْتفت إليها، ولا يحتفل بها، ولا ترفع من أرضها ... علينا أن نتابع الطريق ولا نتأثر بالأراجيف ... ونعتمد على هدي الله ورسوله ....

ألا وإن من هدي الله قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَىٰ مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ}. سورة الحجرات آية (6) .

وفي قراءة أخرى لعامة قراء أهل المدينة: فتثبتوا ...

وإن من هديه تعالى قوله : {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ اللَّهِ عَظِيمٌ وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَانَكَ هَٰذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ}. الآيتان (15) و( 16 ) من سورة النور.

وإن من هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم : «كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» رواه أبو داود .. وفي رواية «كَفَى بِالْمَرْءِ كَذِبًا أَنْ يُحَدِّثَ بِكُلِّ مَا سَمِعَ» رواه مسلم ، أي إذا لم يكن يكذب في العادة فإن تحديثه الناس ونقله لكل ما يسمع ضرب من ضروب الكذب لأن عدم التثبت يوقع في ذلك عادة .

وجاء عن الحبيب كفاك إثمـا *** اذا حَدَّثْتَ ما الواشـي يَشيـهِ

فمن بدأ الاشاعـة أو رواهــا *** كمن بـاع الحـرام ويشتريـهِ

فكـل اشاعـة لا بـد تـأتــــــي*** اذا حَقَّقْـتَ مـن بـاغ ٍسفيـــهِ

فنـارُ إشاعـةٍ لا بـد تخبــــــو*** ونار الشـر تَحْـرِقُ صانعيـهِ

وإن من هديه صلى الله عليه وسلم أيضاً قوله : «بِئْسَ مَطِيَّةُ الرَّجُلِ زَعَمُوا» رواه أبو داود ... أي إن بعض الناس تسأله عن مصدر المعلومة التي نقلها والإشاعة التي ساعد في نشرها فتكون حجته ( زعم الناس )، ويكون مركبه الذي يركبه في سوق المعلومة إلى النوادي ( هكذا قالوا ) ، فبئست المطية مطيته.

وإن من هديه قوله صلى الله عليه وسلم : إِنَّ اللهَ كَرِهَ لَكُمْ قِيلَ وَقَالَ وَإِضَاعَةَ الْمَالِ وَكَثْرَةَ السُّؤَالِ. رواه أحمد.

بهذا يضع النبي صلى الله عليه وسلم أيدينا على البوصلة، ويحذرنا من ضرر الإشاعة، وخطر الانجرار وراء أيِّ قول قبل التثبت منه .

أحبتي في الله :

لقد كان ضرر الإشاعة في القديم محصوراً في بيئة واحدة وجغرافيا معينة ... أما اليوم وبفضل وسائل التواصل فقد اتسعت مساحات الإشاعات .. وأمكنها أن تدخل كل بيت وتلج كل عقل لا مناعة فكريةً لديه ...

اليوم بفضل الإشاعة كم من حي أميت، وكم من ميت عاد إلى الحياة ...

كم من حرب تظن أنها قامت أو ستقوم ...

كم من رعب بُثَّ في قلوب الناس بتضخيم ما لا يستحق التضخيم ...

كم من حق أُمِيْتَ، وكم من باطل ساعدته الإشاعة على النهوض البقاء ...

بالإشاعة كم من طاهرة رميت في عرضها، وتاجر أمين صدوق ألصقت به تهمة الغش والتلاعب والتزوير، وبريء اتهم في ذمته ودينه وسمعته وعرضه..

أكـثـرُ الناس يحكمون على الن*** ناس وهـيـهات أن يكونوا عدولا

فـلـكـم لـقَّـبوا البخيل كريمــــــاً *** ولـكـم لـقَّـبـوا الكريم بخيــــــلا

ولـكـم أعـطَـوا المُلِحَّ فأغنـــــَوا*** ولـكـم أهملوا العفيفَ الخجــولا

ربَّ عـذراء حـرّة وصــمـــوها*** وبـغـيٍّ قـد صـوّروها بتـــــولا

وقـطـيـعِ الـيدين ظلـــــماً ولص***صٍ أشـبـع الـنـاس كـفَّه تقبيــلا

وسـجـيـنٍ صَـبُّوا عليه نكـــــالاً *** وسـجـيـنٍ مـدلّـلٍ تـدلـيــــــــلا

فعلينا أيها الإخوة وخصوصاً في هذه الليالي الحالكات التي تمر بها الأمة أن نفزع إلى ثوابت ديننا، ونتمسك بكتاب ربنا وهدي نبينا عليه الصلاة والسلام، ونلتف حول ولاة أمورنا؛ فنسمع لهم ونطيع، ونلزم جماعة المسلمين، ونسعى إلى رفض الإشاعات أياً كان نوعها ومصدرها، وأن يقوم كل واحد منا بالعمل المنوط به، ولا يتأخر عن واجباته بدافع من تأثير الإشاعات الآتية من وسائل التواصل؛ منصاعين في كل ذلك إلى قوله تعالى : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا الآية (59) من سورة النساء.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين