عندما ننسى الموت

المحاور

- لا أدري هل هي حالة من النسيان أو التناسي تلك التي تغشانا فننسى أحباباً كانوا معنا، وكنا معهم، نأخذ ونعطي ونبيع ونشتري، ونأكل ونشرب، ونخاصم ونصالح، فسبقونا إلى الله تعالى .. وقد تألمنا كثيراً بسبب الفقدان الذي حلّ بنا، وانتابنا الحزن والبكاء، وجاء المواسون، ثم رفع بيت الأجر .. ورفع بعده كل شيء .. فهل هذا الجفاء من قلة الوفاء أم أنها سنة الله في الأموات والأحياء؟

- ‏يبدو أننا نريد أن نعالج ألم الفقدان بالنسيان .. ولكن لهؤلاء الأموات علينا حقوق البر والصلة .. بأن نذكر محاسنهم، وأن ندعو لهم، وأن نتصدق عنهم، وأن نلتزم المشروع من وصيتهم، وأن نسد ديونهم، وأن لا نسمح لأحد بإيذائهم وقد رحلوا إلى ربهم .. كما أن لنا في ذكرهم عبرة .. فهنيئاً لمن كان له في الموت واعظ .. وفتح صفحة جديدة مع الخالق عند موت المخلوق.

- ‏إن لنا في ذكر الموت والأموات عبرة .. فلا نعلم أحداً عاش وكانت له في الخير أو الشر علامات إلا بعد أن علا مات.

- ‏إن في الغفلة عن ذكر الموت فسادا كبيرا .. فنحن عندما ننسى الموت نطغي ونبغي ونؤذي ونترك الطاعات ونرتكب المعاصي والموبقات، ويأكل القوي فينا الضعيف، ويتعالى فينا الغني على الفقير، والعالم على الجاهل، ويأكل الأب أبناءه .. ولا يسلم حتى الأغنياء والأقوياء والعلماء والآباء من أذى بعضهم، ولا من أذى الضعفاء والفقراء والجهلاء والأبناء.

- ‏إننا في الغفلة عن ذكر الموت نُسقط من حساباتنا ركناً من أركان الإيمان ألا وهو ركن الإيمان باليوم الآخر .. ولا قيمة للإيمان الجامد النظري بهذا الركن الخطير .. ما لم نتوصل عبر استحضارنا لحقيقة الموت أنه سيأتينا الأجل، وسنقف للحساب فرادى، وسيسألنا الله تعالى عن النقير والقطمير.

- لقد أخفى الله تعالى عنا زمان ومكان موتنا لنعيش حالة من الترقب والحذر .. ولا نأمن أمناً ينسينا ويطغينا، وصدق الله "وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ" (لقمان: 34).

- ‏إننا عندما نستحضر لحظة موتنا ورجوعنا إلى ربنا نواسي بذلك أنفسنا على ألم فقداننا لأحبابنا، وصدق الله " الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ" (البقرة: 156).

- ‏إن قيمة الإحسان والإتقان في عاداتنا وعباداتنا وأعمالنا ومعاملاتنا لا يمكن أن تتحقق بكمالها وجمالها إلا إذا استحضرنا الموت بين يدي تلك الأعمال أو حتى الأقوال .. لأجل ذلك يوصينا الإمام بين يدي صلاتنا خلفه فيقول: صلوا صلاة مودِّع.

- ‏لقد أبقى الله تعالى لنا من أسلافنا ومن سكنوا الأرض قبلنا علامات؛ لنتذكر أمجاد قوم سادوا ثم بادوا وملكوا ثم هلكوا .. فقد مات الرومان واليونان وأهل البر والإحسان .. وبقي وجه ربك ذي الجلال والإكرام .. بل مات فرعون الطاغية المستبد وأبقى الله تعالى جثته شاهدة لأمثاله من المستبدين الكبار على مستوى العالم أو الأصاغر على مستوى بلادنا أو وزاراتنا أو مؤسساتنا أو حتى بيوتنا التي يستبد فيها الرجل بزوجته أو الأب بأبنائه أو العكس، قال تعالى: "فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً ۚ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ" (يونس: 92).

- ‏إنّ وقعَ موت الفجأة شديد على من نسي ذكر الموت وأعطى للدنيا مساحة كبيرة من جهده وتفكيره .. لأجل ذلك أوصانا النبي صلى الله عليه وسلم بزيارة القبور لأنها تذكرنا الموت والآخرة، قال النبي صلى الله عليه وسلم:" زوروا القبور فإنها تذكركم الآخرة" رواه ابن ماجة وهو صحيح.

- ‏في كل يوم يموت من الشيب والشباب بل من الأطفال والنساء بل من الزعماء والملوك ما يجعل العبرة حاضرة حية لكل فئة من البشر .. ولكن العبرة تحتاج إلى قلب منشرح لها، وإلا فإننا لن نتعلم حتى نتألم، أو أن الموت العاجل لن يعطينا فرصة لأخذ الدروس والعبر فالأمر أعجل من ذلك.

- إننا وإن نسينا الموت فإن الموت لا ينسانا، وملك الموت مكلف بقبض أرواحنا عندما يحين الأجل، قال تعالى: " وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ" (آل عمران: 145).

- ‏عندما ننسى الموت ننسى الجزء الأكبر والأخطر والأهم من حياتنا .. ألا وهو حياة البرزخ والآخرة .. وفي البرزخ ما فيه؛ فهو إما روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران، وصدق الله تعالى وهو يحكي حياة البرزخ لآل فرعون:" النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا ۖ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابَ" (غافر: 46).

- ‏عندما ننسى الموت، ننسى ذكر أحبابنا من "النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا" .. وإذا تذكرنا الموت استشعرنا بأننا غداً نلقى الأحبة؛ محمداً وصحبة.

- ‏عندما ننسى الموت فإننا نعيش في دائرة اكتئاب وحزن مستمر، لاسيما وأننا نبتلى بالظلم ونؤذى أحيانا فلا نجد من ينصفنا في الدنيا، فيأتي ذكر الموت ولقاء الله تخفيف وعزاء لكل مكلوم مظلوم، كالبلسم لاسيما وهو يستحضر قول الله تعالى: "الْيَوْمَ تُجْزَىٰ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ۚ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ" (غافر: 17).

- ‏عندما ننسى الموت فإننا نسرف في الفرح والبهجة والسرور وكأن دنيانا هي كل شيء، والله تعالى أوصى قارون بالاعتدال على لسان قومه حين طاش عقله فرحاً بما أوتي في الدنيا ونسي الآخرة، قال تعالى: " إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ ۖ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا ۖ وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ ۖ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ" (القصص: 77).

- عندما ننسى الموت، نكون قد نسينا أنفسنا تماماً؛ فنسيان الموت نسيان لموعد لقاء الله، ونسيان موعد لقاء الله نسيان لله تعالى، والله تعالى يقول:" وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ" (الحشر: 19).

-ما أجمل أن تكون صاحب مبدأ لا تخاف في الله لومة لائم، ولا تعطي الدنية في دينك، وتفني عمرك نصرة لدينك وعقيدتك؛ فيهتز عرش الرحمن عند موتك في مشهد ما عرفنا له مثيلاً سوى لسعد بن معاذ رضي الله عنه، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم حين مات:" اهتز العرش لموت سعد بن معاذ" متفق عليه .. وكيف لا يهتز له العرش وقد حكم في يهود بحكم الله الملك سبحانه.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين