النظر في العواقب

قالوا: حدثنا عن العقل.

قلت: هو أفضل مواهب الله لعباده، وأعلى ما شرفهم به، وأرفع ما أنعم به عليهم، فلا يقاربه شيء من الخيرات، ولا تدانيه نعمة من النعم، وهل عاش الناس في الدنيا عيشة هنيئة إلا بعقولهم؟ وهل سما قدر الإنسان إلا بسمو عقله؟ وهل انتفع ابن أدم بمثل عقله؟ والعقل أس الإيمان ومعقد الإسلام، وبه تتم محاسن الأعمال ومكارم الأخلاق، قيل لعطاء بن أبي رباح: ما أفضل ما أعطي العبد؟ قال: العقل عن الله، وقيل لعبد الله بن المبارك: ما خير ما أعطي الرجل؟ قال: غزيرة عقل، قيل: فإن لم يكن؟ قال: أدب حسن، قيل: فإن لم يكن؟ قال: أخ صالح يستشيره، قيل: فإن لم يكن؟ قال: صمت طويل، قيل: فإن لم يكن؟ قال: فموت عاجل.

قالوا: ما لنا لا نولي لعقولنا اهتماما ولا ننتبه لخطورة شأنها؟ 

قلت: لأن عقولكم خافتة هامدة، تحتاج إلى أن تبعثوا فيها الحياة بتذكيرها بالحِكَم، وهي كامنة لا تظهر حتى تقويه الخبرات والتجارب، وعليكم أن تروضوا أنفسكم على إعمال العقل والفكر في شؤونكم كلها وأحوالكم بأسرها، لتستنبطوا به الرأي السديد وتستخرجوا به التدبير الحصيف، فتبلغوا مبلغكم في الحكم والرشاد والنور والهدى، وإذا استحكم العقل كان السابق إلى المآثر والمحامد، والدافع للرذائل والمثالب، ومن منَّ عليه خالقه بالعقل سعد جده وأدرك أمله في الدنيا والآخرة.

قالوا: تحثنا على إعمال العقل والفكر في الأمور كلها محببه إلينا ومرغبنا فيه في غير لين ولا هوادة، ولكننا نستصعبه استصعابا شاقا علينا متعسرا.

قلت: لا غرابة في ذلك فإعمال الفكر والعقل أصعب شيء وأشده إعضالا واعتياصا.

قالوا: ما لنا نكافح بأجسادنا ونكدح بأعضائنا ونحمل الأعباء الثقيلة فلا نحس بالتعب كما نحس إذا حققنا الأمور ودققنا الأشياء ببصائرنا وألبابنا؟ 

قلت: لأنكم تسخرون أجسادكم وأعضاءكم لأمور مشهودة وأشياء محسوسة، والعقل يتخطى المشهود والمحسوس إلى المحجوب والمغيب، والنظر في الغيب ووراء الحجاب يتطلب إحضارا للخاطر وشحذا للذهن وتنشيطا للقريحة وتعهدا بالقصد والنية، وذلك طريق وعر ومطلب مضن، قال الإمام أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه السر المصون: إنما فضل العقل على الحس بالنظر في العواقب، فإن الحس لا يرى الحاضر، والعقل يلاحظ الآخرة ويعمل على ما يتصور أن يقع، فلا ينبغي للعاقل أن يغفل عن تلمح العواقب، فمن ذلك أن التكاسل في طلب العلم وإيثار عاجل الراحة يوجب حسرات دائمة لا تفي لذة البطالة بمعشار تلك الحسرة، ولقد كان يجلس إلي أخي وهو عامي فقير، فأقول في نفسي قد تساوينا في هذه اللحظة فأين تعبي في طلب العلم؟ وأين لذة بطالته؟

قالوا: فدلنا على ما ييسر لنا إعمال العقل.

قلت: هو كما ذكر أبو الفرج: تأمُّلُ عواقب الأمور، والنظر في المآل، فإذا صار ذلك دأبكم تيسر لكم إعمال العقل، عن أبي حازم رحمه الله قال: ليس للملوك صديق، ولا للحسود راحة، والنظر في العواقب تلقيح العقول. وقال الشاطبي رحمه الله: النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعاً.

وما أحسن ما قال ابن الجوزي في صيد الخاطر في هذا المعنى: ينبغي الاحتراز من كل ما يجوز أن يكون، ولا ينبغي أن يقال: الغالب السلامة، وقد رأينا من نزل مع الخيل في سفينة، فاضطربت، فغرق من في السفينة، وإن كان الغالب في هذه السلامة. وكان ينبغي أن يقدر الإنسان في نفقته، وإن رأى الدنيا مقبلة، لجواز أن تنقطع تلك الدنيا، وحاجة النفس لابد من قضائها؛ فإذا بذر وقت السعة، فجاء وقت الضيق، لم يأمن أن يدخل في مداخل سوء، وأن يتعرض بالطلب من الناس، وكذلك ينبغي للمعافى أن يعد للمرض، وللقوي أن يتهيأ للهرم، وفي الجملة؛ فالنظر في العواقب، وفيما يجوز أن يقع شأن العقلاء، فأما النظر في الحالة الراهنة فحسب، فحالة الجهلة الحمقى، مثل أن يرى نفسه معافى، وينسى المرض، أو غنيًّا، وينسى الفقر، أو يرى لذةً عاجلة، وينسى ما تجني عواقبها، وليس للعقل شغل إلا النظر في العواقب، وهو يشير بالصواب من أين يقبل.

قالوا: ما الفرق بين العاقل والسفيه؟ 

قلت: كثير، ومنه أن العاقل اللبيب يستفرغ فكره ويتبصر الأمر قبل أن يباشره، والجاهل السفيه يستخف فكره ويتبصر الأمر بعد أن ينتهي منه، قال الحسن رحمه الله: الفتنة إذا أقبلت عرفها كل عالم، وإذا أدبرت عرفها كل جاهل.

وقلت: إن العقلاء والحكماء يدعون من قديم إلى النظر في العواقب والمآل حاضِّين عليه، يقول امرؤ القيس وهو يصور عواقب الفتن ومآلات الحروب.

الحرب أول ما تكون فتية=تسعى بزينتها لكل جهول

حتى إذا اشتعلت وشب ضرامها=ولت عجوزاً غير ذات حليل

شمطاء ينكر لونها وتغيرت=مكروهة للشم والتقبيل

قالوا: ما آفة العقل؟ وما الذي يعميه عن النظر في العواقب؟ 

قلت: آفته أن يغلبه الهوى، فالهوى يعمي ويصم، قال الشاعر:

وآفة العقل الهوى فمن علا=على هواه عقله فقد نجا

قالوا: فما توصينا به؟

قلت: أن تتغلبوا على هواكم، وتستجيبوا لعقولكم، فإذا قوي العقل وغلب قاد صاحبه إلى الإيمان، وصالح الأعمال، ومحاسن الأخلاق، وحفظه من التردي في المآزق والمهالك، وإن ضعف العقل أصيب صاحبه في إيمانه، وفسدت أعماله، وساءت أخلاقه، وهلكت النفس وظهر اعوجاجها، وهُوي بها في مكان سحيق.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين