عقد الاستصناع تنميةٌ للأموال والأوطان وتحقيقٌ للحاجات 1 من 2

معنى عقد الاستصناع:

الاستصْناع في اللغة: طلبُ صنعِ الشيء وعملِه لأنه غير موجود في الواقع غالباً. وفعلُه الماضي: صَنَع، وهو في الاصطلاح الفقهي: ( عقدٌ على مبيع في الذمة يُطلَب عملُه )، مثال ذلك: شركة تجارية تتَّفق مع مصنع على أن يصنع لها عدداً محدداً من السيارات، بأوصاف محددة في مواعيد محددة...

وعقد الاسـتصناع عقدٌ ائتماني، وهـو مما انفـرد فقهـاء الحنفيـة في القـول به، وفي تسـميته " الفقهية "، وفي الحديث عن أحكامه، وميَّزوه من عقد " السَّلَم " في كون الشيء المعقود عليه مستصنَعاً بفعل الناس وتدخُّلهم، كالعمارات، والأواني، والملابس، لا كونه موجوداً ومخلوقاً بخلْق الله تعالى وإيجاده، كالحبوب، والفواكه، والخضار، والبيض...

ويرى فقهاء الجمهور أنه ليس هناك عقد مستقل اسمه " الاستصناع "، وإنما هناك عقد يقال له: السَّلَم، ولذا أوردوا صور الاستصناع وأمثلته في عقد السلم .

مشروعية عقد الاستصناع:

يرى الحنفية مشروعية عقد الاستصناع منفرِداً عن السَّلم، وأنه جائز، بل قال الفقيه الحنفي محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله: " الاستصناع جائز بإجماع المسلمين "، وهو يقصد أن عموم المسلمين مارسوه ويمارسونه عملياً، وإنْ لم يسموه بهذا " الاسم الفقهي " الذي سمَّاه به الحنفية وانفردوا به.

واستدلوا لمشروعيته بالسنة النبوية، والإجماع العملي، والمعقول، وبيان هذا فيما يلي:

1ـ ما رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه بعَث إلى امرأة من الأنصار يقول لها: " مُرِي غلامَك النجَّار يعمل لي أعواداً ـ أيْ: منبراً ـ أجلس عليهن إذا كلَّمت الناس ".

2ـ ما رواه البخاري ومسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه: " اصطنع خاتَماً من ذهب، وكان يلبسـه، فيجعل فصَّه في باطن كفِّه، فصنع الناس خواتيم، ثم إنه جلس علـى المنبر فنزعه، فقال: إني كنتُ ألبس هذا الخاتم، وأجعل فصَّه من داخـل، فرمى به، ثم قال: والله لا ألبسه أبداً، فنبذ الناس خواتيمهم ".

3ـ الإجماع العملي: وبيانه: أن الناس تعاملوا بالاسـتصناع في عهـد النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم في الحديثين الآنفين، وتعاملـوا به أيضاً في سـائر الأعصار بعـده من غير نكير، فكان هذا إجماعاً عملياً ـ وهذا ما قصده محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله في قوله الآنف ـ ولا شك أن الإجماع حجة ينبغي الأخـذ بها؛ لما رواه الترمـذي وغيره من قول النبي صلى الله عليه وسلم: " لا تجتمع أمتي علـى ضلالة "، ولقول الصحابي عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: " ما رآه المسلمون حسناً، فهو عند الله حسن، وما رآه المسلمون قبيحاً، فهو عند الله قبيح ".

4ـ المعقول: وبيانه: أن حاجة الناس في عموم الأزمان والأمكنة تدعو إلى القول بجواز عقد الاستصناع؛ لأن الإنسان يَحتاج إلى استصناع البيوت والمكاتب وأثاثاتها من الطاولات، والكراسي، والأدوات المنزلية، والصحية، والكهربائية، وغيرها من احتياجاته المخصوصة، بأنواع مخصوصة، على مقادير مخصوصة، وصفات مخصوصة، وقد لا يتَّفق وجود هذه الأشياء مصنوعة في الأسواق بحسب طلب الإنسان ورغباته وحاجاته، فيحتاج إلى أن يستصنعها، فلو مُنِع عقد الاستصناع وحُرِّم لوقع الناس في الحرج والضيق.

الغاية من تشريع عقد الاستصناع:

شرع الله تعالى عقد الاستصناع ـ مع أنه بيع لشيء معدوم غير موجود ـ تيسيراً على الناس في تحصيل أرزاقهم، وتحقيق مصالحهم، وتمويل بعضهم بعضاً، واستثمار أموالهم وتنميتها، ويزيد الأمرَ وضوحاً ما يُقاس على ما سبق من حاجات الناس المعاصرة ومصالحهم الضرورية، كصنع الكهربائيات، والالكترونيات، وبناء المدارس، والجامعات، وصنع السيارات، والطائرات ...

ومع أن الإسلام شرع عقد الاستصناع، فإنه ضبطه بضوابط وشروط ومواصفات؛ حتى لا يختلف الناس ويتنازعوا فيما بينهم..

أركان عقد الاستصناع وشروطه:

تتشـابه أركـان عقـد الاسـتصناع مـع أركـان العقـود المالية عامـة، وهـي هنا ثلاثة:

1ـ الصيغـة: وهي التي يقال لها: الإيجاب والقبول.

2ـ العاقدان: أيْ: المستصنِع المشتري طالب السلعة، والصانع البائع الذي يقدم هذه السلعة.

3ـ المحلُّ: أيْ: السلعة المستصنَعة، والثمن المدفوع مقابلها .

أما شروط عقد الاستصناع فأبرزها ما يلي:

1ـ وصف السلعة المصنوعة وبيانها بياناً تاماً من حيث الجنس، والنوع، والقدر، والأوصاف، التي لا تدع مجالاً للاختلاف بين العاقدين.

2ـ كون السلعة المصنوعة مما يجري التعامل به وتصنيعه من قِبَل الناس ـ أيْ: مما يصنعه الإنسان ويتدخل في إيجاده وتجهيزه، كالطاولات، والكراسي، والجوَّالات، والسيارات، والطائرات، لا مما يخلقه الله تعالى ويوجده، كالحبوب، والفواكه، والثمار، والبيض...

إلزامية عقد الاستصناع:

ذهب الفقيه الحنفي أبو يوسـف القاضي رحمه الله تعالى، إلى لزوم عقد الاستصناع، إذا جاء مطابقاً للمواصفات المتفق عليها، وأنه لا خيار فيه لواحد من العاقدين، أما الصانع فلأنه بائع، ويجب عليه المضيُّ في العقد الذي التزمه، وكذلك يجب على المسـتصنِع تنفيذ العقد الذي التزم به؛ لما يترتب على تخلُّفه عن ذلك من ضرر يقع على الصانع.

ولا شك أن هذا يتفق مع قواعد العدل والإنصاف، ويُعِين على استقرار التعامل المالي والتجاري في الأسواق، بين التجار، وأصحاب المصانع، والشركات، والمُصَدِّرين، والمُوَرِّدين، سواء كان هذا على الصعيد المحلي، أو الصعيد الإقليمي، أو الصعيد العالمي.

للمقال تتمة 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين