المصيبة تحمل في طياتها نعماً كثيرة
الشيخ : أحمد النعسان


مقدِّمة الدرس:
الحمد لله رب العالمين, وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد, وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:
فقد عرفنا في الدرس الأخير بأن الله تعالى إذا أراد بعبده خيراً أصابه بمصيبة, وذلك لقول سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَنْ يُرِدْ اللَّهُ بِهِ خَيْرًا يُصِبْ مِنْهُ) رواه البخاري.
وعند ذلك يعرف المؤمن بأن نعمةً من نعم الله تعالى ساقها إليه مولانا عز وجل ولكنْ بثوب مصيبة, وكأنه حتى لا يحسده أحد على تلك النعمة, لأنه من المعلوم بأنه ما من صاحب نعمة من الناس إلا وهو محسود, ولكن عندما تأتي النعمة بثوب مصيبة فالجميع يتوجَّع ويتألم عليه, ومن الطبيعي أنه لا يُحسد على تلك المصيبة, لأن الناس يرون الظاهر, ولا يرون الباطن, وصاحب المصيبة إن كان مؤمناً بقضاء الله تعالى وقدره فإنه يرى تلك المصيبة تحمل في طيَّاتها نعمةً من نِعم الله تعالى لا يعرف قدرها من الخلق إلا هو.
قد يتساءل أحدنا: كيف نوفِّق بين هذا الحديث الشريف, وبين قوله تبارك وتعالى: {وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِير}؟
أيها الإخوة: لا تعارض بين الحديث الشريف والآية الكريمة, لأنه من الخير في حقِّ العبد المؤمن إذا اقترف إثماً أن تُعجَّل له عقوبته في الحياة الدنيا, كما جاء في الحديث: (وَمَنْ أَصَابَ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا فَعُوقِبَ بِهِ فِي الدُّنْيَا فَهُوَ لَهُ كَفَّارَةٌ) رواه البخاري ومسلم. نسأل الله تعالى أن يعاملنا بفضله لا بعدله, وأن لا يحمِّلنا ما لا طاقة لنا به. آمين.
نعم المصيبة:
أيها الإخوة الكرام: لو دقَّق الإنسان المؤمن على المصيبة فإنه يراها كما قلت تحمل في طيَّاتها نِعماً كثيرة, من هذه النعم:
أولاً: مناجاة العبد ربه عز وجل:
مما لا شك فيه بأن صاحب المصيبة يتوجَّه إلى الله تعالى بكلِّ ذراته, ويدعو الله عز وجل بقلب صادق منيب, ويناجيه مناجاة العبد الذليل لمولاه العزيز, والمناجاة شرف عظيم ومنصب من الكرامة جسيم.
وربنا سبحانه وتعالى عندما أمرنا بالدعاء له بقوله جلَّت قدرته: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}, أراد منا أن ندعوه بقلب صادق منيب, أن ندعوه بقلب حاضر مع الله تعالى, لا أن ندعوه بلسان عاصٍ وقلب غافل, لأن الله تبارك وتعالى ينظر إلى القلوب لا إلى الأعمال فقط, فإذا صدر الدعاء من لسان عاصٍ وقلب غافل فإن هذا الدعاء ما حقَّق شروطه, وفي الغالب الأعمِّ يكون هذا الدعاء مردوداً.
ومما لا شك فيه بأن دعاء العبد المؤمن المصاب يكون بكلِّ ذرَّاته مع انكسار القلب, أما عندما يتقلَّب العبد في النعمة ويدعو الله عز وجل فربما أن يكون دعاؤه دعاء العبد الغافل, ربما يدعو الله بلسانه, وقلبه مشغول عن الله تعالى, أما الأول فهو دعاء العبد المضطر الذي يدعو سيده ومولاه بقلب حاضر منكسر إلى الله تعالى, فإن لم يكن في المصيبة خير إلا هذا لكفى هذا العبدَ المؤمنَ المصاب, لأنه تحقَّق بالعبودية لله عز وجل حالة دعائه لله تعالى.
وإني أسأل الله تعالى أن يوفِّقنا لدعائه مع الانكسار وحضور القلب في سائر أحوالنا إنه خير مسؤول ومأمول.
ومن ناجى ربَّه عز وجل بقلب صادق سمع الله نجواه وشكواه, وقضى حاجته في الوقت الذي يريده مولانا عز وجل, كما أخبرنا مولانا عز وجل عن سيدنا زكريا عليه السلام, حيث ابتلاه الله تعالى بحرمان الولد بداية, فإذا به عليه السلام يناجي ربَّه كما قال تعالى مخبراً عنه: { كهيعص * ذِكْرُ رَحْمَةِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا * إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاء خَفِيًّا * قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُن بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا * وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِن وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِن لَّدُنكَ وَلِيًّا * يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا * يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيًّا}.
ثانياً: شكر الله تعالى على رفع المصيبة:
أيها الإخوة الكرام: المصيبة أوقفت العبد بباب مولاه, وانقطع رجاؤه إلا من الله, فناجى ربه, وناداه نداءً خفياً, فأعطاه مولانا عز وجل سؤله ورفع عنه المصيبة, وهذا يدفع العبد إلى شكر الله تعالى, والشكر نعمة من نعم الله تعالى على عبده, ومن شكر الله تعالى شكره اللهُ تعالى يوم القيامة, وبالشكر كما يقولون: يعقل النعمة الموجودة, ويستجلب النعمة المفقودة.
ثالثاً: محبة الله تعالى:
أيها الإخوة الكرام: بالمصيبة يناجي العبد ربه, وهذه نعمة, ويشكر العبد ربه على كشف المصيبة, وهذه نعمة, وإذا ناجى العبد ربه وشكره على نعمة الظاهرة والباطنة أقبل على ربه بقلب مفعم بالمحبة, ويجد العبد لذلك حلاوة في نفسه وراحة في قلبه, وبذلك تتجدَّد المحبة لسيده ومولاه, كما قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَحِبُّوا اللَّهَ لِمَا يَغْذُوكُمْ مِنْ نِعَمِهِ) رواه الترمذي.
رابعاً: تتحقق بالعبودية لله عز وجل:
أيها الإخوة: بالمصيبة يتحقق العبد بالعبودية لله عز وجل, ومقام العبودية يدفعك للطلب من مولاك, وهذا ما يريده الله تعالى منك, قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِين} [غافر: 60].
والله تعالى يحب العبد اللحوح, أما ابن آدم فإنه يكره العبد اللحوح, فمن أكثر الإلحاح على الله تعالى أحبَّه الله تعالى, ورحم الله من قال:
لا تسألنَّ بُنيَّ آدم حاجةً *** وسلِ الذي أبوابُه لا تحجَب
اللهُ يغضبُ إن تركتَ سؤالَه *** وبُنَيُّ آدمَ حين يُسأل يغضَب
لذلك رأينا جميع الأنبياء ألحوا على الله تعالى في الدعاء, وعلى رأسهم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم, حتى قال له الصديق رضي الله عنه مرة: (يَا نَبِيَّ اللَّهِ كَفَاكَ مُنَاشَدَتُكَ رَبَّكَ, فَإِنَّهُ سَيُنْجِزُ لَكَ مَا وَعَدَكَ) رواه مسلم.
خامساً: يتعرف العبد على صفات ربه عز وجل:
أيها الإخوة الكرام: من نعم الله تعالى على العبد في المصيبة أنه يعرِّفه على صفاته عز وجل.
يُفقر الله تعالى عبده ليناديه بقوله: يا غني أغنني بفضلك عمَّن سواك.
يُذلُّ الله تعالى عبده ليناديه بقوله: يا عزيز أنت القائل في كتاب العظيم: {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}.
يُعجز الله تعالى عبده ليناديه: يا قوي متِّعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا أبداً ما أحييتنا, واجعله الوارث منا.
يمرض الله تعالى عبده ليناديه: يا شافي لا شفاء إلا شفاؤك.
وهكذا كلُّ مبتلى يناجي سيده ومولاه من خلال مصيبته باسم من أسماء الله تعالى وبصفة من صفاته.
لا تحسبوه شراً لكم بل هو خير لكم:
أيها الإخوة الكرام: من خلال ما تقدَّم يجب على العبد المؤمن أن يعلم بأن قضاء الله تعالى وقدره كلُّه خير بالنسبة للمؤمن, بل نهى الله تعالى المؤمن أن يحسب المصيبة شراً, فقال تعالى: {لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}.
وهذه الآية نزلت في حقِّ سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي حقِّ الصدِّيق رضي الله عنه, وفي حقِّ الصدِّيقة رضي الله عنها, وفي حقِّ صفوان بن المعطل رضي الله عنه, كما قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}.
هذا الحادث حادث الإفك قد كلَّف أطهر النفوس في تاريخ البشرية كلِّها آلاماً لا تُطاق, وكلَّف الأمة كلَّها تجربة من أشقِّ التجارب في تاريخها الطويل, وعلَّق قلب سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقلب الصديقة حبيبة رسول الله صلى الله عليه وسلم, وقلب أبي بكر الصديق وزوجته رضي الله عنهما, وقلب صفوان بن المعطل رضي الله عنه شهراً كاملاً, علَّقها بحبال الشك والقلق والألم الذي لا يُطاق, بعد كلِّ هذا قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ}.
نعم لقد عاش سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهلُ بيته, وعاش أبو بكر وزوجته وأهل بيته رضي الله عنهم, وعاش صفوان بن المعطل رضي الله عنه, وعاش المسلمون جميعاً هذا الشهر كلَّه في جوٍّ خانق وآلام هائلة بسبب حديث الإفك.
ولعلنا في الدرس القادم نسمع قصة الإفك كاملة, ثم نتابع الحديث عن الخير الذي كان فيها, ورحم الله القائل:
يا صاحب الهمِّ إن الهمَّ مُنْفَرِجٌ *** أبشر بخير فإن الفـارِج اللهُ
اليأس يَقْطَع أحياناً بصاحِبِه *** لا تيأسَنَّ فإن الكـــافي اللهُ
اللهُ يُحدِث بعد العُسْر مَيسرةً *** لا تجزعنَّ فإن الصَّـانِع اللهُ
إذا بُلِيتَ فَثِقْ بالله وارضَ به *** إن الذي يَكْشِف البلوى هو اللهُ
واللهِ ما لَك غيرُ اللهِ مِن أحَدٍ *** فَحَسْبُك الله .. في كلٍّ لكَ اللهُ
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم, سبحان ربك رب العزة عما يصفون, وسلام على المرسلين, والحمد لله رب العالمين

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين