كيف تكون محبوباً! (4)

إنه من المتفق عليه في قاموس المحبين: أنّ الاهتمام والمتابعة دليل الحبّ، وأنّ التشديد والمحاسبة دليل الحبّ، وأن الملاحقة والمعاتبة دليل الحبّ أيضاً. وإذا غابت المعاملة بتلك التفاصيل، فلا حُبّ ولا قُرْب.

ولو أن محبوبًا مَرِض، ماذا تراه يفعل المُحِبّ؟ أتراه يهمله؟ أتراه يتركه إن لاحظ عليه علامات الإعياء؟ ألا يلاحقه بالدواء؟! ألا يحبسه عما يريد طمعًا بالشفاء؟! ألا يأخذه بيده ويُسلِمه لجراح فيوجعه، ويؤلمه، ليستأصل الداء؟!

أتراه إن ادّعى محبته، ثمّ تركه لتفتك به الأمراض، أيكونُ صادقًا في محبته؟! أيكون مخلصاً لمحبوبه؟!

في عرف الناس، لا يكون.. لا يكون..

وذلك المريض الذي ينعم بالاهتمام، حتى وإن ذاق مرارة الدواء، وقسوة العلاج، ألا يكونُ شاكرًا لمن يداريه؟! ألا يكون ممتنًا لمن يداويه؟!

إن المحبّ لا يترك محبوبه في طريقٍ دون أن يصوّبه، وإن قسا واختبر وابتلى..

واختباره على قدرِ الغلاوة، وابتلاؤه له عاقبة فيها ثواب ورفعةٌ وعِلاوة.

ذلك في ناموس الله تعالى قانون معروف، وللمحبوبين دواء موصوف: فإذا أحبّ الله عبدًا ابتلاه، فإن صبر اجتباه، وإن شكر اقتناه. وقد ورد في الحديث عن نبيّنا صلى الله عليه وسلم أنّه قال: "إنّ عِظَمَ الجزاء مع عِظَمِ البلاء، وإنَّ الله إذا أحبَّ قومًا ابتلاهم، فمن رضي فله الرضى، ومن سَخِطَ فله السَّخطَ". وفي حديث: "من يرِد الله به خيرًا يُصِبْ منه". وورد أيضًا عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال: "ما يزال البلاءُ بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله، حتى يلقى الله تعالى وما عليه خطيئة".

أنت محبوب؟! إذًا أنت مُختبر، ومُصاب..

ستُبتلى حتى يظهرَ معدِنُك الطيب، ولتتميّز عمن تساوى معك في السّراء، فإذا بك تتجاوزه بأشواط في الضّراء، ذلك أنّ الناس في السّراء سواسية، فإذا وقعتِ البلوى تميّز الخبيث من الطيب! ألم يقل ربّنا جلّ وعلا ﴿مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ (179)﴾؟! [آل عمران].

المحبوبٌ يُصفع، فلا يجزع، ويُصاب فلا يَهاب.

المحبوبٌ يُشدَّد عليه رحمةً لا عقابًا، ويُقتَصَّ منه شفقةً لا انتقامًا.

المحبوبٌ يعلم أنه لولا البلاء لأهلكتنا الأدواء، كالكبر والعجب والفرعنةِ وقسوة القلب وبلادةِ الحسّ.

المحبوبٌ يفهم كيف أنّ مصيبةً تدفعه للإقبال على الله خيرٌ له من نعمةٍ تنسيهِ ذكر الله.

هي سنّةٌ معمولٌ بها مع الصّفوة، مع الخيرة، مع النخبة، مع الأنبياء، ثمّ الأمثل فالأمثل، فكلّما تفوّقت القدرات، صَعُبت الاختبارات، وتنوّعت الابتلاءات، وارتفعت الدرجات..

هو محبوب يحسبه الناس في زمرة المحرومين، بينما هو عند الله من المرحومين، ومن الأخيار المختارين. وقد جاء في كتاب ربنا نفيٌ وتفنيدٌ لقاعدةً بشرية تقول ﴿فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16)﴾ [الفجر]، فتأتي المواساة للمحبوب بتعقيب وتصحيح، في قوله تعالى: ﴿كَلَّا﴾، كلا ليس العطاء دليل إكرام، وليس التضييق دليل إهانةٍ.

نعم، كلاهما ابتلاء ﴿لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [هود]، ولا يغتر من يُعطى من الدنيا على معاصيه ما يحبّ لأنه مستدرج، وإذا أراد الله بعبده الخير عجّل له العقوبة في الدنيا، وإذا أراد بعبده الشرّ أمسكَ عنه بذنبه حتى يُوافيَ به يوم القيامة.

محبوبٌ بعيد، يبتلى، فيقترب ويتوب..

ومحبوب قريب، يبتلى، فيُمكّن ويسود..

محبوب مذنب، يبتلى، فيصفو ويتطهّر..

ومحبوب مقصّر، يُبتلى، فيرتقي ويتصدّر..

من أصاب الله منه فهو محبوبٌ مرحوم، ومن عجّل له هنا، خفّف عنه هناك، وجزاؤه في الدنيا يكون مفرّقًا: مرّةً يمرض، ومرّةً يحزن، ومرّةً يخسر ماله، ومرّةً يصاب بولده أو زوجه، وإنَّ بلاء العاجلة، مهما كان موجعًا ومؤلمًا، فإنّ عاقبته فوزٌ ونجاح، ونجاةٌ وفلاح.

سأل أبو بكرٍ الصديق رضي الله عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، كيف الصّلاحُ بعد هذه الآية ﴿لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ (123)﴾ [النساء]، وكلّ شيءٍ عملناه جُزينا به؟ فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (غفر الله لك يا أبا بكر، ألستَ تمرض؟ ألست تحزن؟ ألست يصيبُك اللأواء؟ فال: فقلتُ: بلى. قال صلى الله عليه وسلم: هو ما تُجزَون به).

لقد ثبت بالأدلة المنطقية والشرعية بأن المُحبّ لا تمنعه محبته من ابتلاء محبوبه: تمحيصًا لإيمانه، وإثباتًا لصدق محبته، وتكفيرًا لذنوبه، ومحوًا لأخطائه، وتطهيرًا من عِلَلِه، وتمكيناً له بعد صبره واحتماله، ورفعًا لدرجته. وليعلم المحبوب أن هذه الدنيا قصيرةٌ جدًا، وأنها وجدت لتكون ممرًا لحياة جميلة طويلة، وأن الله تعالى قد جعل البلاء دفعة مسبقة، من أجل جنةِ أُعِدّت لمحبوبين: ابتلوا بالخير فشكروا، وابتلوا بالشر فصبروا، وخرجوا من غرف العناية المشددة في الدنيا، فسكنوا الغرف في أعالي الجنان، عند ربّ راضٍ غير غضبان..

*سلسلة "كيف تكون محبوباً!"، أكتبها لتكون علماً نافعاً، وصدقة جارية عن روح أخي محمد رحمه الله تعالى، راجية منكم الدعاء له بأن يكون عند ربه من المحبوبين، ونحن معه أجمعين، ثم نشرها على نية القبول بإذن الله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين