فلسفة الغِيبة

لكل خُلق سلبيا كان أو إيجابيا فلسفةٌ وتوصيفٌ وحيثيات، بعيدا عن مجرد الحكم عليه بالحل أو الحرمة الذي نحن مطالبون بالاحتكام إليه شرعًا.

والتعمق في ذلك أكثر يكشف لنا الكثير من الخبايا والحكم؛ ما يجعله أكثر رسوخًا، ويمكننا من استيعابه بجميع جوانبه.

(ذِكرُكَ أخاكَ بما يكره) -حال غيابه طبعًا-، هذا هو التوصيف الظاهر، والمقياس المتفق على انضباطه وسهولته!

لكن ما وراء الغيبة؟ ما دوافعُها وأسبابُها؟ وما أشكالُها وطرُقها؟ وكيف يتم التبرير لها، وشَرعنَتُها، وإلباسُها لباس بعض صفات الخير والحق والصواب؟

مثل هذه التساؤلات تطرح نفسها بإلحاح أثناء الحديث عن الغيبة، تطلب الكشف عنها والإجابة عليها.

المُغتَاب شخصٌ مريضٌ معلول القلب والعقل معًا؛ فيجد في ذم الآخرين مذاقًا حلوًا رغم أنه بمثابة (لحم الميتة) كما وصف القرآن، ويرى في ذلك متنفسًا يخرج عبرَه ما يكبته في نفسه من علل، كما يجد في النيل من غيره - سيما الأقران - ضمانًا لبقائه متربِّعًا على كرسي السمعة الحسنة والخصال الحميدة!

ثم لما كان الشيطان معنيًّا بالأمر لم يألُ جهدًا في التعاون الحثيث مع هذا المضحوك عليه، فيسمي له الأسماء بغير مسمياتها - خصوصًا إن كان من المحسوبين على الملتزمين المؤمنين بحرمة الغيبة-؛ فإنهم ليسوا كغيرهم ممن يغتابون وهم يعلمون ويعترفون أنهم يغتابون!

فترى أولئك المخدوعين تارةً ينهشون لحم أخيهم بحجة النصح لدين الله- اللهم قوِّ إيمانهم-، وتارة أخرى يبتغون تبيين الحق وكشف الحقائق للعوام، وأحيانًا لمجرد التسلية - حسب زعمهم-.

وهكذا

يمكن أيضًا أن يتظاهر هذا اللئيم بعدم رضاه بالغيبة، فيُظهِر الانزعاج والتضجر، بلهجة قد أوحت إلى الحاضرين بقدح وإساءة أكثر بكثير مما لو كان تحدث معهم بوضوح!

كل تلك من تلبيس إبليس الذي يطير فرحًا في وصوله إلى مثل هذا الإنجاز الذي يختصر له الكثير؛ إذ يعلم هو - كما نعلم جميعا- بأن الغيبة بمثابة النار التي تأكل الحسنات أكلا، فلا يحتاج إلى الكثير من الوسوسة ليصرفنا عن الطاعات ما دام قد استطاع أن يحقق حلمه وطموحه في إيقاعنا في مثل هذه الأعمال الماحقة القاضية،

وإن محدِّثَكم - إذ يخاطبُكم وينصح- لأخوفُ ما يخاف على نفسه التي بين جنبيه، وكلامه هذا لا يعني أبدا قدرته على ضبط نفسه واجتناب الغيبة، بل على عكس ذلك، ما دفعه إلى الكَلام سوى شدة الكِلام وألمِه!

الله عافنا جميعا وَمَنْ نحب.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين