مختارات من تفسير

من اللمسات القرآنية في سورة البقرة {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة:5] 

6ـ قال في لقمان: {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ }[لقمان:4] وفي البقرة قال: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ}[البقرة:3] . فما دلالة ذلك ولماذا ؟

آ ـ الإنفاق أعم من الزكاة , والزكاة من الإنفاق , فإذن مما ينفقون تحت طياتها الزكاة.

ب ـ ونلاحظ قوله تعالى في لقمان {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ } [لقمان:4] وفي البقرة قال : {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة:3] لأنه تكرر في البقرة ذكر الإنفاق (17) مرة وذكر الزكاة كذلك في عدة مواطن,ومن آيات ذكر الإنفاق قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ }[البقرة:261] .

{الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى} [البقرة:262] {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً} [البقرة:274] فتكرار الإنفاق في سورة البقرة عدا الأمر بالزكاة ناسب استعمال لفظة ـ ينفقون ـ لأنها أعم. أمّا في لقمان فما ذكر الإنفاق لأنّ طابع السورة يختلف عن طابع سورة البقرة .

7ـ وكذلك قوله تعالى في سورة البقرة: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ }[البقرة:4] لم يقل هذا في سورة لقمان لأنه في البقرة جرى هذا , وطُلِب من أهل الكتاب أنْ يؤمنوا بما أُنزل إليه وما أنزل من قبلك في آيات كثيرة جداً نحو قوله تعالى: {وَآَمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ} [البقرة:41] إذن المؤمنون يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك , وهؤلاء المشركون لم يؤمنوا {أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ} [البقرة:75] {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آَمَنُوا قَالُوا آَمَنَّا} [البقرة:76] {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آَمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ} [البقرة:91] هم لا يؤمنون بما أُنزل إليه , بينما طلب الله تعالى من المؤمنين أنْ يؤمنوا بما أنزل إلى الرسول عليه السلام وما أنزل على الرسل قبله , وحتى في آخر البقرة قال تعالى: {آَمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آَمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ} [البقرة:285] فطابع السورة هكذا، وأمّا في لقمان فلم يوجد مثل هذا أصلاً , ولذلك مفتتح سورة البقرة فيها طابع السورة.

8ـ قال تعالى فى سورة لقمان:{الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:4] وفي آية البقرة قال:{وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ}[البقرة:4] أي كرّر{هُمْ} قبل{َبِالآَخِرَةِ} فما دلالة ذلك ؟ ولماذا قدّم الجار والمجرور على الفعل (يوقنون) ؟

آـ لو لاحظنا في سورة لقمان تردد في السورة ذكر الآخرة وأحوالها والتوعد بها في زهاء نصف عدد آيات السورة وفي أولها وآخرها {لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ}[لقمان:6] {فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [لقمان:7] {لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ}[لقمان:8] {عَذَابٍ غَلِيظٍ}[لقمان:24] {إِلَيَّ المَصِيرُ}[لقمان:14] {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ}[لقمان:28] {وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ} [لقمان:33] .

ب ــ ثم هي بدأت بالآخرة{يُوقِنُونَ} [لقمان:4] وانتهت بالآخرة بقوله تعالى:{إِنَّ اللهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ}[لقمان:34] فناسب زيادة{هُمْ} [لقمان:4] توكيداً على طابع السورة وما جاء في السورة.

ج ـ إضافة إلى أنّ هؤلاء ذكر عنهم أنهم محسنون , والمحسنون كما علمنا أنهم يحسنون إلى أنفسهم وإلى غيرهم وزاد فيهم هدى ورحمة , وليس كما في البقرة {لِلمُتَقِينَ} [البقرة:2] والمتقي هو الذي يحفظ نفسه فزاد في وصف هؤلاء الذين يعبدون الله كأنهم يرونه، وهذا من الإحسان «أن تعبد الله كأنك تراه» ولذلك زاد في ذكر إيمانهم ويقينهم لمّا كانوا أعلى مرتبة وزاد لهم في الرحمة وزاد لهم في الآخرة {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الحُسْنَى وَزِيَادَةٌ}[يونس:26] فزاد في ذكر إيمانهم فقال: {وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:4] فهم أعلى في اليقين؛ لأنّ اليقين درجات والإيمان درجات فالإيمان يزيد، والاطمئنان درجات، واليقين درجات، والمحسنون يعبدون الله كأنهم يرونه , إذن درجة يقينهم عالية، فأكّد هذا الأمر فقال: {وَهُمْ بِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [لقمان:4] فأكّدها على ما ذكر في سورة البقرة: {وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] لأنّ السورة والآية كلها تستدعي ذكر الزيادة. 

د ـ لكنّ الملاحظ أنه في البقرة وفي لقمان قدّم الجار والمجرور على الفعل فقال: {وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] ولم يقل: وهم يوقنون بالآخرة.

والأصل في اللغة العربية أنْ يتقدم الفعل ثم تأتي المعمولات الفاعل والمفعول به والمتعلق من جار ومجرور، والتقديم لا بدّ أنْ يكون لسبب وهنا قدّم {وَبِالأَخِرَةِ} [البقرة:4] وكذلك في البقرة {وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] لأنّ الإيقان بالآخرة صعب ومقتضاه شاق , وأمّا الإيمان بالله فكثير من الناس يؤمنون بالله لكنّ قسماً منهم مع إيمانه بالله لا يؤمن بالآخرة؛ مثل كفار قريش: {وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ} [الجاثية:32] وهم مؤمنون بالله: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللهُ} [لقمان:25] إذن هم مؤمنون بالله لكنْ غير مؤمنين بالآخرة، ولذلك هنا قدم الآخرة لأهميتها فقال: {وَبِالآَخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة:4] فالإيمان بالله كأنه متسع، لكنّ اليقين بالآخرة ليس متسعاً , والتقديم هنا للاهتمام والقصر. 

9ـ النهاية واحدة في السورتين وبنفس رقم الآية رقم 5 {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة:5] فما دلالة ذلك ؟

آ ـ هؤلاء المذكورون بهذه الصفات قال الله سبحانه عنهم: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] واقتران لفظ الرب مع الهداية اقتران في غاية اللطف والدقة؛ لأنّ الرب هو المربي والموجه والمرشد والمعلم، هذا هو الرب في اللغة. 

ب ـ لم يقل :(على هدى من الله) وإنما قال : {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ}وفي ذلك أمران:

الأول : يمكن أنْ يقال هدى من الله؛ لأنّ الله (لفظ الجلالة) اسم العلم وكل الأمور تنسب إليه، ويصح أنْ تُنسب إليه باسمه العلم وأحياناً تنسب إلى صفاته بما يناسب المقام، ولكن هناك أشياء من الجميل أنْ تنسب إلى صفاته سبحانه وتعالى مثل: أرحم الراحمين، الرحمن الرحيم , وهنا قال: {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] والرب في اللغة هو أصلاً المربي والموجه والمرشد فيناسب اللفظ مع الهداية .

واختيار لفظ الرب مع الهداية كثير في القرآن، وهو مناسب من حيث الترتيب اللغوي {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} [طه:50] {قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء:62] {قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [الأنعام:161] وكثيراً ما تقترن الهداية بالرب، وهو اقتران مناسب لوظيفة المربي. 

الثاني : وهناك دلالة لطيفة بين الرب والهدى، وذلك بإضافة الضمير" هم " إلى {رَبِهم} ، ولو استعمل اسم العلم فليس فيه علاقة بهم وإنما عامة، لكنْ {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] لا شك أنّ ربهم هو أرحم بهم وأرأف بهم؛ لذا فاختيار كلمة (رب) مناسبة مع الهداية .

فالهدى مقترن بالرب وفيه من الحنو والإرشاد والخوف على العباد، ثم إضافة الضمير {رَّبِهّمْ} [البقرة:5] هذا فيه أنّ الله يحبهم ويقربهم إليه، وفيه من الحنو والنصح والإرشاد والتوجيه، ولا شك أنّ رب الإنسان أحنى عليه. 

ج ـ في قوله تعالى {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة:5] يستعمل مع الهداية لفظ {عَلَى} [البقرة:5] بعكس الضلال يستعمل لها لفظ {فِي} {لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [يوسف:8] وهذا ملاحظ في القرآن الكريم {عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [يس:4] {إِنَّكَ عَلَى الحَقِّ المُبِينِ} [النمل:79] ويستعمل في للضلال : {إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ}[يس:47] وليس فقط في الضلال وإنما الذي يؤدي إلى الضلال: {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ}[التوبة:45] {َفنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [يونس:11] كأنّ المهتدي هو مستعلٍ يبصر ما حوله ومتمكن مما هو فيه وهو مستعلٍ على الشيء ثابت يعلم ما حوله ويعلم ما أمامه، أمّا الساقط في اللُّجَّة أو في الغَمرَةِ أو في الضلال لا يتبين ما حوله بصورة صحيحة سليمة؛ لذا يقولون: يستعمل ربنا تعالى مع الهداية (على) ومع الضلال (في). 

د ـ ثم ختم الآية بقوله: {وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة:5] .

آ ـ أولاً جاء بضمير الفصل: {هُمُ} وجاء بالتعريف: {المُفْلِحُونَ} ولم يقل: أولئك مفلحون، ولم يقل: هم مفلحون، وإنما حصر أنّ هؤلاء هم المفلحون حصراً ليس هنالك مفلح آخر.

ب ـ (أولئك) في الأصل اسم إشارة , ومن الناحية الحسية إذا لم نرد المجاز نستعمل (أولئك ) للبعيد و( هؤلاء ) للقريب، هذا هوالأصل مثل هذا وذلك.

ج ـ ثم تأتي أمور أخرى مجازية؛ كأنّ هؤلاء أصحاب مرتبة عليا فيشار إليهم لعلوِّ مرتبتهم بفلاحهم بــــ (أولئك) إشارة إلى علوِّ منزلتهم وعلوِّ ما هم فيه، فالذي على هدى هو مستعلٍ فيما يسير وهو مستعلٍ أصلاً، فيشار إليهم بما هو بعيد وبما هو مرتفع وبما هو عالٍ، ثم حصر الفلاح فيهم قال: {وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة:5] حصراً .

د ـ قوله تعالى: {هُمُ} هذا ضمير الفصل ويفيد في الغالب التوكيد والقصر, حتى إنه قيل في تسمية ضمير الفصل: أنه يفصل الخبر عن الصفة وهذا أصل التسمية، أي: أنّ أصل التسمية حتى يُعلم أن الذي بعده خبر وليس صفة؛ لأنه أحياناً يظن السائل أنّ هذا صفة وبعده خبر، ونحو ذلك قوله تعالى:{وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ}[البقرة:254] .

هـ ـ وذَكَرَ في هذه الآية ركنين أساسيين، الأول: في إصلاح النفس (إقامة الصلاة) ، والثاني: في الإحسان إلى الآخرين (إيتاءالزكاة)، وإقامة الصلاة هي أول ما يسأل عنه المرء يوم القيامة ؛ ولذلك لمّا قال الله تعالى: {وَأُولَئِكَ هُمُ المُفْلِحُونَ} [البقرة:5] أفاد الحصر أي لا فلاح في غير هؤلاء، ومن أراد الفلاح فليسلك هذا السبيل ليكون على هدى من ربه، وليس وراء ذلك أي فلاح آخر.

****

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين