ارفع الحجب؟

تستدل بضياء النهار على طلوع الشمس، وبظلام الليل على غروبها، وبنور الليل على بزوغ القمر، وبنزول الغيث على وجود السحاب في السماء، وتسمع بصوت من وراء الباب فلا ترتاب في صاحبه، وتمر بالبستان، فتنم الروائح الطيبة عن الأزهار والأوراد، ويشهد ضحك الإنسان بفرحه، وبكاؤه بكربه، ونشاطه بصحته وقوته، وفتوره بمرضه وتعبه، ويشير نمو الولد على حنو مَنْ ولد.

عجبا منك يا ابن آدم أن تقتنع بهذه الدلالات، ولا تبحث عن أسبابها، ولا تنتبه إلى جاعلها علامات وأمارات، هلاَّ سألتَ عقلك: من أبدع الشمس، وقدَّر لها الطلوع والأفول؟ ومن استحدث النهار من مشرق الشمس، والليل من مغربها؟ ومن صنع القمر، وأنار الليل ببزوغه؟ ومن خلق الأرض وجعل فيها العطش؟ ومن خلق السحاب المثقل بالماء، والرياح الحاملة له، ومن أمر السحاب بإنزال الغيث أو إمساكه؟، هداك الصوت إلى صاحبه، ولم يهدك إلى خالقهما، استنشقت الروائح الطيبة، وتمتعت بالأزهار والأوراد، ولم تتعرف على من أنعم بها عليك، أدركت الإنسان وشؤونه وأحواله، ولم تتوصل إلى ربه المدبر لتلك الشؤون والأحوال؟ أو جهلتَ ما أنت فيه من صنع ظاهر يدل على صانع لا يرى.

يا ابن آدم! من سوَّى لك عينين وأذنين، ولسانا وشفتين، ويدين ورجلين، وظهرا وبطنا؟ ومن أنشأ فيك سمعا وبصرا، وعقلا وقلبا، وحبا وكراهية، وفكرا وخيالا؟

من حبا الدهر حسنا وجمالا؟ سل الشمس السائدة للكون والقمر المنير، والكواكب والنجوم السابحات في الأجواء، واستفسر عوالم الأرض والجبال والعيون والشلالات، والأنهار والبحار والصحارى والبراري، ألسن صنائع الحكيم الخبير وآيات على قدرته وعلمه؟ وشاهدات على علوه وعظمته؟ ينطقن لك بالصدق واليقين مسبحات بجلاله وحمده، ومتغنيات بترنيمات جبروته ومجده.

يا أيتها العناصر الأربعة التراب والماء والنار والهواء! أنتن مواد الخلائق والأكوان، وأصول الجماد والنبات والحيوان، منكن البساتين والجنان، والشوك والقتاد، والفواكه والثمار، والخضراوات والبقول، وبكن تغير المناخات والفصول، والربيع والخريف، والنسيم والصبا والدبور، والمطر والبرد والثلوج، والريح والطوفان والزوابع والبراكين، فأخبرنني من أحدثكن واضعا فيكن صفات وخواص؟ من تسمعن وتطعن خاشعات له قانتات؟ ومن تثنين عليه حامدات له راهبات؟ ومن تناجينه مقدسات له ذاكرات؟ هو ربكن الذي تسجدن له وترتعدن من خشيته، رب الأرضين والسماوات، ولو أن الرياح هبت غربا، فهل من أحد غير الله يجعلها تهب شمالا؟ ومن الذي يقضي فيتم قضاؤه؟

ويا أيتها الطيور المغردة، من أين ألحانكن وأشجانكن، وطربكن وشجاكن، وصداكن ومبكاكن؟ يا أيها الملائك الشداد، أولي أجنحة مثنى وثلاث ورباع، من خلقكم، وملككم؟ ويا بني الجان الصالحين والشياطين، من تخضعون له في فرق ووجل؟ ومن تقرُّون له بالربوبية منقادين طائعين أو كارهين؟

في كل شيء نوره، وعلى كل شيء ظهوره، له البقاء، وللخلق الفناء، يفنى وتبقى أحاديث وأسماء، لا تدركه الأبصار، وهو يدرك الأبصار، أوجد الأشياء من ستر الغيب وكتمان العدم، قدرها تقديرا، ودبرها تدبيرا، عالم المتحرك والساكن، والحاكم على الظاهر والباطن، وهو الأحد الصمد الذي يفزع إليه الخلق كله، يقضي ما يشاء ويأمر ما يريد، لا راد لقضائه ولا معقب لأمره، هو الخالق، هو الرحمن الرحيم، العزيز الغفور، هو الله الذي لا إله إلا هو، لا عاد لأفضاله وكلماته، ولا محصي لآلائه وآياته.

فيا أيها الإنسان بينك وبين الحق حجب وستائر، ولن تبلغ الحق حتى ترفع تلك الحجب والستائر، وأعظمها كثافة ودرنا الدنيا وشهواتها، فلا تعشق الدنيا، وما عاشقها إلا في جهد وبلاء. والجهل حجاب، والغفلة حجاب، والسفه حجاب، والهوى حجاب، بل والعقل حجاب، والعلم حجاب، وأقبح بالعلم أن لا يوصل صاحبه إلى ربه ومولاه، وأقبح بالعلماء أن يكونوا أشباها للجهلاء.

يا أيها الإنسان زكِّ عقلك وطهِّر قلبك ينجلِ لك المطلوب انجلاء، إذ لا فرق بين الحق والباطل، ولا تفاوت بين العرش والفرش في عقل غير زاك وقلب غير باك، وإذا زكى العقل ارتقى من الدنيا إلى العقبى، وإذا بكى القلب زالت عنه الحواجز، فلا بحر ولا ساحل، ولا تباين بين اللفظ ومعناه، ولا انفصال بين المحمل وليلاه.

وتذكر نعماء الخالق عليك والآلاء، وانخلع عن اليأس وارتدِ الرجاء، واخرج من الموجود ولا تحزن على المفقود، وتولَّ عن الكبر والغرور، وأنب إلى الله حنيفا، جل ربك أحاط بالأشياء، واحد ماجد بغير خفاء، عالم السر، كاشف الضر، يعفو عن قبيح الأفعال يوم الجزاء، واذكره ذكرا كثيرا، بكرة وأصيلا، قائما وراكعا وساجدا، وفي مجلسك ومضجعك، وظاهرك وباطنك، وليغلبك جلال الله وعظمته، واجعل الخشية لباسك، واستغفر من ذنبك وسرفك، فإنك وإن كنت مستورا لخطاء، مقتحمة بك دواعي النفس معاصي وأهواء، وجاعلة بينك وبين النور ظلمات دهماء، وسارع إلى عبادة ربك والدعاء، فما على بابه من حجاب، وهو لخلقه سميع مجيب، لذ به أيها الغفول وبادر تحظ من فضله بنيل العطاء.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين