دور مدرسة الترجمة بطليطلة في نقل العلوم العربية وبالتالي في نهضة أوروبا (2/2)

طرق الترجمة في مدرسة طليطلة: 

يُلاحِظ الدارس لمدرسة الترجمة بطليطلة عدَّة طرق في نقل النصوص:

ا. الترجمة من الإغريقية: لا شكَّ أنَّ المكتبة العربيَّة التي ازدهرت في بلاد الأندلس، كانت تشمل عدة مصنَّفات إغريقيَّة، عمل حكام العرب على جلبها من مراكز مختلفة بأوروبا، وقد عمد المترجمون إلى نقل هذه الكتب إلى اللاتينيَّة، وكانت عملية الترجمة تتمُّ على النحو التالي: يقرأ المخطوط قارئ مُتخصص في قراءة النصوص القديمة، ويستمعُ إلى القارئ مُترجم يحسنُ الإغريقيَّة فيقوم بترجمتها شفاهیاً، ويتولى کاتب تسجيل الترجمة. 

وإمكانية دخول الخطأ والتحريف إلى هذه الترجمة مُتأتٍ من قارئ المخطوط، أو من السَّامع المترجم، أو من الكاتب، أو منهم جميعا. 

2- الطريقة المزدوجة: وهذه تهمُّنا مباشرة؛ لأنَّ النصوص العربية في جملتها نقلت إلى اللاتينية في مدرسة طليطلة بهذه الطريقة. وهي تقوم على اشتراك شخصين في عملية الترجمة؛ فالأول - ولا شك أنَّه يتقن العربية - يتولى نقل النص العربي إلى القشتالية، (وهي لغة شفويَّة في ذلك الوقت وليست مكتوبة) (12)، ويقوم الشخص الثاني بالنقل من القشتالية إلى اللاتينيَّة.

وهذه الطريقة هي التي اتبعها يحيى الإشبيلي (ابن داود) وقنديسلفي، فالأول كان يحسن العربيَّة ويعرف الرومانية والقشتالية، وكان الثاني يعرف اللغتين الرومانية واللاتينية، فكانت الترجمة تتمُّ على النحو التالي: عربية. قشتاليَّة. لاتينيَّة.

وهذه الطريقة هي التي اتبعها المترجمون في القرن 7 / 13 في طليطلة. فميشال سكوت Michel Scott سواء ترجم بطليطلة أو خارجها كان مُتأثِّرا بهذه الطريقة، وخاصَّة في ترجمته لمؤلفات ابن رشد، فقد استعان بعلماء يهود يعرفون العربية. لأنه كان يجهلها. 

وسار على نفس المنوال الألماني هرمان ت 671 هـ / 1272 م فقد كان يترجم إلى اللاتينية مستعيناً بوسيط يتقن العربية التي كان يجهلها. واتبع نفس الطريقة مترجمو برنس Burgos.

3- الطريقة المباشرة: وهي طريقة الناقل الشهير جيرارد دي کريمون فقد كان ينقل مباشرة من العربيَّة إلى اللاتينيَّة، ولهذا كانت أغلب مترجماته موفَّقة نسبياً. وقد قام بإعادة بعض ترجمات ابن داود. قنديسلفي لاعتقاده بوجود بعض السلبيات في ترجمة الثنائي، ولأنَّه كان يميل إلى إزالة الوسيط وهو اللغة القشتاليَّة الشفوية. وكان جيرارد ينقل في بعض الأحيان وأمامه الترجمة العربية من الأصول السريانيَّة، مع النص اليوناني الأم.

ومما امتازت به كل هذه الترجمات تقيدها في الجملة بالنص العربي أسلوباً وترکیباً. وإذا عدم المصطلح الفني أخذ المصطلح العربي. 

وعلى سبيل المثال فإنَّ مصطلح: (المُعَيَّن)، تُرجم بـ -Hel muhayn، وبنات نعش بـ Bénéna77، و أوج بــ Omoger , والمدارات بــ Almudarat، والزيج بــ Ezeig الخ..

لكن هذه الترجمة الحرفيَّة كان لها مساوئها، فعندما يَعجز المترجم عن فهم لفظ فإنَّه ينقل الكلمة كيفما اتفق تاركاً مسؤولية حلِّ الغموض للقارئ، والأخطر من ذلك هو حذف بعض الفقرات؛ فتقع الأخطاء التي لا تُقبل من الناحية العلميَّة. 

وعلى سبيل المثال نذكر مقاصد الغزالي، فقد نشر في الترجمة اللاتينيَّة دون مقدمة المؤلف، فعَدَّ اللاتين تلك الأفكار التي أراد الغزالي انتقادها آراءه الخاصَّة.

ومن المعلوم أنَّ بعض هذه الترجمات وقعت من العربية إلى العبرية ومنها إلى اللاتينية. وقد عمد بعض المترجمين اليهود إلى تعويض الآيات القرآنية في النص العربي بآيات توراتية في النص المترجم، وعوَّضوا أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم بأقوال مأخوذة من التلمود، واسم الجلالة أو النبي عُوِّض باسم موسى أو ببعض الحكماء. وأسماء الصحابة عُوِّضت بأسماء من التاريخ اليهودي. 

والأمثلة على ذلك كثيرة كما هو الحال في ترجمة تهافت التهافت لابن رشد، ومیزان العمل، والقسطاس المستقيم للغزالي.

لقد خدم اليهود الفكر العربي الإسلامي بما قاموا به من ترجمات من العربية إلى العبرية في مرحلة أولى، وما وضعوه من تأليف في مرحلة ثانية فحفظوا بذلك كثيراً من الأصول العربية. وانفردوا بترجمة الكتب الأدبيَّة واللغويَّة، وقد أهملت ترجمتها في مدرسة طليطلة وغيرها من مراكز الترجمة. وذلك لقرب لُغتهم من اللغة العربيَّة.

لكن التصرف في الترجمة الذي قام به بعضهم كان بعيداً كلَّ البعد عن الموضوعية العلميَّة؛ فقد جعل بعض المؤرِّخين المتسرِّعين من أوروبا يحكمون من خلال هذه الترجمات علی الفلسفة الإسلاميَّة حُكماً قَاسياً. فهي في نظرهم شوَّهت الفكر اليوناني ولم تفهمه. 

والحقيقة هي أنَّ الترجمة كانت دون المستوى المطلوب من حيث الأمانة العلميَّة، وهنا تقع المسؤولية على عاتق الباحثين العرب للغربلة والتصحيح، ولكن هذا المجهود وإن بذل یبقی دون جدوى إذا لم يتحصَّل الباحث النزيه على الأصل العربي.

حركة الترجمة بين الشرق والغرب:

رغم بعد المسافة بين بغداد وطليطلة، فإنَّ هناك كثيراً من نقط الاتفاق بين بيت الحكمة في عاصمة العباسيين ومدرسة الترجمة بعاصمة قشتالة، فقد عمد العرب ببغداد والغربيون بطليطلة إلى ترجمة الكتب العلمية بالدرجة الأولى، وكما تدعَّمت حركة الترجمة ببغداد بظهور مراكز أخرى في عواصم المشرق العربي وبلاد فارس، تدعَّمت حركة الترجمة في طليطلة ببروز مراكز أخرى بداية من القرن 7 هـ/ 13 م، وخاصة بلارمو Palermo التي أخذت المشعل عن مرکز سلارنو Salerno. 

ولئن وجدت نقط اتفاق، فإنَّ هناك نقط اختلاف بين بيت الحكمة ومدرسة طليطلة: النقل في بغداد كان لعلوم أعرض عنها أهلها، بينما في طليطلة كان النقل في فترة ازدهرت الحضارة العربيَّة فيها. وكان منطلق الترجمة في بغداد رسمياً علمياً، بينما كان في طليطلة منطلقه دينياً فَردیاً.

ومهما كان هذا الاختلاف بارزاً، فلا يمكن أن نغفل أنَّ في بغداد وفي طليطلة معاً نقلت عصارة الفكر الإنساني من لغة إلى لغة أخرى. وقد تضامن للقيام بهذا العمل الشريف أصحاب الديانات الثلاث: المسلمون، واليهود، والنصاری، وفي ذلك أكثر من معنى.

الخاتمة:

إنَّ التأريخ لمدرسة طليطلة في الترجمة هو مساهمة لإبراز نصيب الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة في التراث العلمي المشترك للإنسانيَّة جمعاء، كما يهدف أيضا إلى إصلاح کثير من الأخطاء ارتكبت عن قصد أو عن غير قصد في حق المجهود الجبار الذي قام به العرب طيلة حوالي ستة قرون. 

ومن هذه الأخطاء ما يدلُّ على جهل كبير: فهناك في أوروبا ما بين القرن 7 هـ /13م والقرن 9 هـ / 15 م. من يعتقد أنَّ أرسطو إسباني، وأنَّ ابن سينا هو ملك قرطبة.

وأخطر هذه الأخطاء في حقِّ تاريخ العلوم في السطو على مجهودات الغير، بأن يقوم المترجم بنسبة الكتاب إليه أو لغيره من علماء مِلَّته. وقسطنطين الإفريقي على جلالته مشهور بهذه النقيصة. 

ونجد كذلك ميشال سكونت يؤلف كتابا بعنوان: Quacstiones جمع فيه آراء البطروجي وابن رشد، وينسبه إلى نيكولاوس دامستوس شارح أرسطو في القرن 1م. 

ومن المؤسف أن استمرَّ هذا الخطأ إلى اليوم!. 

كما أنَّ كتاب: (الأحجار)، لابن سینا نسبوه إلى أرسلو. ونسبوا كتاب: (العين)، لحنين بن إسحاق إلى جالینوس. وكتاب الماليخولیا لإسحاق بن عمران إلى روفوس الخ...

وهذا ما جعل ابن عبدون الأندلسي يحذِّر من بيع الكتب العلميَّة للنصارى واليهود، لأنَّهم في نظر هذا المحتسب سيترجمونها وينسبونها إلى علماء مِلَّتِهم.

ومن الأخطاء التي يجب إصلاحها وخاصَّة في الموسوعات العلميَّة المنتشرة اليوم، هو إعادة نسبة الاكتشافات العلميَّة إلى أصحابها الحقيقين. فكثير من هذه الاكتشافات في الطبِّ والفلك والمناظر وعلم المثلثات تُنسب خطأً إلى علماء من أوروبا، بينما المكتشف الحقيقي لها هو عربي عاش قبل الأوروبي بعِدَّة قرون.

ولئن غمط هذا الانتحال وتلك الأخطاء حقَّ بعض العلماء المسلمين في تبوُّء المكانة المرموقة التي يستحقونها عن جدارة في تاريخ العلوم، فإنَّ هناك حقيقة لا يشك فيها إلا حاقد أو مُتعصِّب هي أنَّ: هذه الترجمات قَدَّمت للغرب - زيادةً على المادة العلميَّة - منهجيةَ البحث العلمي، كما رسمه وضبطه وطبَّقه العلماء المسلمون، فوصلوا إلى نتائج أبهرت أوروبا في القرون الوسطى. 

إنَّ المسلمين مهَّدوا لأوروبا الطريق الموصل ومكنوها من الوسيلة الناجعة والأداة الطيعة بضبط منهجية علميَّة: قَوامها العقل الجامع بطموحه، والضَّمير الكابح بإنسانيَّتِه.

===

المراجع العربية مُرتَّبة حسب أهميتها لهذا البحث:

1 - ا.د. محمد سويسي: انتقال العلوم العربية والحضارة الإسلامية إلى الغرب بيت الحكمة. تونس 1985.

2. أحمد شحلان: دور اللغة العبريّة في النقل بين الثقافتين العربية واللاتينية (ندوات أكاديمية المملكة العربية المغربية). أكادير سفر 12 نوفمبر 1985. ص ص 28-257

3 - فؤاد سزكين: نقل الفكر العربي إلى أوروبا اللاتينية (المرجع السابق ص 297-285). 

4. توفيق الطويل: في تراثنا العربي الإسلامي. مجلة (عالم المعرفة عدد 87 مارس 1985. مطبعة الرسالة. الكويت 253 ص). 

5 - زکریا هاشم زكريا: فضل الحضارة الإسلاميَّة والعربيَّة على العالم. دار نهضة مصر للطبع والنشر، الفجالة، القاهرة 1970.

6- محمود الصغيري: قضايا في التراث العلمي العربي - مطبعة الكاتب العربي. دمشق 1981.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: مجلة: دراسات أندلسیة، عدد رجب 1414 - الجزء 11

******* 

الحواشي:

(12) لهذا لا فائدة من التفتيش عن النص الوسيط، أي: النص القشتالي.

الجزء الأول من المقال هـــنا

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين