إني نذرت لك ما في بطني!

 

 

 

الناس همم وقدرات، وعزائم ونوايا: فمنهم من همته في السحاب - بل فوق السحاب - ومنهم من همته في الوحل والشقوق ومصارف المجاري، مع الهوام والحشرات المستقذرة..

منهم من قلبه معلق بالملأ الأعلى.. وبرب السماء والأرض، والمساجد، وحلق العلم..

ومنهم من قلبه معلق بالمراقص والمساخر، والملاعب والسفاسف، والمهاوي والمخازي.. فهو يدمنها، ويتتبعها، ويفتش عنها، ولا يبالي أن يدفع عمره وماله وهمته وراء ساعة لهو، أو لمسة محرمة، أو كأس زفت، أو استباحة أنثى هَلوكٍ شقية!

منهم من يربي أبناءه ليكونوا رؤوسًا في الخير والفلاح..

ومن يستنفر قواهم ليكونوا أساتذة في (الهلس) والتفاهة والاستحمار و(الهيافة)!

وبالمثال يتضح المقال:

• في التاريخ رجل عجيب.. لم أجد له مثيلًا (صلى الله عليه وعلى نبينا وسلم تسليمًا كثيرًا) كان حريصًا أن يكون أبناؤه بصمات على وجه الإنسانية.. ومنارات في ظلمات الجاهلية، فدعا الكريم المجيب أن يبارك في ذريته، التي تفرعت فرعين كريمين، من أرومة نجيبة مجيدة أصيلة:

فأما الفرع الأكبر والأول فالنبعة التي خرج منها محمد صلى الله عليه وسلم، الذي يرجع إلى إسماعيل بن إبراهيم عليهم صلوات الله وسلامه.

وأما الفرع الثاني فخرجت منه سلسلة مباركة أثمرت إسحق ويعقوب ويوسف وغيرهم من أنبياء بني إسرائيل!

قارن أخي/ أختي معي واعجبا: رجل يخرج من نسله سيد الأولين والآخرين، والكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، ويجيب الله تعالى دعاءه في مكة، بالبركة وفي الذرية..

واسأل أحد المعاصرين عن أمانيه في مستقبل أبنائه.. تر عجبًا من العجب:

فإن كان المسؤول واحدًا من أولاء المساكين، المفتونين المغرورين، أراد بناته أن يكنّ بين مضيفة ومذيعة، وفنانة وراقصة، وصحفية وسيناريست، و(مخرجة) ومانيكان.

وإن كان أكثر عقلًا أرادها طبيبة مسالك، ومهندسة مبانٍ.. أو شرطية وسيدة أعمال!

أما أبناؤه فحبذا لو كان أحدهم فنانًا، أو لاعب كرة، تاجرًا، أو مستثمرًا، نجمًا أو شبه نجم!

وأما دينه/ ربه/ أخلاقه/ آخرته.. ف (بلاش تحبّكها) لأنه متأكد جدًّا أن (قلبه أبيض وزي الفل) وأن الدين يسر، وأن عنده من العمل الصالح ما يكفيه ليدخل الجنة من أي أبوابها شاء، بعيدًا عن دروس الأخلاق والنصائح والقيم والمكارم! (ويوم القيامة تُفرج) و (عيّشني النهاردة وموّتني بكرة)!

ويخرج الابن (خبّاصًا هجّاصًا) حشاشًا، مرابيًا مراوغًا، مطعمه حرام، وملبسه حرام، وغذي بالحرام.. و... وإيه يعني؟!

• نموذج عجيب آخر من النساء.. امرأة همتها في السماء.. محبة لرب الأرض والسماء.. حملت فلم تتمنّ ما تتمنى التافهات.. بل وجهت همتها نحو معالي الأمنيات.. وقالتها صريحة: لا أريدها فنانة.. ولا راقصة معبد.. ولا مستعرضة للحمها كالـ(مستنيرات) المتحدرات.. بل أريدها عفيفة ستيرة.. مؤمنة مخبتة. هي لك يا ربي: موقوفة منذورة لخدمة دينك ومعبدك، والقيام بما أمرتَ به، والانتهاء عما نهيتَ عنه، حِلس محراب، وحليفة دعاء، ونضو قيام وصيام.

ولم يخيب الله تعالى رجاءها.. ولم يرد نذرها (فتقبلها ربها بقبول حسن، وأنبتها نباتًا حسنًا) فخرجت البنت عفيفة طاهرة، بتولًا متبتلة، حصانًا رزانًا.. لتصل إلى أعلى مرتقىً عبادي يرقى إليه الآدمي بكسبه.. أعلى الدرجات على الإطلاق: درجة الصديقية.. وهي درجة نادرة.. لم تصل إلبها - في التاريخ بطوله – من النساء إلا قليلات من ذوات الهمة.. مثل الصديقة الصبور آسية بنت مزاحم، وأمي الصديقة الثابتة خديجة بنت خويلد، وأمي الصديقة عائشة المبرأة، والصديقة الزهراء النبوية بنت رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ورضي الله عنهن جميعًا..

ليس هذا فقط: بل لتنجب - بعد - واحدًا من أعظم من عرفت البشرية على الإطلاق.. ولتخرج للدنيا رجلًا من أعظم خمسة في التاريخ – أولي العزم – هو الكريم العظيم الموحد، نبي الله عيسى ابن مريم، عليهما السلام..

هل امرأة عمران هذه امرأة عادية؟ وهل أنجبت امرأة عادية.. مثل أولئك التافهات المشغولات بآخر صرعات الموضة، وتسريحات الشعر، وألوان ظلال الجفون الشيطانية، ومعرفة الفروق الدقيقة في الخطوة والحركة بين رقصات الفالس والتشا تشا والكاريوكا، واختلاف درجات هز البطن في الفلامنكو وأسلوب هزي يا نواعم التي تمارسها (الأسطى نفيسة العالمة)!

يأيها الشاب.. هب أبناءك لله تعالى.. واسعَ أن يكونوا رؤوسًا في الخير، نماذج للهمم العالية، والبركات الجارية.. والبعد عن السفاسف والدنايا والمخازي!

يأيتها الشابة.. يأيتها العروس.. يأيتها الحامل: يأيتها الأم:

• لم لا تنوين مثلما نوت امرأة عمران، وتنذرين ما نذرت؟

• لم لا تقولين مثلما قالت هند بنت عتبة عن ابنها: ثكلْته إن لم يسد العرب والعجم جميعًا؟ وصحت فراستها في ولدها.. رضي الله عنهما..

• لم لا تفعلين ما فعلت أم الغلام اليتيم محمد بن إدريس الذي ملأ طباق الأرض علمًا بعد ذلك باسم الشافعي؟

• لم لا تفعلين ما فعلت زوج فروخ أم الإمام ربيعة ابن أبي عبد الرحمن.. التي صبرت على الوحدة.. وفرّغت همتها؛ لتخرج للدنيا معلم الأئمة، وربيع العلم، ومفرّخ الجهابذة..

• لماذا لا تنذرين ما في بطنك مجاهدًا أو عالمًا أو داعية أو عابدًا، كما فعلت الموفقات!

هل ستقولين ما قالت المرأة الصالحة: إني نذرت لك ما في بطني محررا فتقبل مني..

لعلك تكونين أمًّا لشيخ من شيوخ الإسلام؟

هل تفعلين؟ افعلي.. ولا تنسي أخاك من الدعاء.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين