من آثار الاستعمار القديم الاحتلال الإيراني للبنان

الاستعمار: 

لقد تعرضتْ بلادنا العربية لحملات استعماريّة عِدّة، سيطرتْ على البلاد، ونهبَتْ خيراتها، وقيدتْ حرياتها، ونشرتْ ثقافتها عنوة، وفرضتْ سياستها، ثمّ تولّتْ مُنهزمة بصمود أبناء تلك البلاد، التي لم تبخل في الدفاع عن أوطانها ولم تُقصّر في استرداد حقوقها، فأجْلَتْ جحافلَ الاستعمار من حياتها، لتحتفل أوطاننا بعد تلك الحقبة المريرة بذلك اليوم الجميل المسمى "عيد الاستقلال". 

الاستقلال الزائف:

نعم لقد استقلّتْ بلادنا من نِير الغزاة ومظاهره الظالمة، فهل نستطيع الجزم أنّها قد طَهُرت منه تمامًا؟ يقول الأطباء: إنّ الأمراض عندما تغادر جسم المريض فأعراضها الظاهرة تزول مُوهِمة بأنّ الجسم قد شُفي، فيظنّ المريضُ أنّه قد تماثّل للشفاء، ولكنّ الحقيقة غير ذلك، فآثار المرض الداخلية الخفيّة لم تترك البدن، فهي مازالتْ متغلغلة فيه، تحاول التغلب على جرعات الدواء، فضربات العلاج للخلايا المريضة لا تقض عليها مباشرة، ففي البداية تُثبّطها وتُوقفُ نشاطَها وتكاثرَها، فإن استمر الدواء مُنتظمًا تَهالك المرض وقُضي عليه، فعلى المريض ألّا يغتر بمعالم الشفاء الكاذبة، بل عليه متابعة الدواء ولا يمتنع عنه إلا بأمر الطبيب المشرف. 

وهكذا الاستعمار أيضًا يُشبه أمراض الجسم إلى حدّ كبير، فالاستقلال هو الجلاء الظاهر، والحق أنّ الاستعمار لا يخرج من مكان احتلّه دون أن يترك أثرًا خفيًّا له، وخليفة قائمًا بأعماله، ووكيلًا عنه يعمل بأمره ويحكم بسلطانه، ويتمّ كلّ ذلك باستغفال الشعوب واستغبائها، وهذا ما نراه جَليًا في جميع بلادنا العربية التي نالَتْ استقلالها، فحكّام بلادنا لا يَملكون أدنى سلطة أو سيادة على أوطانهم وشعوبهم وقراراتهم.

ومن بعض آثار تلك الاستعمارات على دولنا العربية، زرع ثقافة المحتل ولغته قبل خروجه منها، كالذي جرى في بلاد المغرب العربي على يد فرنسا وإيطاليا، وفرض دستور الاحتلال وقانونه كما في سورية على يد الفرنسيين، وفرض الثقافة واللغة البريطانية كما في فلسطين والأردن، إضافة إلى زرعها الكيان الصهيوني في قلب فلسطين، وإقرار الدستور السيادي التقسيمي على لبنان كما فعل المستعمر الفرنسي. 

الإرث البريطاني والفرنسي:

عندما خرجت بريطانيا من فلسطين، أرادتْ أن تتركَ وراءها عاقبة تُذكر بها عبر التاريخ، وليكون بعد ذلك بلاء للمسلمين وللعرب، فقد عمِلتْ جاهدة في زرع سرطان خبيث في قلب الأمّة الإسلامية والعربية وهو الكيان الصهيوني، الذي بدوره نما وتطور بعون الدول الاستعمارية العالمية، ونوم وغفلة الدول الإسلامية والعربية، ليتحول فيما بعد إلى قوّة ضاربة، تقوم اليوم بشرعنة وجوده كأنّه صاحب حق، أمّا الحقيقة الغير خافية على أحد أنّه كيان غاصب ومحتل أثيم.

أمّا فرنسا ففي سياستها الخبيثة الشبيهة بسياسة بريطانيا عقب احتلالها لبنان، فقد سنّتْ نظامًا لا يُمكن لأيّ شُورى أو مجلس أُمّة أو صندوق اقتراع أو ديمقراطية أن تجد له صِرفة، فقد قسّمتْ لبنان إلى طوائف، وأجبرتهم على توقيع اتفاق بينهم في قسمة مفاصل الحكم في الدولة، دون إعطاء أيّ اعتبار للأكثرية، فهو قانون مُقدّس وغير قابل للتغيير بالنسبة لفرنسا، واليوم يقدّسه بعض اللبنانيين، وقد أشركتْ في الحكم كلًا من المسلمين والمسيحين مُناصفة، دون أن يستفرد به أحدهما، على الرغم من مغايرته لإرادة الشعب. وبمّا أنّ المسلمين اللبنانيين أكثرية قامتْ فرنسا بتقسيمهم إلى فئتين سنّة وشيعة تأكيدًا على تعميق الخلاف، وبثّ النزعة الطائفية، إلى أن نالتْ ما تريد في اتفاق الطائف، الذي أقرّ بإعطاء: 

أ‌) المسيحيين (المارون) منصب رئيس الجمهورية، ومنصب وزارة الدفاع.

ب‌) الشيعة كرسي رئاسة مجلس النواب. 

ت‌) السنّة كرسي رئاسة مجلس الوزراء. 

وبهذا التقسيم الُمدبَر ضمنتْ فرنسا ألّا تقوم قائمة للبنان وأهله، وأن تبقى حروبه الطائفية والأهليّة باقيّة بلا نهاية.

حزب الله اللبناني: 

لقد نَمَتْ الطائفة الشيعية في لبنان نُموًّا سريعًا لرغبة المستعمر القديم والجديد في ذلك (القديم فرنسا، والجديد إيران)، ما لبثتْ أن تحولتْ من مجتمع مدني شعبي إلى مشروع سياسي عسكري مدعوم من الخارج، فأسسوا حزبًا يدّعي بمقاومة إسرائيل أسموه "حزب الله". وهنا بدأ خطر التمرد الشيعي (المتطرف) بالتمدد والاستفحال، وزاد من تفاقمه: 

- امتطاء الحزب كِذبة المقاومة ضدّ إسرائيل. 

- انطلاء هذه الخدعة على بعض العرب من أهل السنّة، فقدموا الدعم للحزب وصدّقوا دَجَلَه بأنّه مشروع مقاومة.

- دعم الحزب للمقاومة الفلسطينية التي اضطرت لقبوله كداعم، لغياب الداعمين لها من أهل السنّة والعرب.

- الدعم الإيراني الكبير الغير محدود لحزب الله، والقواسم المشتركة بينهما مذهبيًا وعقديًا وسياسيًا ومصيريًّا. 

- قيام الثورة الإيرانية 1979، وتصديرها إلى الدول المجاورة، أو بمعنى أوضح ركوب الشيعة موجة الثورة الإيرانية.

- عَون النظام السوري لهذه الطائفة دون غيرها، ومشاركته لفكرة المقاومة المزعومة. 

- اجتياح إسرائيل للبنان 1982، واستغلال الحزب لهذه الفرصة لتسليح حزبه وتشكيل ميليشيات.

- ضعف المشروع السنّي لمواجهة خطر التمدد الشيعي.

- وضع لبنان المتحزب المتشعب، ونشوب الحروب الأهليّة. 

- تدخّل جيش النظام السوري في لبنان إبّان الحرب الأهليّة.

- غليان المنطقة بأكملها لاسيما حدود لبنان مع فلسطين المحتلة.

كل ما ذكرنا ساعد في ظهور ورم الخطر الشيعي (المتطرف) في لبنان واستفحاله. 

الاحتلال الإيراني:

مازالت آثار الاستعمار باقية في بلادنا، كتلك العواصم التي نرى سيادتها على شعبها في تلفازها الرسمي وجرائدها اليوميّة، وفي فروعها الأمنيّة فقط، إضافة إلى ظلمها واستعبادها لمواطنيها، أمّا قرارها فَمُصادر ومُعتقل من قِبل أنظمة الاستعمار البائد، ومن تلك الأنظمة النظام الإيراني بمشروعه السرطاني الحاقد في أوطاننا، الذي تسرّبت خلاياه إلى جميع مفاصل بعض دُولنا العربية، وأخذ يتغلغل فيها ليُمّسك بجميع الخيوط القياديّة، وما تلك الوجوه والصور التي تدّعي السيادة الوطنية إلا شاخصات ودُمى منزوعة الإرادة والاختيار. 

لقد استطاعتْ إيران التسلل إلى بلادنا من خلال مبدأ "تَمسكنَ حتى تَمكّنَ" أي: (أظهر المسكنة والسكينة حتى تمكّنتْ قدماه وقوي عظمه) وهذا المبدأ مرتبط بالتقية التي تنتهجها إيران، فهي قابلة لتغير وجهها ومواقفها حسب الجو الملائم له، فأخفت أطماعها الاستعمارية الطائفية حتى قويت شوكتها ودان لها الأمر. 

سياسة وأطماع إيران:

إنّ ما يسعى إليه المشروع الإيراني لا ينحصر في التحكم بدولنا العربية فحسب، بل غايته أكبر من ذلك، فهو يعمل على تدمير أمصارنا بشكل شامل، والتدمير الأهمّ هو هدم التدين والفكر والثقافة والحضارة، والمضيّ نحو حُلمه في إنشاء امبراطورية صفويّة فارسيّة، والسيطرة على البلاد التي يتحكم بها، ولا أظنّه يعتمد على سلاح التشيّع بقدر ما يعتمد على إخراج الشعوب من أديانها وتراثها إلى الضياع والفراغ، ثمّ اختراق فكرها وتسميمه، وإزالة ثقافتها وتشويهها، وزرع ثقافة جديدة ملائمة لمخططهم، فتلك هي اللبِنات الأساسية في إنشاء إمبراطوريتهم التي يدّعونها.

أمّا الآن فكثير من المسلمين في بعض الدول التي تسيطر عليها إيران وطفلها المدلل حزب الله، مازالت تعيش في وَهْم كبير، وفي كِذبة مَمجوجة أطلقتها إيران في عداوتها لإسرائيل وأمريكا، ودفاعها عن القدس، فبهذه الشعارات الرنّانة تقتل أهل سورية وتُدمّر بلادهم، وتدّعم المجرم الأسد، وتقتل أهل العراق واليمن بحجّة محاربة الإرهاب، وتكيد بجميع البلاد العربية وتنفث سمومها، وبعد كلّ ذلك تصدح بشعارها الكاذب: الموت لأمريكا الموت لإسرائيل. 

تأثير حزب الله على الشعب اللبناني:

إنّ لبنان بشعبه الطيّب قد تأثّر إلى حدّ كبير بسياسة "حزب الله" وتعايش معها (ليس كلّ الشعب اللبناني)، فتحوّل من ناقد فَعّال للحزب وسلبياته إلى مُدافع عن فساده وفشله وتسلّطه الذي دَمّر لبنان وأنزله إلى الحضيض، ولا يتوانى في تدمير شعوب الجوار أيضًا. فأين الشعب اللبناني من تصرفات إيران والحزب في لبنان؟ وأين هو من سيطرة الفكر الإيراني على السلطة والمجتمع والثقافة اللبنانية؟ وأين هو من نقمة جميع الشعوب الإسلامية والعربية على لبنان وأهله بسبب هذا الحزب؟

هل استطاع حزب الله تسميم فكر الشعب اللبناني؟

لقد قَبِل الشعب اللبناني بتصرفات الحزب بعد أن فرض الأخير نفسه عليه بالقوّة، حتى بات أقوى من الدولة، فحوّل لبنان إلى بُؤرة طائفية، ولسان حاله يقول: إمّا أنا أو الطوفان. فلا استقرار في لبنان إلا أن يقبل المواطن اللبناني بحزب الله، فقَبِل به على مضض ولم يرضه، ويعود رُضوخ الشعب أيضًا إلى الضخّ الإيراني الهائل والدعم السوري، فهما لاعبان مهمّان في المنطقة. ثمّ من الطبيعي أنّ المسيطر يفرض ثقافته على كل المجتمع، وتجلّت سيطرة الحزب على لبنان في إبقاء لبنان بلا رئيس لفترة ليستْ بالقصيرة، إلى أن تولّى الرئاسة "ميشيل عون" الداعم لفكر إيران والحزب والنظام السوري. 

لقد تحولتْ شعوبنا العربية من مُتعاطف مع سياسة المقاومة في مسرحية "حرب إسرائيل مع حزب الله" في 2006، إلى ناقم كاره لإيران وحزبها، عقب احتلال إيران لثلاث دول عربية اليمن والعراق وسورية، والتدخلات الإيرانية في الجزائر وبعض بلاد المغرب العربي، وبلاد الخليج العربي، والصمت الدولي عن إيران وسياستها، وكلّ ذلك إنّما يدلّ على أنّ المجتمع الدولي راضٍ عن سياسات إيران، وأنّ عداء إيران للغرب ولإسرائيل معزوفة قديمة ومهترئة لم تعد تنطلي على أحد. 

كيف استطاع حزب الله تغيير وتسيس الشعب اللبناني؟

إنّ الشعب اللبناني المضياف الذي استقبل أمس جيرانه السوريين الهاربين من سلاح إيران وحزب الله وبراميل بشار، يُبدّل موقفه اليوم رافعًا صوته بطرد السوريين وتسليمهم لقاتلهم، وهذا الموقف المفاجئ إمّا أنّه مجبور عليه (ولا أظنّ أنّ اللبنانيين يُجبرون على فعلٍ ما)، وإمّا أنّهم جازمين بعدائهم للاجئ السوري الضعيف، وكِلا الموقفين مَذمّة لأهل لبنان الأوفياء. 

ولكنّ الجواب الشافي أنّ "حزب الله" هو من يقوم بالإيقاع والفتنة بين اللبنانيين واللاجئين السوريين، عن طريق: 

 شيطنة الحزب للاجئ السوري بتشويه صورته عبر الإعلام.

 التكلم باسم المواطن اللبناني الشريف ونيابة عنه. 

 تحريض اللبنانيين على رفض الوجود السوري.

 الإساءة إلى اللاجئ السوري بكلّ أنواع الانتهاكات الإنسانية، ونسب هذه الجرائم إلى اللبنانيين عموماً، وقد انتشرت فيديوهات كثيرة تدل على حقدهم. 

فائدة الحزب من طرد اللاجئ السوري، وتسليمه لجلّاده وظالمه، فهي: 

1. التخلّص من السوريين الذين يشكلون معارضة للحزب وإيران في لبنان وسورية.

2. تحسيّن صورة النظام السوري بأنّ شعبه يعود لحضنه.

3. كسب جنود جدد يقاتلون إلى جانب المجرم من العائدين. 

4. التخلص ممّن لهم سوابق ضد النظام في بداية الثورة بسجنهم ثمّ تصفيتهم.

5. ابتزاز العائدين بنهب أموالهم ليفتدوا أرواحهم.

فالمنتظر اليوم من الشعب اللبناني أن يستيقظ من خدره وغفلته، ليكون عونًا لأمّته الإسلامية والعربية في محاربة الظلم، وإعلاء كلمة الحق، والأخذ على يد الظالم ونُصرة المظلوم، وليأخذ الريادة في كسر شوكة هذا الحزب، الذي حوّل لبنان إلى بؤرة ممزوجة بالفساد والظلم والفوضى، فمن الحماقة مسايرة من لا رجاء في بُرئهم، فبيّضوا صفحاتكم أيّها الأخوة، وكفاكم تصديق كاذب يزيف ماضيكم، ويشوه حاضركم، ويكيد بمستقبلكم، فحزب الله أداة في يد نظام طائفي مجرم، يريد إخراجكم من أمجادكم ودينكم وقوميتكم، ليزرع مكانكم قومًا آخرين بِدِين وفكر وثقافة جديدة مؤيدة للفكر الإيراني الطائفي، ولا تصدّقوا أيّ عداء يشوب العلاقة الإيرانية الصهيونية الحميمة. 

وهكذا نرى مُمارسات الاحتلال الإيراني وأطماعه في لبنان وآثارها عليه وعلى جوارها، وكيف أنّها غيرتْ الكثير من ثوابت اللبنانيين العربية الإسلامية كالثقافة والفكر والعاطفة والرابطة الأخوية والقومية بفعل سياسة المحتل، وهذا ما تسعى إليه إيران بحربة حزب الله، وخنجر النظام السوري، وبعض الحمقى من العرب والمسلمين الذين تأثّروا بهذه الأيديولوجية الماكرة وصدقوها.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين