المحروم الخيرَ... نعوذ بالله أن نكونه

 

في تفسير قوله تعالى في سورة الروم : {مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44)} ، ذكر العلماء أن التمهيد الذي يقوم به الصالحون هو ما يتعلق بمقامهم في قبرهم وثوائهم في أجداثهم بانتظار يوم العرض الأكبر، يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم .

ولا ريب أنَّ ما يمهد به الإنسان قبرَه هو كل عمل صالح ينفعه وتفيد منه البشرية ولا تتضرر منه بسببه ، ومما يأتي في مقدمة ذلك ويوفر له نومة هانئة الوصيةُ ... التوضيح الكامل والتبيين الدقيق لكل الحقوق والواجبات المالية التي تتعلق بذمته ...ممَّا يجب على ورثته أن يؤدوها بعد وفاته ... فإذا فعل ذلك ووصّى وبيّن ووضّح فقد استبرأ لدينه وعرضه، وأسعد روحه وأرضى ربه وأراح ورثته ...

أراح ورثته ؟ كيف ؟ كيف يريح الإنسان الموصي ورثته ؟ نعم ... يريحهم حين يشرح لهم في ورقة مكتوبة... أو رسالة نصية... معروفٌ مكانها ومحددٌ زمانها.. ما بذمته للغير، وما له بذمة الغير من حقوق ، وما هي الجهات التي يرغب أن تستفيد من ثلث ماله بعد وفاته وإبّان قضاء ديونه ...

ويوم تكون لدى الورثة بينة بذلك ... وورقة يعتمدونها خارطة طريق لتبرئة ذمَّته، وجمع المال الذي له عند الغير، والذي صار اليوم حقاً لهم، ولهم فيه نصيب مفروض ... فإن ذلك يورثهم طمأنينة ويعقبهم راحة ويكفيهم مؤونة اللجوء إلى المحالكم أواستدعاء تدخل العلماء أو الفقهاء أو الحكماء لإرضاء الأطراف المتصارعة على المال المتاح .

بعض الناس يموت ، ولكنه يغفل أمر الوصية ويتجاهل ندب الشرع إليها – هذا على القول بأنها سنة ، فثمة من العلماء من يقول بوجوبها لقوله تعالى في سورة البقرة : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ ۖ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181)} - فتقوم القيامة من بعده ... فتنقطع أرحام، وتتدابر نفوس، وتضيع حقوق، وتتشتَّت أُسَر...ويتَّهم الأخ أخاه بتهمة الاستيلاء على الميراث ، ويقصي الرجل أخته أو أخاه من أبيه بدعوى أن لا ورقة تثبت زواج أبيه من أخرى، ويمنع الرجلُ الوارث الدائن حقه لأنْ لا وثيقة تركها أبوه تثبت صحة دعواه ... وهكذا تظهر قضايا وتطفو مشاكل على السطح ... ما كان أغنى الميت وورثته عنها لو كان ثمة بينة ... فلا غرو بعد هذا ومن أجل ذاك وغيره أن يؤكد النبي صلى الله عليه وسلم على سنيتها بقوله : ما حق امرئ مسلم له شيء يريد أن يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده، رواه الشيخان،

قال عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال ذلك إلا وعندي وصيتي.

كان شيخنا العلامة محمد نبيه سالم – أمتع الله بطول حياته - يقول لنا : إنني أؤكد على أبنائي في قضية الوصية ، وأعلمهم وأدربهم على كتابتها - حتى الصغار منهم - ، وأنبههم إلى ضرورة تعديلها بين الفترة والأخرى ، حرصاً على بقاء هذه السنة في حياتهم وحضورها في أذهانهم وعقولهم .

وقال أيضاً عليه الصلاة والسلام : من مات على وصية مات على سبيل وسنة، ومات على تقى وشهادة، ومات مغفوراً له. رواه ابن ماجه.

قال أنس بن مالك : كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فجاءه رجل ، فقال : يا رسول الله مات فلان . قال : " أليس كان معنا آنفاً ؟ " . قالوا : بلى . قال : " سبحان الله كأنها إخذة على غضب . المحروم من حرم وصيته " ، رواه أبو يعلى بإسناد حسن.

وقد نعى الله تعالى على الكافرين أموراً عدة ، كان من بينها أن نفخ الصور إن وقع أذهل أهل العقول عن عقولهم ، فلا يفعلون أهم شيء في حياة الإنسان ألا وهي الوصية في أموالهم ، قال سبحانه في سورة يس : فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَىٰ أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ، فإلى هذه الدرجة تكتسي الوصية أهمية بالغة .

أيها الإخوة الأماثل :

إن الإنسان إذا مات كان أحوج الناس إلى الحسنات وأفقرهم إلى الخيرات ، وقد جعل الله عز وجل في الوصية باباً لتدارك ما فرط به الإنسان في حياته من غفلة عن فعل الخير ، وفي ذلك يقول عليه الصلاة والسلام : ((إِنَّ اللَّهَ تَصَدَّقَ عَلَيْكُمْ بِثُلُثِ أَمْوَالِكُمْ عِنْدَ وَفَاتِكُمْ؛ زِيَادَةً فِي حَسَنَاتِكُمْ)). رواهُ الدَّارَقُطْنِيُّ.

وإن البعض يتردد في كتابة وصيته لأنه يقرن بينها وبين الموت ، ويظن أنه إذا وصى أو كتب وصيته فإنه سيموت عقبها مباشرة ، فكتابة الوصية لا تقدم أجلاً، ولا تركها يزيد في العمر .

ولربما سأل سائل منا : إذا كان المرء فقيراً ، ولا يوجد ما يوصي به من مال أو نعمة ، فهل تسن في حقه الوصية ؟

والجواب : نعم ... إن في الوصية بالتقوى والخوف من الله تعالى مندوحة عن ترك الوصية ، وقد أوصى إبراهيم بنيه ويعقوب فقالا : {يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ (132)}.

ألا ما أجملها من وصية ... وشتان بينها وبين وصية أبي محجن الثقفي إذ يقول :

إذا مت فادفني إلى جنب كرمة * تروي عظامي بعد موتي عروقها

ولا تدفنني بالفلاة فإنني * أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها

فاحرصوا يا عباد الله على الوصيَّة ، وأحصوا ما لكم وما عليكم ... ولا تغفلوا عن إبراء الذمم ... والله المستعان .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين