فقه السيرة (58) ســـــرية مؤتــــة (8هـ)

 

أسبابها وتاريخها 

أشعل عرب الشام فتيل الصراع بين المسلمين والبيزنطيين، فقد دأبت قبيلة كلب من قضاعة التي كانت تنزل على دومة الجندل على مضايقة المسلمين، وحاولت أن تفرض عليهم نوعًا من الحصار الاقتصادي عن طريق إيذائها للتجار الذين كانوا يحملون السلع الضرورية من الشام إلى المدينة، ولذلك غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبيلة كلب بدومة الجندل سنة (5هـ) لكنه وجدهم قد تفرقوا ، كما أن رجالاً من جذام ولخم قطعوا الطريق على دحية بن خليفة الكلبي عند مروره بحسمى بعد إنجازه لمهمة أناطها به رسول الله صلى الله عليه وسلم واستلبوا كل ما معه، فكانت سرية زيد بن حارثة إلى حسمى في سنة 6هـ ، ويضاف إلى ذلك أيضا ما قامت به قبيلتا مذحج وقضاعة من اعتداء على زيد بن حارثة وصحبه في العام المذكور (6هـ) ، وذلك عندما ذهبوا إلى وادي القرى في بعثة بغرض الدعوة إلى الله، وبعد صلح الحديبية أخذ هذا المسلك العدواني يأخذ منحنى أكثر خطورة بعد مقتل الحارث بن عمير الأزدي رسول رسول الله إلى حاكم (بصرى) التابع لحاكم الروم، فقد قام شرحبيل بن عمرو الغساني بضرب عنق رسول رسول الله ، ولم تجر العادة بقتل الرسل والسفراء، كما أن الحارث بن أبي شمر الغساني حاكم دمشق أساء استقبال مبعوث رسول الله وهدد بإعلان الحرب على المدينة، ثم حدث بعد ذلك بما يزيد قليلاً عن العام أن بعث رسول الله سرية بقيادة عمرو بن كعب الغفاري ليدعو إلى الإسلام في مكان يقال له (ذات أطلاح) فلم يستجب أهل المنطقة إلى الإسلام وأحاطوا بالدعاة من كل مكان وقاتلوهم حتى قتلوهم جميعًا إلا أميرهم كان جريحًا فتحامل على جرحه حتى وصل إلى المدينة فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد قام نصارى الشام بزعامة الإمبراطورية الرومانية بالاعتداءات على من يعتنق الإسلام أو يفكر بذلك، فقد قتلوا والي مَعَانَ حين أسلم، وقتل والي الشام من أسلم من عرب الشام. 

كانت هذه الأحداث المؤلمة وبخاصة مقتل سفير رسول الله الحارث بن عمير الأزدي، محركة لنفوس المسلمين، وباعثًا ليضعوا حدًّا لهذه التصرفات النصرانية العدوانية، ويثأروا لإخوانهم في العقيدة الذين سُفكت دماؤهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ونبينا محمد رسول الله ، كما أن تأديب عرب الشام التابعين للدولة الرومانية والذين دأبوا على استفزاز المسلمين وتحديهم وارتكاب الجرائم ضد دعاتهم أصبح هدفًا مهمًّا، لأن تحقيق هذا الهدف معناه فرض هيبة الدولة الإسلامية في تلك المناطق بحيث لا تتكرر مثل هذه الجرائم في المستقب ، ,وبحيث يأمن الدعاة المسلمون على أنفسهم ويأمن التجار المترددون بين الشام والمدينة من كل أذى يحول دون وصول السلع الضرورية إلى المدينة. 

وفي سنة 8هـ أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهز للقتال، فاستجابوا للأمر النبوي وحشدوا حشودًا لم يحشدوها من قبل، إذ بلغ عدد المقاتلين في هذه السرية ثلاثة آلاف مقاتل، واختار النبي صلى الله عليه وسلم للقيادة ثلاثة أمراء على التوالي: زيد بن حارثة، ثم جعفر بن أبي طالب، ثم عبد الله بن رواحة وقال صلى الله عليه وسلم: إن قُتل زيد فجعفر، وإن قُتل جعفر فعبد الله بن رواحة. 

وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم الجيش الإسلامي أن يأتوا المكان الذي قتل فيه الحارث بن عمير الأزدي، وأن يدعوا من كان هناك إلى الإسلام فإن أجابوا فبها ونعمت، وإن أبوا استعينوا بالله عليهم وقاتلوهم. 

وقد زود الرسول صلى الله عليه وسلم الجيش في هذه السرية وغيرها من السرايا بوصايا تتضمن آداب القتال في الإسلام فقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه بقوله: «أوصيكم بتقوى الله وبمن معكم من المسلمين خيرًا، اغزوا باسم الله، في سبيل الله من كفر بالله، لا تغدروا ولا تقتلوا وليدًا، ولا امرأة ولا كبيرًا فانيًا، ولا منعزلاً بصومعة، ولا تقربوا نخلا، ولا تقطعوا شجرًا، ولا تهدموا بناء، وإذا لقيتم عدوكم من المشركين فادعوهم إلى إحدى ثلاث: فإما الإسلام، وإما الجزية، وإما الحرب...». 

وداع الجيش الإسلامي.

لما تجهز الجيش الإسلامي وأتم استعداده، توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يودعون الجيش ، ويرفعون أكف الضراعة لله عز وجل أن ينصر إخوانهم المجاهدين، لقد سلموا عليهم وودعوهم بهذا الدعاء: دفع الله عنكم وردكم صالحين غانمين. 

ولما ودع الناس عبد الله بن رواحة وسلموا عليه بكى وانهمرت الدموع من عينيه ساخنة غزيرة ،فتعجب الناس من ذلك، وقالوا: ما يبكيك يا ابن رواحة؟ فقال: والله ما بي حب الدنيا وصبابة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ آية من كتاب الله يذكر فيها النار ( وَإِن مِنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا ) [مريم: 71] ، فلست أدري كيف بي بالصدر بعهد الورود، فقال لهم المسلمون: صحبكم الله ودفع عنكم، وردكم إلينا صالحين، فقال عبد الله بن رواحة:

لكني أسأل الرحمن مغفرة=وضربة ذات فراغ تقذف الزبدا 

أو طعنة بيدي حران مجهزة=بحربة تنفذ الأحشاء والكبدا 

 

 

حتى يقولوا إذا مروا على جدثي=أرشده الله من غاز وقد رشدا 

 

 

 

الجيش يصل إلى معان واستشهاد الأمراء الثلاثة . 

لما وصل الجيش الإسلامي إلى معان من أرض الشام -وهي الآن محافظة من محافظات الأردن- بلغه أن النصارى الصليبيين من عرب وعجم قد حشدوا حشودًا ضخمة لقتالهم، إذ حشدت القبائل العربية مائة ألف صليبي من لخم وجذام وبهراء وبلى ، وعينت لهم قائدًا هو مالك بن رافلة ، وحشد هرقل مائة ألف نصراني صليبي من الروم فبلغ الجيش مائتي ألف مقاتل، مزودين بالسلاح الكافي يرفلون في الديباج لينبهر المسلمون بهم وبقوتهم ، ولقد قام المسلمون في معان يومين يتشاورون في التصدي لهذا الحشد الضخم فقال بعضهم: نرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة نخبره بحشود العدو ، فإن شاء أمدنا بالمدد، وإن شاء أمرنا بالقتال ، وقال بعضهم لزيد بن حارثة قائد الجيش: وقد وطئت البلاد وأخفت أهلها، فانصرف فإنه لا يعدل العافية شيء، ولكن عبد الله بن رواحة حسم الموقف بقوله: (يا قوم، والله إن الذي تكرهون للذي خرجتم تطلبون؛ الشهادة! وما نقاتل الناس بعدد ولا قوة ولا كثرة، ما نقاتلهم إلا بهذا الدين الذي أكرمنا الله به، فانطلقوا فإنما هي إحدى الحسنيين: إما ظهور، وإما شهادة) ، فألهبت كلماته مشاعر المجاهدين، واندفع زيد بن حارثة بالناس إلى منطقة مؤتة جنوب الكرك يسير حيث آثر الاصطدام بالروم هناك، فكانت ملحمة سجل فيها القادة الثلاثة بطولة عظيمة انتهت باستشهادهم، فقد استبسل زيد بن حارثة وتوغل في صفوف الأعداء وهو يحمل راية رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شاط في رماح القوم. 

ثم أخذ الراية جعفر وانبرى يتصدى لجموع المشركين الصليبيين، فكثفوا حملاتهم عليه، وأحاطوا به إحاطة السوار بالمعصم، فلم تلن له قناة، ولم تهن له عزيمة، بل استمر في القتال ، وزيادة في الإقدام ونزل عن فرسه وعقرها، وأخذ ينشد: 

يا حبذا الجنة واقترابها=طيبة وباردًا شرابها 

 

 

والروم روم قد دنا عذابها=كافرة بعيدة أنسابها 

 

عليَّ إذا لاقيتها ضرابها

 

لقد أخذ رضي الله عنه اللواء بيده اليمنى فقطعت، فأخذه بشماله فقطعت ، فاحتضنه بعضديه وانحنى عليه حتى استشهد وهو ابن ثلاث وثلاثين سنة، ولقد أُثخن رضي الله عنه بالجراح إذ بلغ عدد جراحه تسعين بين طعنة برمح أو ضربة بسيف أو رمية بسهم, وليس من بينها جرح في ظهره بل كلها في صدره. 

روى الإمام البخاري -رحمه الله- في صحيحه بإسناده إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب -رضي الله عنهما- قال: كنت في تلك الغزوة فالتمسنا جعفر بن أبي طالب فوجدناه في القتلى ، ووجدنا ما في جسده بضعًا وتسعين من طعنة أو رمية. 

ولقد عوض الله -تبارك وتعالى- جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه وأكرمه على شجاعته وتضحيته بأن جعل له جناحين يطير بهما في الجنة حيث يشاء، فقد روى البخاري في صحيحه بإسناده إلى عامر قال: كان ابن عمر إذا حيا ابن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي الجناحين. 

وبعد استشهاد جعفر بن أبي طالب استلم الراية عبد الله بن رواحة الأنصاري رضي الله عنه وامتطى جواده، وهو يقول: 

أقسمت يا نفس لتنزلنه=لتنزلن أو لتكرهنه 

 

 

إن أجلب الناس وشدوا الرنة=ما لي أراك تكرهين الجنة 

 

 

قد طال ما قد كنت مطمئنة=هل أنت إلا نطفة في شنة 

 

 

يا نفس إلا تقتلي تموتي=هذا حمام الموت قد صليت 

 

 

وما تمنيت فقد أعطيت=إن تفعلي فعلهما هُديت 

 

 

ويذكر أن ابن عم لعبد الله بن رواحة قد قدم له قطعة من لحم وقال له: شد بهذا صلبك، فإنك لقيت في أيامك هذه ما لقيت، فأخذها من يده ثم انتهس منه نهسة، ثم سمع جلبة وزخامًا في جبهة القتال، فقال يخاطب نفسه: وأنت في الدنيا؟ ثم ألقى قطعة اللحم من يده وتقدم يقاتل العدو حتى استُشهد رضي الله عنه وكان ذلك في آخر النهار.

المسلمون يختارون خالد بن الوليد قائدًا. 

ولما استشهد عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ، وسقطت الراية من يده فالتقطها ثابت بن أقرم الأنصاري، وقال: يا معشر المسلمين اصطلحوا على رجل منكم، قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل، و نظر ثابت إلى خالد بن الوليد فقال: خذ اللواء يا أبا سليمان، فقال: لا آخذه، أنت أحق به، أنت رجل لك سن، فقد شهدت بدرًا، فقال ثابت: خذه أيها الرجل فوالله ما أخذته إلا لك، فأخذه خالد بن الوليد رضي الله عنه .

 

 

وأصبحت الخطة الأساسية المنوطة بخالد في تلك الساعة العصيبة من القتال، أن ينقذ المسلمين من الهلاك الجماعي، فبعد أن قدر الموقف واحتمالاته المختلفة قدرًا دقيقًا، ودرس ظروف المعركة درسًا وافيًا وتوقع نتائجها، اقتنع بأن الانسحاب بأقل خسارةٍ ممكنة هو الحل الأفضل، فقوة العدو تبلغ (66) ضعفًا لقوة المسلمين، فلم يبق أمام هؤلاء إلا الانسحاب المنظم وعلى هذا الأساس وضع خالد الخطة التالية: 

أ- الحيلولة بين جيش الروم وجيش المسلمين، ليضمن لهذا الأخير سلامة الانسحاب. 

ب- لبلوغ هذا الهدف، لا بد من تضليل العدو بإيهامه أن مددًا ورد إلى جيش المسلمين فيخفف من ضغطه وهجماته ، ويتمكن المسلمون من الانسحاب، وصمد خالد حتى المساء عملاً بهذه الخطة، وغير في ظلام الليل مراكز المقاتلين في جيشه، فاستبدل الميمنة بالميسرة، ومقدمة القلب بالمؤخرة، وفي أثناء عملية الاستبدال اصطنع ضجة صاخبة وجلبة قوية، ثم حمل على العدو، عند الفجر، بهجمات سريعة متتالية وقوية ليدخل في روعه إن إمدادات كثيرة وصلت إلى المسلمين. 

ونجحت الخطة؛ إذ بدا للعدو صباحًا أن الوجوه والرايات التي تواجهه جديدة لم يرها من قبل، وأن المسلمين يقومون بهجمات عنيفة، فأيقن أنهم تلقوا إمدادات، وأن جيشًا جديدًا نزل إلى الميدان، وكان البلاء الحسن الذي أبلاه المسلمون قد فت في عضد الروم وحلفائهم، فأدركوا أن إحراز نصر حاسم ونهائي على المسلمين أمرٌ مستحيل، فتخاذلوا وتقاعسوا عن متابعة الهجوم، وضعف نشاطهم واندفاعهم، فخف الضغط عن جيش المسلمين، وانتهز خالد الفرصة فباشر الانسحاب ، وكانت عملية التراجع التي قام بها خالد في أثناء معركة (مؤتة) من أكثر العمليات في التاريخ العسكري مهارة ونجاحًا، بل إنها تتفق وتتلائم مع التكتيك الحديث للانسحاب ، فقد عمد خالد إلى سحب الجناحين بحماية القلب، ولما أصبح الجناحان بمنأى عن العدو، وفي مأمن منه، عمد إلى سحب القلب بحماية الجناحين، إلى أن تمكن وضمن سلامة الانسحاب كليًّا، ويقول المؤرخون: إن خسارة المسلمين لم تتعد الاثني عشر قتيلاً في هذه المعركة، وأن خالدًا قال: (لقد انقطع في يدي يوم مؤتة تسعة أسياف، فما بقي إلا صفيحة يمانية).

ويمكن القول إن خالدًا بخطته تلك، قد أنقذ الله المسلمين به من هزيمة ماحقة وقتل محقق وأن انسحابه كان قمة النصر بالنسبة إلى ظروف المعركة، حيث يكون الانسحاب في ظروف مماثلة أصعب حركات القتال، بل أجداها وأنفعها. 

معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم وموقف أهل المدينة من الجيش . 

ظهرت معجزة للرسول صلى الله عليه وسلم في أمر هذه السرية ، فقد نعى المسلمين في المدينة زيدًا وجعفرًا وابن أبي رواحة قبل أن يصل إليه خبرهم، وحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما وقع للسرية وذرفت عيناه الدموع، ثم أخبرهم بتسلم خالد الراية، وبشرهم بالفتح على يديه وأسماه سيف الله ، وبعد ذلك قدم من أخبرهم بأخبار السرية، ولم يزد عما أخبرهم به النبي صلى الله عليه وسلم. 

ولما دنا الجيش من حول المدينة، تلقاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ولقيهم الصبيان ينشدون، ورسول الله صلى الله عليه وسلم مقبل مع القوم على دابة فقال: خذوا الصبيان واحملوهم، وأعطوني ابن جعفر، فأتي بعبد الله، فأخذه فحمله على يديه، وجعل الناس يحثون على الجيش التراب ويقولون: يا فرار أفررتم في سبيل الله، ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ليسوا بالفرار، ولكنهم الكرار إن شاء الله تعالى. 

وإن الإنسان ليعجب من هذه التربية النبوية التي صنعت من الأطفال الصغار، رجالاً وأبطالاً، يرون العودة من المعركة دون شهادة في سبيل الله، فرارًا من سبيل الله، لا يكافؤون عليه إلا بحثو التراب في وجوههم، فأين شبابنا المتسكعون في الشوارع، من هذه النماذج الرفيعة من الرجولة الفذة المبكرة؟ ولن تستطيع الأمة أن ترتفع إلى هذه الأهداف النبيلة والقمم الشوامخ إلا بالتربية الإسلامية الجادة القائمة على المنهاج النبوي الكريم.

 

 

دروس وعبر وفوائد .

ففي هذه الغزوة دروس وعبر كثيرة منها: 

أهمية هذه المعركة: تعتبر هذه المعركة من أهم المعارك التي وقعت بين المسلمين وبين النصارى الصليبيين من عرب وعجم؛ لأنها أول صدام مسلح ذي بال بين الفريقين، وأثرت تلك المعركة على مستقبل الدولة الرومانية، فقد كانت مقدمة لفتح بلاد الشام وتحريرها من الرومان.

ونستطيع أن نقول إن تلك الغزوة هي خطوة عملية قام بها النبي صلى الله عليه وسلم للقضاء على دولة الروم المتجبرة في بلاد الشام، فقد هز هيبتها من قلوب العرب، وأعطت فكرة عن الروح المعنوية العالية عند المسلمين، كما أظهرت ضعف الروح المعنوية في القتال عند الجندي الصليبي النصراني وأعطت فرصة للمسلمين للتعرف على حقيقة قوات الروم، ومعرفة أساليبهم في القتال. 

حب الشهادة باعث للتضحية: إن الصبر والثبات والتضحية التي تجلت في كل واحد من الأمراء الثلاثة وسائر الجند كان مبعثها الحرص على ثواب المجاهدين ، والرغبة في نيل الشهادة لكي يكرمهم الله برفقة النبيين والصديقين والشهداء والصالحين ، ويدخلوا جنات الله الواسعة التي فيها ما لا عين رأت ولا إذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. 

تميز هذه المعركة عن سائر المعارك: فهي الوحيدة التي جاء خبرها من السماء، إذ نعى النبي صلى الله عليه وسلم استشهاد الأبطال الثلاثة قبل أن يصل الخبر من أرض المعركة، بل وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن أحداثها، وتمتاز أيضا عن غيرها بأنها الوقعة الوحيدة التي اختار النبي صلى الله عليه وسلم لها ثلاثة أمراء على الترتيب: زيد بن حارثة، جعفر بن أبي طالب، عبد الله بن رواحة. 

إكرام النبي صلى الله عليه وسلم لآل جعفر: لما أصيب جعفر دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على أسماء بنت عميس فقال: «ائتيني ببني جعفر» فأتت بهم فشمهم وقبلهم وذرفت عيناه، فقالت أسماء: أبلغك عن جعفر وأصحابه شيء؟ قال: «نعم أصيبوا هذا اليوم»، فجعلت تصيح وتولول, فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تغفلوا عن آل جعفر أن تصنعوا لهم طعامًا، فإنهم قد شغلوا بأمر صاحبهم». 

من فقه القيادة: إنه درس عظيم يقدمه لنا الصحابي الجليل ثابت بن أقرم العجلاني، عندما أخذ اللواء بعد استشهاد عبد الله بن رواحة آخر الأمراء، وذلك أداء منه للواجب؛ لأن وقوع الراية معناه هزيمة الجيش، ثم نادى المسلمين أن يختاروا لهم قائدًا، وفي زحمة الأحداث قالوا: أنت، قال: ما أنا بفاعل.. فاصطلح الناس على خالد. وفي رواية أن ثابتًا مشى باللواء إلى خالد، فقال خالد: لا آخذه منك، أنت أحق به فقال: والله ما أخذته إلا لك. 

إن مضمون كلتا الروايتين واحدٌ، أن ثابتًا جمع المسلمين أولاً وأعطى القوس باريها فأعطى الراية أبا سليمان خالد بن الوليد ولم يقبل قول المسلمين: أنت أميرنا، ذلك أنه يرى فيهم من هو أكفأ منه لهذا العمل، وحينما يتولى العمل من ليس له بأهل، فإن الفساد متوقع، والعمل حينما يكون لله تعالى، لا يكون فيه أثر لحب الشهرة، أو حظ النفس. 

إن ثابتًا لم يكن عاجزًا عن قيادة المسلمين، وهو ممن حضر بدرًا، ولكنه رأى من الظلم أن يتولى عملاً وفي المسلمين من هو أجدر به منه، حتى ولو لم يمضِ على إسلامه أكثر من ثلاثة أشهر؛ لأن الغاية هي السعي لتنفيذ أوامر الله على الوجه الأحسن والطريقة الأمثل. 

إن كثيرًا ممن يتزعمون قيادة الدعوة الإسلامية اليوم يضعون العراقيل أمام الطاقات الجديدة، والقدرات الفذة خوفًا على مكانتهم القيادية، وامتيازاتهم الشخصية، وأطماعهم الدنيوية، فعلى أولئك القادة أن يتعظوا من هذا الدرس البليغ لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد. 

إن الأمة التي لا تقدر رجالها ولا تحترمهم لا يمكن أن يقوم فيها نظام، إن التربية النبوية استطاعت بناء هذه الأمة بناء سليمًا، وما أحرى المسلمين اليوم أن يكون كل إنسان في مكانه، وأن يحترم ويقدر بمقدار ما يقدم لهذا الدين، ويبقى الجميع بعد ذلك في الإطار العام الذي وصف الله به المؤمنين: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَّرْتَدَّ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ) [المائدة: 54]. 

فقه الموازنات في انسحاب خالد من غزوة مؤتة .

كان الجيش المنسحب كان لا يتجاوز ثلاثة آلاف، بينما كان جيش الروم مئتي ألف، واستمرت المعركة مع الروم إلى آخر النهار، وقتل فيها قادة الجيش الثلاثة، ومعنى الصمود هو استئصال جيش المسلمين عن آخره بما يشبه الانتحار، إلى جانب أن هذه الهلكة الواضحة لهذا الجيش الضئيل تؤدي إلى أثر معنوي شديد السوء على الدولة الإسلامية الوليدة، ولا شك أن إنقاذ الجيش من هذه المقتلة مصلحةٌ عظيمةٌ، والظهور بمظهر المنهزم والمتراجع مفسدةٌ مذمومةٌ، ولكن القائد الفذ أحسن تقييم الموقف، ورجح مصلحة الانسحاب والنجاة بذلك الجيش القليل، فمدحه الرسول صلى الله عليه وسلم، ولقبه بسيفٍ من سيوف الله، وقال عنه الرسول: "ثم أخذ الراية سيفٌ من سيوف الله ففتح الله عليه" ، فهو فتحٌ لا شك فيه رغم الانسحاب، لأن خالداً أدرك أن مقصد الشارع من الجهاد ليس مجرد إراقة الدماء وإدراك الموت، وإنما هو إعلاء كلمة الله ونشر دينه، وهذا الهدف لن يتحقق بلا شك مع استئصال الجيش المسلم، فالجهاد ليس هدفاً في ذاته، بل هو وسيلةٌ لإعلاء كلمة الله، وهي المصلحة الحقيقية الراجحة من القتال، فلما زالت المصلحة، لم يعد لاستمرار القتال داعٍ، لأنه صار مفسدةً يجب دفعها.

 

 ســــــرية ذات السلاســــل

 

لم تمضِ سوى أيام على عودة الجيش من مؤتة إلى المدينة حتى جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيشًا بقيادة عمرو بن العاص إلى ذات السلاسل، وذلك لتأديب قضاعة التي غرها ما حدث في مؤتة التي اشتركت فيها إلى جانب الروم، فتجمعت تريد الدنو من المدينة، قال عمرو بن العاص: بعث إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: خذ عليك ثيابك، وسلاحك ثم ائتني فأتيته، وهو يتوضأ، فصعد في النظر، ثم طأطأ، فقال: إني أريد أن أبعثك على جيش فيسلمك الله ويغنمك، وأرغب لك في المال رغبة صالحة، قال: قلت: يا رسول الله ما أسلمت من أجل المال، ولكني أسلمت رغبة في الإسلام، وأن أكون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عمرو نعم المال الصالح للمرء الصالح». 

تقدم عمرو بن العاص في ديار قضاعة ومعه ثلاثمائة من المهاجرين والأنصار، ولما وصل إلى مكان تجمع الأعداء بلغه أن لهم جموعًا كثيرة، فأرسل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلب المدد فجاءه مدد بقيادة أبي عبيدة ابن الجراح . 

عندما وصل المدد الذي بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم بقيادة أبي عبيدة بن الجراح لجيش عمرو في ذات السلاسل، أراد أبو عبيدة أن يؤم الناس ويتقدم عمرو، فقال له عمرو: إنما قدمت علي مددًا لي، وليس لك أن تؤمني، وأنا الأمير، وإنما أرسلك النبي صلى الله عليه وسلم إلي مددًا، فقال المهاجرون كلا، بل أنت أمير أصحابك وهو أمير أصحابه، فقال عمرو: لا، بل أنتم مدد لنا، فلما رأى أبو عبيدة الاختلاف، وكان حسن الخلق، لين الطبع ، قال: لتطمئن يا عمرو، وتعلمن أن آخر ما عهد إلي رسول الله أن قال: إذا قدمت على صاحبك فتطاوعا ولا تختلفا، وأنك والله إن عصيتني لأطيعنك فأطاع أبو عبيدة، فكان عمرو يصلي بالناس. 

لقد أدرك أبو عبيدة رضي الله عنه أن أي اختلاف بين المسلمين في سرية ذات السلاسل يؤدي إلى الفشل ، ومن ثم تغلب العدو عليهم، ولهذا سارع إلى قطع النزاع، وانضم جنديًا تحت إمرة عمرو بن العاص امتثالا لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم «لا تختلفا». 

وقاتل المسلمون الكفار وتوغل عمرو في ديار قضاعة التي هربت وتفرقت وانهزمت، ونجح عمرو في إرجاع هيبة الإسلام لأطراف الشام، وإرجاع أحلاف المسلمين لصداقتهم الأولى، ودخول قبائل أخرى في حلف المسلمين، وإسلام الكثيرين من بني عبس، وبني مرة وبني ذبيان، وكذلك فزارة وسيدها عيينة بن حصن في حلف مع المسلمين، وتبعها بنو سليم، وعلى رأسهم العباس بن مرداس، وبنو أشجع وأصبح المسلمون هم الأقوى في شمال بلاد العرب، وإن لم يكن في بلاد العرب جميعهًا.

في هذه السرية ظهرت عبقرية عمرو العسكرية في ذات السلاسل في حرصه على وحدة الصف، وفي حرصه على سلامة قوته ويتجلى ذلك في عدة صور منها: 

أنه كان يسير ليلاً ويختفي نهارًا: كان عمرو يدرك بثاقب بصره، وبعد نظره أن العدو يمكن أن يسعى إلى معرفة أخباره قبل اللقاء بينهما، فيستعد للقاء جيش المسلمين؛ ولهذا رأى عمرو أن السير ليلا والاختفاء نهارًا هو أفضل أسلوب للمحافظة على قواته وحقق بذلك أمرين مهمين: 

* إخفاء تحركاته عن عدوه وبذلك يضمن سلامة قواته. 

* حماية الجند من شدة الحر وحتى يبقى لهم نشاطهم فيصلون إلى مكان المواجهة، وهم أقوياء على مجابهة أعدائهم. 

من فقه الموازنات في هذه السرية .

في هذه الغزوة الكثير من الموازنات، فعندما طلب الجنودُ من عمرو أن يسمح لهم بإيقاد النار لحاجتهم الماسة إلى التدفئة منعهم من ذلك معتمدًا في ذلك على خبرته الحربية، وعمق فكره العسكري، وخوفًا من وقوع مفسدة أعظم من تلك المصلحة وهي أن يمتد الضوء فيكشف المسلمين، وهم قلةٌ لأعدائهم فيهجموا عليهم، ويتجلى هذا الفقه في حزمه الشديد مع أصحابه عندما كلمه أبو بكر في ذلك فقال: لا يوقد أحدٌ منهم نارًا إلا قذفته فيها، وعندما هزم المسلمون أعداءهم طمعوا فيهم، فأرادوا مطاردتهم وتتبع فلولهم، ولكنه منعهم من ذلك لئلا يترتب على هذه المطاردة مفسدة أعظم منها، وهي أن يقع المسلمون في كمين.

فعمرو هنا أعطى الأولوية للمصلحة العاجلة المتيقنة على المصلحة المستقبلية الظنية، وهي التي قد تتحقق عند لحاق الكفار، ورأى أن إشعال النار مصلحة ٌ ولكنها مرجوحة إذا قورنت بالمفسدة التي تتمثل في معرفة العدو لعددهم.

كما أن في فعل عمرو نظرٌ في مآلات الأفعال، فإيقاد النار مصلحةٌ ولكنها تؤول إلى مفسدةٍ تتمثل في كشف المسلمين للعدو مما يلحق الضرربهم فمنعوا من ذلك، وكذلك اللحاق بالعدو للظفر بهم مصلحة ٌ ولكنها ربما آلت إلى مفسدةٍ تتمثل في وجود كمينٍ يفتك بالمسلمين فمنعوا من اللحاق بهم.

يقول العز بن عبد السلام رحمه الله عن التولي عن الزحف وعدم ملاحقة العدو: "التولي يوم الزحف مفسدةٌ كبيرةٌ، لكنه واجبٌ إذا علم أنه يقتل من غير نكايةٍ في الكفار، لأن التغرير بالنفوس إنما جاز لما فيه من مصلحة إعزاز الدين بالنكاية بالمشركين، فإذا تم تحصيل النكاية وجب الانهزام لما في الثبوت من فوات النفوس مع شفاء صدور الكفار وإرغام أهل الإسلام، وقد أصبح الثبوت هنا مفسدةً محضةً ليس في طيها مصلحة".

 

 

وفي هذه الغزوة أصابت عمراً الجنابة في الليل فأشفق على نفسه من الهلاك لشدة البرد فتيمم وصلى بأصحابه، فلما انصرفوا ذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم، فسأله عن ذلك: فقال: كرهت أن آذن لهم أن يوقدوا ناراً فيرى عدوهم قلتهم، وكرهت أن يتبعوهم فيكون لهم مدد، وعندما سأله النبي صلى الله عليه وسلم: يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب ٌ؟ فأخبره عمرو بأنه خشي على نفسه واستدل بقوله تعالى: ( ولا تقتلوا أنفسكم ، إن الله كان بكم رحيماً ) (النساء: ٢٩)، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً . 

و تيمم عمرو وهو جنبٌ ففيه مصلحة حفظ النفس من التلف والتي يسقط معها الغسل ليحل مكانه التيمم، فالله لا يريد بالأمة العنت، وكان فهم عمرو لقوله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيماً) صائباً وقد أقره النبي صلى الله عليه وسلم عليه.

كما أن في الامتناع عن الغسل نظرٌ في مآلات الأفعال، فالغسل في ذاته مصلحةٌ ولكنه يؤول إلى مفسدةٍ أكبر تتمثل في تلف النفس، لذلك ترك عمرو الغسل واستبدله بالتيمم.

من نتائج سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشمال .

اتجهت حملات المسلمين العسكرية بعد صلح الحديبية نحو الشمال، وأصبح غرب الجزيرة وجنوبها الغربي حيث تقبع مكة آمنة في ظلال الصلح، وحققت سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم أهدافها ومقاصدها في شمال الجزيرة، فوصلت إلى حدود الروم، فأمنت حدود الدولة الإسلامية، وبسطت هيبتها وأفشلت محاولات الإغارة على المدينة، وبذلك حققت سياسية النبي صلى الله عليه وسلم في حركة السرايا هدفين عظيمين هما: 

1- تأمين حماية الدين الإسلامي في الداخل. 

2- حمايته في الخارج. 

وما من شك أن المتتبع لأحداث السيرة النبوية الشريفة والمطلع على تفاصيلها ودقائقها بإمعان يجد بحق أن صلح الحديبية هو من أهم المكاسب السياسية، والعسكرية، والإعلامية، بل هو حصيلة كسب لأعظم معركة دارت بين الإسلام والوثنية في العهد النبوي، من حيث النتائج الإيجابية التي رسخت دعائم الإسلام، من جهة وصدعت بفعلها قواعد الشرك والوثنية من جهة أخرى وما حدث في خيبر من فتوح، وفي مؤتة من نصر، وفي ذات السلاسل من توسيع هيبة الدولة الإسلامية إلا نتائج تابعة لصلح الحديبية وبسبب القدرة الفائقة في تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع سنن الله في المجتمعات والشعوب، وبناء الدول.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين