كيف تكون محبوباً! (2)

هل تطمع أخي، هل تطمعين أختي، أن يحوز كلٌّ منكما في حياتكما على درجة "مقبول"؟

كلا، ليس المقصود الدرجة التي يضعها المدرسون لمتوسطي التحصيل في المدارس والجامعات، بل المقصود المرتبة التي يهبها الله لمحبوبيه في الأرض ومن فوق سبع سماوات..

أن تكون مقبولًا عند الناس في مساعيك الأرضية، أي أنك محبوب عند ربك، ولدى الملائكة المقربين في الدرجات السماوية، وإليكم دليلُ ثمرات المحبوبية على لسان خير البرية..

فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا أحبَّ الله عبدًا نادى جبريل إنّ الله يحبُّ فلانًا فأحببْه، فيحبُّه جبريل، فينادي جبريل في أهل السماء، إنّ الله يحبُّ فلانًا فأحبّوه، فيحبّه أهل السماء، ثمّ يوضع له القبول في الأرض".

من ذا الذي يحبُّه ربُّه؟ ما الذي كان يفعله حتى أحبَّه؟ هل كان له صنعة معينة؟ هل كان له مهنةٌ محددة؟ ترى، ممَّ يتكوّن برنامجُ عمله اليومي؟ وما هو مستوى أدائه؟ لعل ذلك هو المفتاح، تعالوا نتعقب أنفسنا في هذه اللقطة، لنعرف أهمية هذه النقطة..

كلكم تحفظون حديث الاستفتاح، الحديث الذي يستفتح به المصّنفون والعلماء كتبهم، ليُذكّروا أنفسهم بضرورة إحسان النية، والإخلاص لله تعالى في أعمالهم. والحديث هو: "إنّما الأعمال بالنيَّات". ونحن اليوم سنقرّ شعار سلسلة (كيف تكون محبوباً) بجملة:"وإنّما المحبّة بالإتقان".

نعم، إنّه الإتقان، مجمّل الحياة الإنسانية، مطوّر الأدوات البشرية، مسبّب المحبّة الربّانية..

فعن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إنّ الله يحبُّ إذا عمل أحدُكم عملًا أن يتقنه".

"أحدُكم" أيها المسلمون.. "أحدُكم" أيها المحبّون..

"أحدُكم" حتماً، سيكون محبوبًا، عندما يتقن ما بين يديه، أيًا كان ذلك العمل..

يا من يعمل ويَجِدّ، يا من يسعى ويجتهد، يا من يعرق في نهاره مكدودًا، يا من ينام في ليله متعبًا مهدودًا.. يا من أقامك الله على مصلحة من مصالح العباد؟ يا من كلّفكِ ربّكِ برعاية الزوج والأولاد؟ هل تعلم أن مهنتك هي طريقك إلى محبة ربّك؟ هل تعرفين أن عملك هو سبيلك إلى رفعة درجاتك؟ هل تقدّرون أنّ صنعتكم وحرفتكم وإنتاجكم، هي أبواب إلى الجنان مفتحّة، تنتظر إحسانكم وإتقانكم وجودة أفعالكم؟!

نعم، إنّ الله يحبُّ أحدَكم.. إذا أتقن..

نعم، إن الله يحبُّ أحدَكم.. إذا أحسن..

إنه الإتقان واستكمال الشروط الواجبة، واستيفاء الصّفات المطلوبة، بلا عيب ولا استهتار ولا تقصير. فكما أنّ الله تعالى يحبُّ "المتقين"، فإنه عز وجل يجبُّ "المتقنين"؛ المتقن الذي ينافس على الكمال والجمال، المتقن الذي ينتزع ثقة الناس، ويلقى لديهم التقديرَ والإجلال، المتقن الذي يقطع بعمله كلَّ لسان، وينفع بإحسانه أي إنسان، المتقن المحبوب هو العاقل المطلوب: محبوب عند الله، ومطلوبٌ عند الناس..

يقول الإمام الغزالي رحمه الله: "العاقل هو الذي يتحرّى الصّدقَ من صنعته".. فإن كنت نجارًا، حداداً، بناءً، فرّاشًا، حمّالًا، محاسبًا، مهندسًا، مدرسًا، مديرًا، أجيرًا، سائقًا، أيّاً ما تكن صنعتك..

وأنتِ.. أينما كنتِ: أمًّا، معلمة، موظفة، أيا كان موقعك..

طوّروا، تحرّوا الصدق في أعمالكم، إسألوا، تعلموا، أنقذوا أنفسكم، راجعوا إنتاجاتكم..

تحبون الله؟

طبعًا، فاصدقوا إذن بما في أيديكم، ليحبّكم.

فالأقل إتقانًا، هو الأضعف على حبّ الله برهانًا، والأقل إحسانًا، وهو الأبعد عن الله درجةً ومكانًا..

أيّها المحبون..اعملوا على قدر المحبة والأجر، لا على قدر المرتّب والأجرة، لأننا إنما نعاني من الأعمال المبتورة والمنقوصة، والإنتاجات الفاسدة والضارة، لأننا نقدّم ما يكافئ أموال الدافعين، وننسى أن الإتقان هو دفعة لحسابنا عند رب العالمين..

أيّها المحبون.. أختم بقصة قصيرة من سيرة الحبيب صلى الله عليه وسلم، دون أن أعلق عليها، فالعبرةُ منها واضحة، والفرصة معها سانحة، لنصبح مهما كانت وظائفنا: مقبولين محبوبين..

فقد ورد في الأثر أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان في جنازة، ولما وصلت إلى البقيع، جاء أحدُ أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام، وحفر القبر، ووُضع الميت فيه، ثمّ رُدِم، ولم يكن في عمل ذلك الرجل أي إتقان. فقال صلى الله عليه وسلم: "إنّ هذا – أي عدم إتقان ردم التراب على الميت- لا ينفعُ الميتّ ولا يضرُّه، ولكنَّ الله يحبُّ من العامل إذا عمل عملًا أن يتقنه".

هذا فيما لا يضرّ ولا ينفع، فكيف بما يحسِّن صورة المسلمين، ومكانتهم بين الناس يرفع؟!

* سلسلة (كيف تكون محبوباً)، أكتبها لتكون علماً نافعاً وصدقة جارية عن روح أخي محمد رحمه الله، سائلة ربي أن يكتب له ثوابها، وثواب من ينتفع بها، راجية منكم الدعاء له بأن يكون عند الله من المحبوبين، ونحن معه أجمعين، ثم مشاركتها ونشرها على نية القبول بإذن الله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين