الرد على من طعن في أحاديث صوم عاشوراء

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى.. وبعد:

فقد زعم الدكتور عبد الرحمن أنيس وفقه الله في مقال له أرسله لي بعض الفضلاء، أن أحاديث صوم يوم عاشوراء المحرَّم باطلة، واتَّكأ على ما ذكر أن يوم نجاة موسى عند اليهود هو العاشر من أول شهر في تقويمهم العبري، وهو شهر تشري الذي صادف في عام مقدم النبي إلى المدينة شهر ربيع الأول وليس شهر محرم.

قال: ثم إن نص الحديث يقول: (لما قدم) أي قدوم النبي إلى المدينة في شهر ربيع الأول، ثم قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم: فإذا كان العام القابل صمنا اليوم التاسع، فلم يأت العام المقبل حتى توفي رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم.

قال: وهنا يظهر التناقض فرسول الله صلى الله عليه وسلم بقي في المدينة ثلاثة عشر عاماً، بينما يصوره نص الحديث كأنه صام عام مقدمه عاشوراء ثم لم يأت العام الذي يليه إلا وقد توفي.!

هذا محصل كلامه وباقيه تخليط، وجوابه أن قول الراوي (لما قدم) أي زمان مقدمه وليس المقصود أول يوم قدومه، لما تقرَّر في اللغة أن (لما) بمعنى الحين عند ابن السراج وأبي علي الفارسي، وقال ابن مالك بمعنى إذ، واستحسنه ابن هشام، فالمعنى أنه في أوائل مدة قدومه رآهم يصومونه، فوجود الصوم كان زمان حيون عاشوراء لا في أول يوم قدومه المدينة، بدليل رواية: (لما قدم المدينة) الحديث.

وفيه قال: إذا كان في عام قابل أصوم التاسع فلم يصمه لموته، فتبيَّن أن المخبَـر عنه يتَّسع لزمان بقائه صلى الله عليه وسلم بالمدينة، ولا ينحصر في أول يوم قدومه، فالمعنى في أول سنة قدمها المدينة.

وهو كحديث: (لما قدم المدينة أمر بالأذان) مع أن تشريع الأذان كان في السنة الثانية، كما أن واقعة صوم عاشوراء كانت بعد فرض رمضان في السنة الثانية لا في أول مقدمه المدينة، لأنه كان يصوم عاشوراء قبل ذلك على أنه فرض بتشريع مستقل عن تعظيم اليهود وشرعهم، فتأمل.

وهذا ظاهر جداً من الحديث الذي ساقه الدكتور أنيس من مسلم، فإن كل أحد يعلم أنه ما دخل المدينة في عاشوراء المحرم، حتى أدنى الطلبة فكيف بأئمة الحديث والفقه، وكل أحد يعلم أنه عليه الصلاة والسلام بقي بالمدينة عشر سنين وليس ثلاثة عشر سنة كما قاله الدكتور أنيس، فإن هذه مدة بقائه بمكة كما في (الصحيح) عن ابن عباس.

وعليه فالذين رووا الحديث من الأئمة إنما تركوا التنبيه على هذا لعلمهم بأنه متقرَّر معلوم لكلِّ أحد أن معنى الحديث أنه بعد أن صام عاشوراء تسع سنوات، أوحي إليه بضم التاسع إلى العاشر في الصوم، فأخبر بذلك لكنه لم يمكنه صومه لكونه قد مات قبل حيون عاشوراء من العام القابل. 

وقول الدكتور أنيس: إنَّ شهر تشري عند اليهود هو يوم نجاة موسى غلط منه، فإنَّ عاشوراء لليهود أكثر من يوم، منها في أيار وهو اليوم الذي نجا الله فيه موسى فصامه شكراً وهو آشور النجاة الموافق لعاشوراء المحرم، لا كما زعم الدكتور أنه شهر تشري، فإن العاشر من تشري هو يوم عودة موسى إلى سيناء لتلقِّي الشريعة حسب ميقات الله له، ويسمُّونه آشور موسى وهو مفترض عليهم صيامه، ومن لم يصمه قُتل، ولهم عاشوراء آخر يصومونه وهو آشور الخروج، وهو اليوم الذي خرجوا فيه من مصر. 

وصيام النبي صلى الله عليه وسلم كان لنجاة موسى الذي اتَّفق في تقويمنا يوم عاشوراء، وفي تقويمهم العاشر من أيار، وكانوا يصومونه اتباعا لموسى، فصامه النبي صلى الله عليه وسلم، وشرع صومه لأنا أولى بموسى منهم كما قال، وليس صيامه لأجل العاشر من تشري لأنه ليس هو يوم نجاة موسى كما مر، فسقط تشكيك الدكتور أنيس، وبالله التوفيق.

وإذا كان تشري أول شهور السنة عندهم كما قال الدكتور أنيس، فيكون النبي صلى الله عليه وسلم قد انتظر تسعة شهور حتى قدم عاشوراء النجاة عندهم الذي يوافق أيلول في شهورهم، وهو الشهر التاسع من شهور السنة عندهم، وهو عليه السلام قد دخل المدينة في ربيع الأول ثم صام عاشوراء في المحرم أي بعد عشرة شهور من تاريخ دخوله، وهو موافق تقريبا لعاشور النجاة إذا اعتبرت تناقص الأيام باختلاف السنين مع فارق عدد أيام السنة الهجرية عن العبرية، فلا إشكال في الحديث.

ولم يقل أحد من العلماء إنه عليه الصلاة والسلام صام عاشوراء في أول سنة قدمها، بل هذا لا يمكن تصوُّره لأن عاشوراء إذ ذاك كان مفترضا صومه علينا قبل رمضان شرعاً مستقلاً لا تعلق له بصيام اليهود وعاشورهم، فإن العرب كانت تصوم عاشوراء والأيام البيض في جاهليتها، كما كان للملل صيام معهود كالبراهمة في صومهم عن اللحوم واقتصارهم على النبات، وكان لليونان صوم ولحكماء الفلاسفة كذلك، وكانوا يعدونه من الرياضة، كما قال الشاعر:

إذا المرءُ لم يترك طعاما يُحبُّهُ ... ولم يَنْهَ قلبا غاويا حيثُ يَـمّما

فيوشكُ أن تلقى له الدهرَ سُبّةً ... إذا ذُكرتْ أمثالُها تملأُ الفمَا

ثم نُسخ صوم عاشوراء المفترض بصوم رمضان الذي كان فرضه في السنة الثانية من الهجرة قبل بدر، ثم بعد استقرار فرض رمضان، شرع صوم عاشوراء ندباً بعلة تذكر نجاة موسى لأنه من أيام الله التي قال: (وذكرهم بأيام الله) فمن توهم كالدكتور أنيس أن صوم عاشوراء لأجل نجاة موسى كان في أول قدوم المدينة فقد أخطأت استه الحفرة.

على أن قوله: إن أول شهور سنيّهم هو تشري إنما هو الآن، وأما قبل ذلك فكان أول شهورهم أيلول، لكنهم لم يحسبوا سنوات التِّيه الأربعين، فقرروا أن يبدأ العام عندهم من تشري لأنه شهر التشريع الذي كان بعد التيه.

وقد ختم الدكتور أنيس بحديث: (إذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه).

فيقال له: هذا الخبر إنما هو في الحديث المنكر في متنه الذي يخالف الأصول ولا يتجه عليها بوجه، وأما الأحاديث الصحيحة التي جرى عليها عمل الأمة وتلقتها بالقبول كأخبار الصحيحين وغيرها فلا تعل بذلك، وإن قدر أن في متونـها إشكالاً فالواجب توجيهه بنوع تأويل أو جمع ليتوافق مع الأصول، لحديث علي عليه السلام عند أحمد وابن ماجه: (إذا حُدّثتم عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حديثا، فظنوا به- وفي رواية برسول الله- الذي هو أهياه وأهداه وأتقاه) ولفظ ابن ماجه (أهناه)، وعن ابن مسعود أيضا نحوه وهو صحيح، قال السندي: (أي اعتقدوا فيه الذى هو أوفق به من غيره، وأهدى وأليق بكمال هداه وتقواه) وأهيأ أي: أحسن هيئاته ومعانيه وأصلحها، فتنبَّه يا دكتور.!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين