الاتجاه المقاصدي في تفسير ابن عاشور (2)

 

المبحث الثانى : الاتجاه المقاصدى

إذا كنا قد تناولنا فيما سبق – المستوى التنظيرى والتأصيلى للاتجاه المقاصدى عند ابن عاشور ، فمن اللازم أيضاً تناول المستوى التطبيقى لهذا الاتجاه . وذلك بعرض طرف من طريقة ابن عاشور فى تناول مفهوم " المقاصد " وتوظيفه فى تفسير القرآن .

يمكن تحديد طريقة ابن عاشور فى توظيف مفهوم " المقاصد " فى شكلين :

الأول : تقصيد النصوص والأحكام، والثانى : الاستدلال بالمقاصد على الدلالات والأحكام.

أ - تقصيد النصوص والأحكام :

يتجه الذهن فى " التقصيد " إلى ضبط نوعين من المقاصد الشرعية : الأول مقاصد الشارع من خطابه ، والثانى : مقاصده من أحكامه . يروم الفهم فى هذا المستوى إلى إفراغ الباحث جهده العلمى فى استجلاء الإدارة الشرعية من النصوص والأحكام .

وهذا المصطلح " التقصيد " مستعار من الإمام الشاطبى ، حيث يلزم فى نظره كلاً من الناظر فى القرآن، والمفسر له ، والمتكلم عليه ، أن يكون على بال من "أن ما يقوله تقصيد منه للمتكلم ، والقرآن كلام الله ، فهو يقول بلسان بيانه هذا مراد الله من هذا الكلام … " [الشاطبى ، الموافقات ، 1/396].

وفيما يلى بعض الشواهد والأمثلة على هذا التقصيد من تفسير ابن عاشور:

1) رخصة التيمم : قال تعالى : " وإن كنتم جنباً فاطهروا .. فتيمموا صعيداً طيباً "[ المائدة الآية ( 6 )].

يدل النص على أنه عند افتقاد الماء يرخص فى التيمم ، والمقصد الشرعى من حكم الرخصة بالنسبة لعادم الماء أو عند العجز هو التنبيه على عظم قدر الصلاة ، لأنها من قبيل المقاصد الشرعية لذلك تأكد وجوب التطهر لها بوسيلة الماء ، فإن عدمت التجأ إلى وسيلة التيمم التى أقامها الشارع مقام الطهارة . والمقصد من ذلك ألا يستشعر المسلم أنه يناجى ربه بدون تطهر ، وحتى لا تفوته نية التطهر للصلاة ، فلا يفوته ذلك المعنى المنتقل به من طهارة الظاهر إلى طهارة الباطن ، وحتى لا يظن أن أمر الطهارة هين ، وفى إقامة ذلك العمل مقام الطهارة تذكير مستمر بها حتى لا ينسى العود إليها عند زوال ما منعه

منها[التحرير والتنوير ، 6/126].

2) قيام الكعبة : قال تعالى : " جعل الله الكعبة البيت الحرام قياماً للناس "[ المائدة ( 6 )].

والمقصد من جعل الشارع الكعبة قياماً للناس هو تكوين أمة أصلية من ذرية إسماعيل لها كامل الصفات التى تؤهلها لتلقى الشريعة الخاتمة .. وجماع هذه الصفات : جودة الأذهان ، وقوة الحوافظ ، وبساطة الحضارة ، والتشريع ، والبعد عن الاختلاط ببقية الأمم[التحرير والتنوير].

3) فى قوله تعالى : " قال كم لبثتم فى الأرض عدد سنين . قالوا لبثنا يوماً أو بعض يوم فسئل العادين . قال : إن لبثتم إلا قليلاً لو أنكم كنتم تعلون "[ المؤمنون ، 112 – 114].

قال ابن عاشور : ولم يعرج المفسرون على تبين المقصد من سؤالهم وإجابتهم عنه وتعقيبه بما يقرره فى الظاهر . والذى لاح لى فى ذلك أن إيقافهم على ضلال اعتقادهم الماضى جىء به فى قالب السؤال عن مدة مكثهم فى الأرض كناية عن ثبوت خروجهم من الأرض أحياء ً وهو ما كانوا ينكرونه . وكناية عن خطأ استدلالهم على إبطال البعث باستحالة رجوع الحياة إلى عظام ورفات . وهى حالة لا تقتضى مدة قرن واحد فكيف وقد أعيدت إليهم الحياة بعد أن بقوا قروناً كثيرة . فذلك أدل وأظهر فى سعة القدرة الإلهية وأدخل فى إبطال شبهتهم إذ قد تبين بطلانها فيما هو أكثر مما قدروه من علة استحالة عود الحياة إليهم"[ التحرير والتنوير ، 9/132].

4) قوله تعالى : " وآتوا النساء صدقاتهن نحلة . . . "[النساء ، 3].

فالمقصد من توجيه الخطاب فى الآية إلى الأزواج هو عدم تذرعهم بضعف النساء وحيائهن فى سبيل غمص حقوقهن التى منها مهورهن[التحرير و التنوير ، 5 / 2].

5) قال تعالى : " أتبنون بكل ريع آية تعبثون . وتتخذون مصانع لعلكم تخلدون . وإذا بطشتم بطشتم جبارين "[ الشعراء ، 128 – 130].

بعد ذكره الأعمال النافعة من بناء ومصانع يقول ابن عاشور : " فإذا أهمل إرضاء الله بها واتخذت للرياء والغرور بالعظمة وكانوا معرضين عن التوحيد وعن عبادة الله ، انقلبت عظمة دنيوية محضه لا ينظر فيها إلى جانب النفع ولا تحث الناس على الاقتداء فى تأسيس أمثالها وقصارها التمدح بما وجدوه منها فصار وجودها شبيهاً بالعبث لأنها خلت عن روح المقاصد الحسنة فلا عبرة عند الله بها لأن الله خلق هذا العالم ليكون مظهر عبادته وطـاعـته[التحرير و التنوير ، 9 / 166] .. ثم يتابع ابن عاشور قائلاً " ولما صار أثر البناء شاغلاً عن المقصد النافع للحياة فى الآخرة نزل فعلهم المفضى إلى العبث منزلة الفعل الذى أريد منه العبث عند الشروع فيه ، فأنكر عليهم البناء بإدخال همزة الإنكار على فعل " تبنون " . . . " ثم يستطرد فى بيان وجه دلالة الآية على هذا المقصد لغوياً وبلاغياً .

6) الوفاء بالعقود . قال تعالى : " يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود . . . "[ المائدة ، 1].

لما كان المقصد الشرعى من شرع العقود سد حاجات لأمة اعتباراً للمناسب الحاجى ، تعين فى هذا النص وجوب إيفاء العاقد بعقده[التحرير و التنوير ، 6 / 74].

7) قال تعالى : " وما يستوى البحران هذا عذب فرات سائغ شرابه وهذا ملح أجاج ومن كل تأكلون لحماً طرياً وتستخرجون حلية تلبسونها وترى الفلك فيه مواخر لتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون"[ فاطر ، 12].

يقوله ابن عاشور : " وتقديم الظرف فى قوله : " فيه مواخر على عكس آية سورة نحل ، لأن الآية مسوقة مساق الاستدلال على دقيق صنع الله فى المخلوقات ، وأدمج فيه الامتنان بقوله " يأكلون . . . وتستخرجون حلية " وقوله " لتبتغوا من فضله " فكان المقصد الأول من سياقها الاستدلال على عظيم الصنع فهو الأهم هنا . ولما كان طفو الفلك على الماء حتى يفرق فيه أظهر فى الاستدلال على عظيم الصنع من الذى ذكر من النعمة والامتنان قدم ما يدل عليه وهو الظرفية فى البحر . والمخر فى البحر آية صنع الله أيضاً بخلق وسائل ذلك والإلهام له ، إلا أن خطور السفر من ذلك الوصف أو ما يتبادل إلى الفهم فأخر هنا لأنه من مستتبعات الغرض لا من مقصده ، فهو يستتبع نعمة تيسير الأسفار لقطع المسافات التى لو قطعت لو بسير القوافل لطالت مدة الأسفار[التحرير و التنوير ، 11 / 280].

8) قال تعالى : " قل إنما أنا منذر وما من إله إلا الله الواحد القهار . رب السموات والأرض وما بينهما العزيز الغفار "[ ص ، 65 – 66].

والمقصود من وصف " الغفار " هنا استدعاء المشركين إلى التوحيد بعد تهديدهم بمفاد وصف " القهار " لكى لا ييأسوا من قبول التوبة بسبب كثرة ما سبق إليهم من الوعيد جرياً على عادة القرآن فى تعقيب الترهيب بالترغيب والعكس[التحرير و التنوير ، 11 / 295]. .

واضح مما سبق أهمية مفهوم " المقاصد " عند ابن عاشور ، إذ لا يقتصر تقصيده على الأحكام الشرعية التكليفية بل يتجاوزها إلى نصوص الترغيب والترهيب والقصص والتحليل البلاغى واللغوى للآيات القرآنية .

ب - الثانى : الاستدلال على الدلالات والأحكام الشرعية .

يعكس الاستدلال فى صورة متكاملة الغاية المنهجية للفكر ، ففيه التنظيم المؤسس على قراءات نظرية ووسائل منهجية ، وفيه التركيب لأن كل استدلال يتحتم توفره على ثلاث عناصر هى مقدمة يستدل بها ، ونتيجة لازمة عن تلك المقدمات ، وعلامة منطقية بين المقدمات والنتيجة . وتستند مقدمات الاستدلال هنا على مقاصده من خطابه أو مقاصده من أحكامه . فمن ذلك :

1) قال تعالى : " لن ينال الله لحومها ولا دماؤها . . . "[ الحج 37]

يرى ابن عاشور أن " الآية تومئ إلى أن المقصد الشرعى من وسيلتى إراقة الدماء وتقطيع اللحوم هو انتفاع الناس المهدين بالأكل منها فى يوم العيد ، وغيرهم بالأكمل مما يهديه إليهم أقاربهم وأصحابهم " .

لذا فهو يرى " المصير إلى كلا الحالين من البيع والتصبير لما فضل عن حاجة الناس فى أيام الحج لينتفع بها المحتاجون فى عامهم ، وهذا أوفق بمقصد الشارع تجنباً لإضاعة ما فضل منها رعياً لمقصد الشريعة من نفع المحتاج وحفظ الأموال ، مع عدم تعطيل النحر والذبح للقدر المحتاج إليها منها ، المشار إليه بقوله تعالى : " فاذكروا اسم الله عليها صواف . . . " جمعاً بين المقاصد الشرعية[التحرير و التنوير ، 17 / 267].

2) قال تعالى : " ألم تعلم أن الله على كل شئ قدير . ألم تعلم أن الله له ملك السموات والأرض وما لكم من دون الله من ولى ولا نصير .. "[ البقرة ، 107].

يقول ابن عاشور فى استدلاله على المخاطب فى " تعلم " : " والخطاب فى تعلم ليس مراداً منه ظاهره الواحد وهو النبى صلى الله عليه وسلم ، بل هو إما خطاب لغير معين خارج على طريقة المجاز بتشبيه من ليس حاضراً للخطاب وهو الغائب منزلة المخاطب فى كونه بحيث يصير مخاطبا لشهرة هذا الأمر ، والمقصد من ذلك ليعم كل مخاطب صالح له . . . وإما مراد ه ظاهره وهو الواحد فيكون المخاطب هو النبى صلى الله عليه وسلم لكن المقصود منه المسلمون فينتقل من خطاب النبى  إلى مخاطبة أمته انتقالاً كنائياً .. فتارة يراد من الخاطب توجه مضمون الخطاب إليه وتارة يقصد توجه المضمون لأمته . . وهاهنا لا يصلح توجه المضمون للرسول لأنه لا يقرر على الاعتراف بأن الله على كل شئ قدير ، فضلاً عن أن ينكر عنه ، وإنما التقرير للأمة والمقصد من تلك الكناية التعريض باليهود[التحرير و التنوير ، 1 / 663].

3 ) قال تعالى : " و اللاتى تخافون نشوزهن .."[ النساء ، 34].

لخص ابن عاشور حاصل رأيه فى المسألة فقال : " يجوز لولاة الأمور إذا علموا أن لأزواج لا يحسنون وضع العقوبات الشرعية مواضعها ، ولا الوقوف عند حدودها ، أن يضربوا على أيديهم استعمال هذه العقوبة ، ويعلنوا أن من ضرب امرأته عوقب كى لا يتفاقم أمر الإضرار بين الأزواج لاسيما عند ضعف الوازع :- [التحرير و التنوير ، 5 / 37] و يتحدد استدلاله المقاصدى للحكم فى أمرين :

1 – مقصد الشارع القاضى بحفظ النفوس ومنها نفوس النساء من كل اعتداء نفسي أو جسدي. 

2 – الأصل فى قواعد الشرعية عدم قضاء أحد بنفسه إلا لضرورة .

3 ) – قال تعالى : " و إذ قال موسى لقومه يا قوم أنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم .. "[ البقرة 5].

قال ابن عاشور : " فى هذا تشريع حكم لا يكون مثله إلا عن وحى لا عن اجتهاد ، وان جاز الاجتهاد للأنبياء فان هذا حكم مخالف لقاعدة حفظ النفوس التى اتفق عليها شرائع الله، فهو يدل على انه كلفهم بقتل أنفسهم قتلا حقيقة"[ التحرير و التنوير ، 1/502].

4 ) قال تعالى : " يجعلون أصابعهم فى آذانهم من الصواعق …. ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم …"[ البقرة ،20].

يتكلم ابن عاشور عن معنى "لو" هنا ووظيفتها فيكون :" ليس المقصود من اجتلاب " لو" فى هذا الشرط إفادة ما تقتضيه " لو " من الامتناع لأنه ليس المقصود الإعلام بقدرة الله على ذلك ، بل المقصود إفادة لازم الامتناع وهو أن يوفر أسباب إذهاب البرق و الرعد أبصارهم الواقعين فى التمثيل متوفرة ، وهى كفران النعمة الحاصلة منهما ، إذ انهما رزقوها للتبصر فى الآيات الكونية وسماع الآيات الشرعية فلما اعرضوا عن الأمرين كانوا أحرياء بسلب النعمة،إلا أن الله لم يشأ ذلك إمهالاً لهم،وإقامة للحجة عليهم فكانت"لو" مستعملة مجازاً مرسلاً فى مجرد التعليق إظهاراً لتوفر الأسباب لولا وجود المانع"[ التحرير و التنوير 1 / 319].

هذه بعض الشواهد الدالة على توظيف بن عاشور مفهوم " المقاصد " فى الاستدلال سواء للأحكام الشرعية ، كما رأينا فى " تبصير الهدايا " أو " ضرب الزوجة " ؛ أو دلالات النصوص القرآنية كما فى تحديد المخاطب فى " تعلم " ، أو طبيعة الخطاب ( حقيقة أم مجاز فى قصة موسى ) أو فى التحليل اللغوى و البلاغى كالبحث فى معنى " لو " .

المبحث الثالث : ملامح من منهج أبى عاشور فى تفسيره :

لابد لنا و قبل أن نختم كلامنا عن ابن عاشور واتجاهه المقاصدى فى التفسير – أن نشير إلى بعض ملامح منهجه ، الذى توصل به إلى تحقيق غايته ، و أهدافه ، و مقاصده . وإضافة إلى ما سبق ذكره من بعض النقاط المنهجية فى سياق التأصيل " لعلم التفسير " ، يمكننا أن نورد ما ذكره ابن عاشور فى مقدمته عن منهجه فى تفسيره بعبارته ، إذ يقول :

" وان معانى القرآن ومقاصده ذات أفانين كثيرة بعيدة المدى مترامية الأطراف موزعة على آياته ؛ فالأحكام مبينة فى آيات الأحكام ، والآداب فى آياتها ، والقصص فى مواقعها ، وربما اشتملت الآية الواحدة على فنين من ذلك أو أكثر . وقد نحا كثير من المفسرين نحو بعض تلك الأفنان ، ولكن فناً من فنون القرآن لا تخلو دقائقه ونكته آية من آيات القرآن ، وهو فن دقائق البلاغة ، هو الذى لم يخصه أحد من المفسرين بكتاب كما خصوا الافانين الأخرى ، من أجل ذلك التزمت أن لا أغفل التنبيه على ما يلوح لى من هذا الفن العظيم فى آية من آى القرآن كلما ألهمته بحسب مبلغ الفهم وطاقة التدبر.

وقد اهتممت فى تفسيرى هذا ببيان وجوه الإعجاز ونكت البلاغة العربية وأساليب الاستعمال .

و اهتممت أيضا ببيان تناسب اتصال الآى بعضها ببعض ، وهو منزع جليل قد عنى به فخر الدين الرازى وألف فيه برهان الدين البقاعى كتابه المسمى "نظم الدر فى تنايب الآى و السور " الا أنهما لم يأتيا فى كثير من الآتى بما فيه مقنع ، فلم تزل أنظار المتأملين لفصل القول تتطلع ، أما البحث فى تناسب مواقع السور بعضها أثر بعض ، فلا أراه حقا على المفسر .

ولم أغادر سورة إلا بينت ما أحيط به من أغراضها لئلا يكون الناظر فى تفسير القرآن مقصورا على بيان مفرداته ومعانى جمله ، كأنها فقر متفرقة تصرفه عن روعة انسجامه وتحجب عنه روائع جماله .

و اهتممت ببيان معانى المفردات فى اللغة العربية بضبط وتحقيق مما خلت عن ضبط كثير منه قواميس اللغة . و عسى أن يجد فيه المطالع تحقيق مراده ، ويتناول منه فوائد ونكتا على قدر استعداده .. "[ التحرير و التنوير ،1/8].

ولابد أن نضيف إلى أنه يعتمد فى الفقه والإحكام على المذهب المالكى بصورة رئيسية مع تعرضه للمذاهب الفقهية الأخرى ، ولأقوال الصحابة و التابعين . وهو فى كل ذلك يحقق الأقوال ويرجح ويقارن دون أن يتحجر باتباع مذهب معين أو فكرة محددة ، بل يسير مع أى رأى يتفق ومنهجه التشريعى ورؤيته المقاصدية ، و إن لاحظنا أحيانا غلبة واضحة للمذهب المالكى باعتباره منبع هذه الرؤية و مؤصلها[صالح واسى ، منهج الامام محمد الطاهر بن عاشور الاجتهادى ، مجلة الهداية : عدد26،السنة 23،1999.ص43-52].

قد يرى البعض فيما نقلناه عن ابن عاشور فى تحديده منهجه ، وفى تفسيره عموما أن ابن عاشور إنما يعبر بما ذكره وطبقه فى تفسيره عن انتمائه إلى المدرسة البيانية الأدبية فى تفسير القرآن ولا أدل على ذلك من اهتمامه البالغ بعلم البيان والمعانى والبديع ، والوقوف على النكت البلاغية ، و إبراز ظواهر الإعجاز القرآنى[انظر:واسى(م.س) ص52 ومحمد المهدى العروسى (م.س) ص 307]!!

يجدر بنا فى هذا السياق ، و لإزالة هذا اللبس ،أن نشير إلى ظاهرة غريبة تتعلق بتفسير ابن عاشور .

وهى أن الناظر فى اهتماماته اللغوية يحسب أنه من البلاغيين الأدباء ، و الناظر فى تحليلاته الاجتماعية والسياسية والتاريخية يرى أنه من رؤوس الهدائيين وأعلامهم ، بينما يرجح آخر أنه من الفقهاء المجددين مما يراه من تحقيقات فقهية و أصولية واجتهادات حاذقة ..

وابن عاشور –فى حقيقته – بين هؤلاء وأولئك جامع "موفق" ، وترجيح انتسابه إلى إحدى المدارس التفسيرية تلك ليس بأولى من ترجيح انتسابه إلى أخرى . فهو يرى – كما نقلناه سابقا : " أن معانى القرآن ومقاصده ذات أفانين كثيرة بعيدة المدى مترامية الأطراف". لذا فقد جاء تفسيره على وفق هذه المقاصد متعدد الجوانب مختلف الاهتمامات، لا على نحو تجميعى تقليدى متناثر ، و إنما وفق نظرية ونسق محدد اختاره ابن عاشور ناظما لتفسيره وموحدا لاهتماماته ، الا وهو النسق المقصدى أو " النظرية المقاصدية ".

من هنا يمكن أن نفهم مثلا ان انشغال ابن عاشور بعلوم البلاغة و البيان و غيرها، إنما كان بالمقدار الذى يتوافق مع نظريته المقاصدية ويخدمها ، وليست غاية بحد ذاتها ومقصدا مستقلا اراد تحقيقه كما هو الحال عند أصحاب المدرسة الأدبية أو البلاغية … والكلام ذاته ينطبق على مختلف اهتمامات ابن عاشور العلمية فى تفسيره .

الخلاصة

بعد هذا الطواف السريع فى حياة ابن عاشور وفكرة وتفسيره ، وهذا التحليل المنهجى لاتجاه ابن عاشور وطريقته التفسيرية ، يمكننى أن أسجل - كخلاصة - بعض النتائج الرئيسية هنا :

1- يعد ابن عاشور أحد أعلام الإصلاحيين ، الذين اتخذوا التجديد والاجتهاد والإصلاح منهجاً وسبيلاً فى فكرهم وحياتهم . وما تفسيره إلا أحد نتاجات هذه الحركة التجديدية .

2- لقد انفرد ابن عاشور باتجاه مميز وطريقة خاصة فى التفسير ، دعوتها " الطريقة المقاصدية " أو الاتجاه المقاصدى " فى التفسير . وتتجلى المقولة الأساسية لهذا الاتجاة فى : توظيف جميع العلوم والوسائل والأدوات المعرفية المتوافرة فى الكشف عن المقاصد القرآنية وإظهارها على أحسن وجه ، تلك المقاصد المتمثلة فى إصلاح الفرد والمجتمع والأمة وهدايتهم .

3- إن النزعة النقدية والاتجاه المقاصدى لدى ابن عاشور لم ينشأ من فراغ ، وإنما كانا حصيلة عوامل كثيرة كان منها : انخراطه المبكر فى الحركة الإصلاحية المشرقية والمغربية وتشربه النزعة المقاصدية الكامنة فى مذهبه المالكى ، والتى طورها الشاطبى . الأمر الذى دفعه إلى تأسيس أول نظرية مقاصدية متكاملة بعد الشاطبى ، والدعوة إلى إنشاء علم مستقل يدعى . . علم مقاصد الشريعة .

4- يتميز اتجاه ابن عاشور المقاصدى عن غيره من الاتجاهات التفسيرية من جوانب متعددة . يأتى على رأسها رؤيته لوظيفة التفسير ومهمة المفسر . وهو إن اتفق مع الاتجاه الهدائى مثلاً من حيث النظرة إلى القرآن الكريم ودوره فى حياة المسلمين وحل مشكلاتهم الواقعية ، ولكنه يختلف معهم من حيث وظيفة التفسير المقتصرة على تجلية المقاصد القرآنية وإيضاحها ، باعتبار أن ذلك هو أول طريق للإصلاح .

5- احتل مفهوم " المقاصد مكانة مركزية فى فكر ابن عاشور عموماً وفى تفسيره خصوصاً . واتخذت وظيفته فى التفسير أشكالاً عدة منها : التأصيل التفسيرى ، تقصيد النصوص والأحكام ، الاستدلال بالمقاصد على الأحكام والدلالات .

6- لقد اختار ابن عاشور منهجاً ذا أبعاد وجوانب متنوعة ، ليتناسب ذلك مع نظريته المقاصدية التى تؤكد على تعدد المقاصد القرآنية وتنوعها ، وضرورة تناول القرآن من مختلف جوانبه ، و بمختلف الوسائل حتى تتبين جميع مقاصده على حد سواء .

ختاماً ؛ لا يسعنا إلا الاعتراف بأصالة هذا العالم – محمد الطاهر ابن عاشور – ونبوغه فى مختلف نواحى العلوم الإسلامية ، الأمر الذى تجلى فى تفسيره الذى جاء موسوعة علمية كبيرة حوت مختلف العلوم والمعارف ودلت على سعة ثقافته وأصالة فكرة. هذا إلى جانب الدور الإصلاحى التجديدى الذى أسهم به فى المغرب العربى ، حتى أصبح مدرسة مستقلة لها رجالها وتلاميذها ، مدرسة أصبحت تدعى " مدرسة مقاصد الشرعية " .

كما يجب القول بأن هذه الدراسة الموجزة ليست إلا خطوة صغيرة فى سبيل تحليل طريقة ابن عاشور ومنهجه التفسيرى ، أو فى سبيل دراسة وتحليل اى من رجال الإصلاح والتجديد الذين ظهروا فى عصرنا الحديث . وهى لذلك بحاجة إلى كثير من التعميق والتوسيع الذى حال دونه طبيعة الدراسة وضيق الزمن ، والله الموفق .

الحلقة السابقة هنا

المصدر: الملتقى الفكري للإبداع

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين