فتِّش عن الأُمّ !

الصّلة الطيبة بين الأُمّ وأبنائها في مراحل الطفولة والمراهقة تُمهِّد لصلة إيجابية ناجحة بينهم وبين زوجاتهم في المستقبل، وبين بناتها وأزواجهنّ.

هذا ما وصلت إليه دراسة أجرتها جامعة مينسوتا الأميركية ، فقد ذكر معدّو الدراسة أنه عندما تكون علاقة الأم بولدها في سن الطفولة علاقة داعمة ؛ فإنه سيكون أقدر على حل النّزاعات حين يبلغ سن الرُّشد ، وعلى التعامل مع زوجته بنجاح بعد الزواج .

وأوضحوا أن وجود روابط قويّة بين طرفين يترك تأثيراً متسامحاً وإيجابياً عند مواجهة وضع صعب مع الآخرين بعد ذلك، في حين أن الروابط الضعيفة قد لاتترك المجال مواتياً لحل الخلافات والنزاعات مع الآخرين فيما بعد.

وعليه فإن بر الأبناء والبنات بأمّهاتهم ، وإحسان صُحبتهن ، وخفض الجناح لهنّ ، يعدّهم -من حيث لايشعرون- لنجاح زواجهم فيما بعد.

وهنا نُدرك جانباً من جوانب الحكمة الكثيرة في وصية النبي صلى الله عليه وآله وسلم  بإحسان صحبة الأم ثلاث مرات قبل صحبة الأب ، فكيف بصحبة غيره من الناس؟ ألا تأتي في مراتب متأخّرة جداً بعد صحبة الأم؟! مثل صحبة الأصدقاء والزملاء وسواهم؟!

لقد أجاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم الرجل الذي جاء يسأله عن أحقّ الناس بحُسن صحابته فقال : (أمُّك ثم أمُّك ثم أُمُّك، ثم أبوك، ثم أدناك فأدناك) متفق عليه، وهذه رواية مسلم.

قال النووي رحمه الله: الصحابة هنا بمعنى الصحبة، وفي هذا الحثّ على بر الأقارب ، وأن الأم أحقّهم بذلك ، ثم بعدها الأب ، ثم الأقرب فالأقرب . 

قال العلماء : وسبب تقديم الأم كثرة تعبها عليه وشفقتها، وخدمتها، ومعاناة المشاق في حَمْله ثم وضعه ثم إرضاعه ثم تربيته وخدمته وتمريضه ، وغير ذلك.

قوله صلى الله عليه وآله وسلم  (ثم أدناك فأدناك)؛ يُستحب أن يُقدم في البِرّ الأم، ثم الأب، ثم الأولاد، ثم الأجداد والجدّات ، ثم الإخوة والأخوات ، ثم سائر المحارم من ذوي الأرحام كالأعمام والعمّات، والأخوال والخالات، ويُقدّم الأقرب فالأقرب.

لنسترجع الآن ماجاء في الدراسة من أن كَوْن علاقة الأم بولدها في سن الطفولة علاقة داعمة، وتحوّلها إلى قدرة على حل النزاعات في مرحلة المراهقة، ويُعدّ مؤشِّراً جيّداً على وجود رابط قوي في العلاقات عند بلوغ سن الرُّشد، يؤكّد أهمية ما يأمر به الإسلام من الإحسان إلى الوالدين، وخاصة الأم، ببرّها وخفض الجناح لها، ومخاطبتها بالكلام الّليّن الطيب.

ولن نعجب بعدها إذا وجدنا أنه كلما زاد عقوق الوالدين وانتشر.. زادت النزاعات الزوجية وانتشرت، ومن ثمّ زاد الطلاق وماينجم عنه من انهيار أُسَر وضياع أطفال.

ولعلّنا بهذا ندرك أكثر ما أحدثه خروج الأمّ من بيتها، للعمل أو لغيره، من أضرار على الأطفال وتربيتهم وإعدادهم ليكونوا أزواجاً صالحين.

وكثيراً ما نجد، حين تُعرض علينا نزاعات زوجية، أن أحد الزوجين جاء من أسرة كان فيها الأبوان منفصلين، أو الأُمّ متوفّاة، أو مهملة لأطفالها.

إن الأسرة حلقات مترابطة، تتبادل التأثير والتأثُّر، فإذا فُقِدت حلقة أو تخلخلت، ضَعُفت باقي الحلقات، وضَعُفَت السلسلة التي هي الأسرة.

نحتاج أكثر إلى تيسير تفرّغ الأم لرسالتها الجليلة وعملها العظيم في تربية أبنائها ورعاية أُسرتها، فهي بحقّ مدرسة؛ إذا أعددناها أعددنا شعباً صالحاً، ومجتمعاً ناجحاً، كما قال أحمد شوقي:

الأُمُّ مدرسةٌ إذا أَعدَدْتَها ** أعدَدْتَ شعباً طيّب الأعراق

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين