عزلة محمودة 

حين يرتقي المرء في روحه، ويسمو في صفاء قلبه، تنضج علاقاته، وتتقلص رغباته، وتحدد اهتماماته، ويكثر تأمله، وتزداد معرفته، وتتمدد مساحة اكتشاف المجهول عنده، فيأبى حينها أن يعيش كما كان.

وتكبر المعاناة عند العارفين، فمعرفتهم أكبر من واقعهم، وتأملهم أطول من أوقاتهم، واستشعارهم أقوى من تجاهلهم، وباطنهم أعمق من ظاهرهم.

يعيش المرء في هذه الحياة في سباق محموم للحصول على لقمة عيش، أو في هروب من واقع أليم، أو في مشقة نيل مطلب صعب، أو في حالة رثاء للنفس على أحلام لم تتحقق، ليحوّله الظرف والواقع عندها إلى ماكنة تطحن كل ذرة فيه من أجل المنافسة على البقاء، وذلك يزعج أهل الفكر والروح وأرباب السمو والتحليق في فضاءات المعنى والرمز، فيتأبّون على الذوبان في الواقع ومتطلبات المادة والجسد.

هنا تحاول أنفسهم أن تسحبهم نحو العزلة، ليعيشوا لحظات التأمل بحرية وهدوء، في خلوة ضرروية يحتاجها العقل والقلب بين حين وآخر، فإن طالت كانت على خلاف سنن الأنبياء والمصلحين، فالخلوة والعزلة محطة في الطريق لا نهاية الطريق، يحط المرء رحله فيها للتزود بزاد الروح للانطلاق نحو الواقع من جديد. 

من كان محلقا في السماء لا شك سيختار صحبة الملائكة، لكن لا بد له من العيش في الأرض مع الشياطين، يصارعهم ويسمو عليهم، سنة الله في العالمين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين