كيف تكون محبوباً! (1)

قبل أن أذكر معياراً من سلسلة معايير المحبوبية الربانية، سأبدأ بموقف يحدّد صلة قلوبنا بموجدها، ثم نعود بعده لنذكر صنفًا مميزًا من عباد الله "المحبوبين".

يروي أحد الصالحين قصة جارية، رآها قد تعلّقت بأستار الكعبة، وسمعها وهي تقول: يا وحشتي بعد الأنس، ويا ذُلي بعد العزّ، ويا فقري بعد الغنى. فقال لها: مالَكِ؟ أذهب لك مال أو أُصبتِ بمصيبة؟ قالت: لا، ولكن كان لي قلبٌ ففقدته! قال: وهذه مصيبتك؟ قالت: وأيُّ مصيبة أعظم من فَقْد القلوب، وانقطاعها عن المحبوب. ثم رفعت صوتها تدعو: يا رب، بحبك لي إلا رددت عليّ قلبي! فقال الرجل: من أي تعلمين أنه يحبُّك؟ فأجابت: جيّشَ من أجلي الجيوش، وأُنفِقت الأموال، وأخرجني من دار الشرك، وأدخلني في التوحيد، وعرّفني نفسه بعد جهلي به، فهل هذا إلا لعناية وحب؟!

ما أعظم هذا الامتنان! وما أثقل ذلك القلب في ميزان الحب!

محبوبنا استثنائي حتى آخر سطر من كتاب حياته، إنها قصةُ حبّ من أول لحظة إلى آخر لفظة، قصةُ حب متبادل، حبّ العبد لربه اللطيف، وحبّ الله لعبده الخطّاء الضعيف. 

حب فيه استعمال واستدلال، لا حب ادّعاء وأقوال!

كثيرون يولدون، ويعيشون، ويموتون، ولا يُستعملون! 

أما المحبوبون، فهم الذين يُستعملون! وهذه ميزة من ينتقيهم الله، ويصطفيهم..

فالخير كلّه، والحبّ كله، والصفاء والنقاء كله، والحلاوة كلّها، والعسل كله لمحبوب اليوم.

الخير والحب والنقاء والطيب والحلاوة والبشرى لمحبوب اليوم، لأن الأحاديث عنه قد وردت بهذه الصيغ، فقد روي عن نبيّنا صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إذا أراد الله بعبد خيرًا استعمله، قيل كيف يستعمله؟ قال: يوفّقه لعمل صالح قبل الموت، ثم يقبضه عليه". وفي رواية: إذا أحب الله عبدًا استعمله". وجاء أيضًا بصيغة: "إذا أراد الله لعبد خيرًا طهّره قبل موته". وورد في أثر صيغة جميلة جديدة لمحبوب الله تعالى قوله صلى الله عليه وسلم: "إذا أحب الله عبدًا عسَّله أو عسَلَه! فقيل: وما عسَّلهُ؟ قال: يوفّق له عملًا صالحًا بين يدي أجَلِه، حتى يرضى عنه جيرانه، أو قال: من حوله".

إكرام وتوفيق، اصطفاء وتخصيص، محبّة وفتوح، إلهامٌ بالخير، وانشراحٌ لأوجه البر، واستخراج للأفضل في الوقت الأصعب. إنه تيسير أعمال، وتعسيل ختام..

حب واستعمال على شكل توبة نصوح، أو صلاة خاشعة، أو صدقة نافعة..

تلاوة مؤثرة، فكرة لامعة، مشروع مفيد، دعوة خالصة، دعاءٌ صادق، هداية ضائع، تعليم جاهل، بناء مرفق يسهّل حياة الناس، برّ أبوين، سعي للرزق الحلال، وغيرها من أوجه الاستعمال للوقاية من الاستبدال.

هو محبوبٌ اختير ليستقبل الحياة الأبدية بأحسن حال، محبوبٌ يوحَى إليه، ويُصطفى، لينال أحلى مآل. ذلك أنّ أخطر ما يمكن أن نسمعه في هذه الظروف والأحوال: "أن يموت الإنسان على ما عاش عليه"، والأخطر من ذلك: "أن يُبعث على ما ماتَ عليه"!

لقد شبّه النبي صلى الله عليه وسلم ما ألهم الله عبده من العمل الصالح قبل الموت بالعسل، العسل الذي يحلو به كلّ شيء، العسل الذي إذا خالط سيئًا حسّنه.. فما رزق الله عبده من الأعمال الحسنة بين يدي أجله إلا ليطيّب ثناءه، ويرفع ذكره، ويُجمّل صيته، ويبقى له في أذهان الناس أحلى صورة.

فأن يحبّك الله فذلك يعني أن يستعملك، أن يطهرّك، أن يعسّلك، أن يلهمك البصمة الحلوة بين الناس، حتى إذا تركتهم، وغادرت دنياهم، لم يذكروك في مجلس إلا وطاب، ولم يستحضروا سيرتك في مقام إلا حلا، كما يطيّب العسل كل طعام، ويحلّي كل شراب.. 

محبوب معسول الأقوال والأفعال والمآل، طيّبٌ صيته، حلوٌ ذكره، مستبشِر ومُسْتَبْشَرٌ به.. عالي الهمة، دائم السعي، ثابت الخطى، مُلهَم العمل. 

محبوب شيمته الاستمرار، حتى يصل بأمان إلى دار القرار..

وقد اهتدى البعض لعبارة ثناء ودعاء، من وحي هذا الحديث، فصاروا يدعون لبعضهم استبشارًا: "عسّلك الله"، أي طيّب ثنائك، وأحسن عاقبتك، وأجمل آخرتك.

فاللهم عسّلنا، واستعملنا، وطهّرنا، واستخرج منا خير العمل لآخر العمر، ليكون أحبّ الأيام إلينا يوم لقائك، وأنت راضٍ عنا، ومحبّ لنا، كما أحببناك..

*سلسلة "كيف تكون محبوباً"، أكتبها لتكون علماً نافعاً وصدقة جارية عن روح أخي محمد رحمه الله تعالى، سائلة الله تعالى أن يلحقه أجرها، ويكتب له ثوابها، وثواب من ينتفع بها، راجية منكم الدعاء له بأن يكون عند الله من المحبوبين، ونحن معه أجمعين، ثم نشرها على نية القبول بإذن الله.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين