مُثُل عليا
الشيخ : محمد البنا


قال عُمر بن الخطاب رضي الله عنه للرسول الكريم صلى الله عليه وسلم حين استشاره في تبوك: إنَّ للروم جموعاً كثيرة وليس بالشام أحد من أهل الإسلام، وقد دنونا، وقد أفزعهم دنُّوك، فلو رجعنا في هذه السنة حتى نرى أو يحدث الله أمراً، فرضي الرسول صلى الله عليه وسلم واستراح لهذا الرأي الحكيم ولم يجاوز تبوك إلى أبعد منها، ورجع من غير مُقاتلة، ولكنه اتبع سياسته التي تلين القلوب وتهدئ ثورة الطغيان، فقد عقد مُعاهدة صلح مع يوحنا بن رؤبة صاحب أيلة:
بسم الله الرحمن الرحيم: هذا أمنة من الله ومحمد النبي رسول الله، ليوحنا وأهل أيلة: سفنهم وسيارتهم في البر والبحر، لهم ذمة الله ومحمد النبي ومن كان معهم من أهل الشام وأهل اليمن وأهل البحر، فمن أحدث منهم حدثاً فإنه لا يجوز ماله دون نفسه، وإنه لطيبة لمن أخذه من الناس، وإنه لا يحل أن يمنعوا ماء يردونه من بر أو بحر.
وكتب كتاباً آخر لأهل أذرح وجرباء من قرى الشام:
بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من محمد النبي لأهل أذرح وجرباء: إنهم آمنون بأمان الله وأمان محمد، وإن عليهم مائة دينار في كل رجب وافية طيبة، والله كفيل بالنصح والإخلاص للمسلمين.
وقد محا هذا الرفق النبوي ما في نفوس أعدائه من الغيظ والحنق، فأهدى يوحنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم هدية يقال إنها بغلة بيضاء، فكساه الرسول صلى الله عليه وسلم برداً، وهي البردة التي كانت عند خلفاء بني العباس، اشتراها من أهل آيلة أبو العباس السفاح بثلاثمائة دينار، وكانت التي اشتراها معاوية من كعب ابن زهير فقدت بعد زوال دولة بني أمية، وقصتها معروفة في كتب السيرة والأدب، وقد خلط بعضهم فلم يفرق بين البردتين .
ولست أطيل عليك في شرح كلمات هذه المعاهدات النبوية والبحث في تضاعيف كلماتها الجامعة الشاملة وما تفيض بها عباراتها من قوة في التعبير لا تترك منفذاً لمتأول ولا طريقاً لمتجوز، وكذلك تكون المعاهدات في تحريرها، حتى يأمن كل جانب ولا يخشى تحيفاً في التفسير أو انحرافاً في الفهم والتقدير.
وسأسير بك إلى موطن آخر من سياسة الرسول صلى الله عليه وسلم وموقف عظيم جليل من مواقف أصحابه، فقد انتهى صلى الله عليه وسلم من تبوك وأهلها ولكن في نفسه موجدة على أهل مؤتة الذين طغوا وقاتلوا جيشه، وقتلوا نفراً من خير رجاله، ورفضوا كلمة الإسلام وأبوا أن يخضعوا له، فبعث صلى الله عليه وسلم جيشاً إلى أبنى ـ مكان قريب من مؤتة ـ على رأسه أسامة بن زيد بن حارثة، وقال له: سِرْ إلى موضع قتل أبيك فأوطئهم الخيل، فقد وليتك هذا الجيش، فأَغِرْ صباحاً على أهل أبنى، وأسرع السير لتسبق الأخبار، فإن ظفرك الله فأقل اللبث فيهم، وخذ الأدلاء، وقدم العيون والطلائع معك، وكان أسامة بن زيد رضي الله عنه شاباً لا يتجاوز السابعة عشرة، وكان في جيشه أبو بكر وعمر وأبو عبيدة وسعد وغيرهم من كبار المهاجرين والأنصار، وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم أن يدرب المسلمين على قيادة الجيوش، وأن يعلمهم حسن الطاعة، ويرشدهم إلى أن السبق لا يكون بالأنساب والأحساب ولا بحسن البزَّة، ولا التقدم في الزمان، وإنما السبق لمن وهبه الله مزية العقل، ومنحه موهبة الحكمة والفضل، وقوة الإيمان وجودة الرأي هما ملاك الأمر، فليس بضائر أحداً ما توفرت له هذه الصفات ألا يكون عظيماً في حسبه أو شريفاً في نسبه، ولا يمنعه من القيادة ألا يكون قد طوى من الدهر أحقاباً، أو حالف السنين حتى فاته الشباب:
فما الحداثة عن علم بمانعة       قد يوجد العلم في الشبان والشيب.
ومن مبادئ الإسلام أنَّ المرء بأصْغَرَيْه قلبِه ولسانِه، فلا يتفاوت الناس فيه إلا برجحان العقل، وسلامة الفكر، وقوة الإيمان، وصحة الإدراك؛ أما غير ذلك من الصفات فلا يعتدُّ به في ميزان الإنسان، وقد أراد النبي صلى الله عليه وسلم بهذه السياسة أن يثبت هذه المبادئ في قلوب المسلمين ويشعرهم معنى المساواة التي ينشدها دينه الكريم، ولكن هذه الحكمة خفيت على بعض العقول فجرت على بعض الألسن قالة في نقد هذه الإمارة فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً، وخرج فقال: أما بعد أيها الناس، فما مقالة بلغتني عن بعضكم في تأميري أسامة، ولئن طعنتم في تأميري أسامة لقد طعنتم في تأميري أباه من قبله، وايم الله إن كان لخليقاً بالإمارة وإن ابنه من بعده لخليقاً بها، وإن كان لمن أحب الناس إليَّ، وإنهما لمظنة لكل خير، فاستوصوا به خيراً فإنَّه من خياركم .
ولكن النبي صلى الله عليه وسلم لحق بالرفيق الأعلى قبل أن يسافر جيش أسامة، واضطرب أمر المسلمين، وظهر النفاق، واشرأبت أعناق الأمم المجاورة، ومنع بعض العرب الزكاة، واستولت الحيرة على النفوس، وهنا تظهر صفحة خالدة للخليفة الأول أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتتجلى في تاريخ المسلمين مُثُل عليا من الثقة بالله وقوة اليقين، واطراح العظمة الكاذبة، ونبذ الأثرة الممقوتة، وإنك لو استقصيت التاريخ من أول صفحاته لا تعثر على مثل واحد في أمة من الأمم يشابه هذه الأمثلة أو يدانيها، فإنما نبعت هذه الفضائل من دين يمدها وإيمان يغذيها.
قال الناس لأبي بكر الصديق رضي الله عنه: إن هؤلاء ـ يعنون جيش أسامة ـ جند المسلمين، والعرب على ما ترى قد انتقضت بك، فلا ينبغي أن تفرق جماعة المسلمين عنك، فقال أبو بكر رضي الله عنه: والذي نفسي بيده لو ظننت أن السباع تتخطفني لأنفذت جيش أسامة كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذا مثل في الثبات أمام الخطر واستصغار الخطب، ومضاء العزيمة في مثل ذلك الموقف الذي فيه المسلمون، لا يضر به إلا رجل كان له من إيمانه وجهاده ما كان لأبي بكر، مما شهد به الرسول صلى الله عليه وسلم، ولما خرج الجيش إلى المعسكر وتكامل رجاله أرسل أسامة عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكان معه في جيشه إلى أبي بكر يستأذنه أن يرجع بالناس، وقال إن معي وجوه الناس وجلتهم، ولا آمن على خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن يتخطفهم المشركون.
وقال من مع أسامة من الأنصار لعمر ابن الخطاب: إن أبا بكر خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا فامض فأبلغه عنا أن يولي أمرنا أكبرنا سناً من أسامة، فخرج عمر بأمر أسامة إلى أبي بكر فأخبره بما قال أسامة، فأصر على ثبات رأيه واستمرَّ في مَضَاء عَزْمه، وقال عمر: لو خطفتني الذئاب لأنفذته كما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو لم يبق في القرى غيري لأنفذته! قال عمر: فإنَّ الناس تطلب رجلاً أقدم سناً من أسامة، فأدرك أبو بكر من هذا ما يخالج ضمائر القوم من تأمير أسامة عليهم، لأن نفوسهم لا يزال فيها أثر من الفخر بالجاه، والاستمساك بعرى الأنساب، والتفاضل بالأحساب، وهذه صفات الجاهلية الأولى التي حاربها الإسلام، فرأى أن يمحوَ من نفوسهم كل بقية من بقايا الكبرياء والتفاضل إلا بالتقوى والعمل الصالح، وأن يبدأ في ذلك بنفسه، وأبى إلا أن يضرب مثلاً آخر من مثله الرائعة، فخرج حتى أتاهم وأشخصهم وشيعهم وهو ماشٍ وأسامة راكب، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن. فقال: والله لا نزلتَ ولا ركبتُ، وما عليَّ أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله! فلم يَسَع الأنصار لما رأوا خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ماشياً في ركاب أسامة إلا السكوت، ولم يبدرْ من أحد منهم بادرة قط، بل ساروا مع أسامة، وأبدوا ما عرفوا به في جميع مواقفهم من القوة في الجهاد، والذب عن حياض الإسلام، والاستماتة في قتال الأعداء، ونسوا جميعاً خوالج النفوس ولم يبق لهم إلا هدف واحد هو إعلاء كلمة الله .
ونسوا جميعاً خوالج النفوس، ولم يبق لهم إلا هدف واحد هو إعلاء كلمة الله.
ولما أراد أبو بكر الصديق رضي الله عنه أن يرجع لم ينسَ أن يكون أسوة حسنة في أدب المعاملة مع قوَّاد الجيوش، إذ قال لأسامة: إن رأيت أن تعينني بعمر فافعل . فأذن له أسامة.
وهذه قدرة على النفس وسيطرة على النزعات ليس لهما من مثيل، هذا إمام أمره نافذ في جيوشه، وسلطانه مبسوط على قواده، أحب استبقاء رجل من رجال الجيش له منزلته وقوة نفسه ليستعين برأيه في الملمات، فلم يرد أخذه من الجيش إلا بإذن من قائده يريد بذلك أن ينبه من في هذا الجيش إلى وجوب الطاعة لأمر القائد، فلا يحيدون عن إمارته، ولا ينحرفون عن سننه،  ما دام فيهم أميراً ولهم قائداً، وقد كان في استطاعة أبي بكر رضي الله عنه أن يشافه الجيش بمثل هذا التنبيه ولكنه رأى أن يجعل المثل من نفسه، ويؤدب نفوسهم بأدبه، وهيهات أن تجد لمثل هذه العقول شبيهاً، أو ترى لهذه الآداب السامية مثيلاً، ولكنه أدب مقتبس من أدب الرسول صلى الله عليه وسلم، وكفى.
وإنك لترى من المثل الرائعة تلك الوصية التي يحملها التاريخ من أبي بكر الصديق رضي الله عنه لهذا الجيش؛ فأقل ما يقال فيها إنَّ هذه الدول التي تدعي أنها قطعت أشواطَ الحضارة حتى وصلت منها إلى الغاية لم تصلْ في مدنيتها ونظمها الحربية إلى قليل مما تضمنته هذه الوصية فهي تدعي الحرص على تخفيف ويلات الحروب، وتزعم أنها تكد وتنصب لخدمة الإنسانية والإنسان، ولكنها لم تستطع أن تكبح جماح شرورها عن الآمنين والوادعين، ولم تقصر ويلاتها على الحرب في الميادين، بل أرسلت لظى نارها ليصلاها كل إنسان، ويحترق بها الناس في كل مكان.
ولكن أبا بكر يقول لجيش أسامة: لا تخونوا، ولا تغدروا، ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تقتلوا طفلاً ولا شيخاً كبيراً ولا امرأة، ولا تعقروا نخلاً ولا تحرقوه، ولا تقطعوا شجرة مثمرة، ولا تذبحوا شاة ولا بقرة ولا بعيراً إلا للأكل، وسوف تمرون على قوم قد فرغوا أنفسهم في الصوامع فدعوهم وما فرغوا أنفسهم له، وسوف تقدمون على قوم فحصوا أوساط رؤوسهم وتركوا حولها مثل العصائب فأخفقوهم بالسيف خفقاً، ثم قال: اندفعوا باسم الله، وأوصى أسامة أن يفعل ما أمر الله به رسول الله صلى الله عليه وسلم فسار وأوقع ببعض قضاعة وأغار على أبنى ـ في الجنوب الغربي من الشام ـ وغنم وعاد بعد أربعين يوماً .
وصدقت فراسة أبي بكر الصديق رضي الله عنه في القائد الذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأثمر إيمان أسامة ورجال جيشه، ولم يكن ليخيب جيش جَهَّزه الصادق المصدَّق صلى الله عليه وسلم، وشهد لقائده بإحكام القيادة وحسن البلاء، ولم يكن ليثني من عزم أبي بكر الصديق رضي الله عنه تبرم رجال ممن وسوس لهم الشيطان فأنساهم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فمضى كل لطيته، وكانت العاقبة للمتقين.
وهكذا تسعد الأمم برجل واحد وتشقى بآخر، وليس بين الشقاء والسعادة إلا عقبة لا يقطعها إلا المعرضون عن الشهوات، المقاومون لهوى النفس، المالكون لإرادتهم، فلا يتركون عليها سلطاناً من حب الفخر وباطل الثناء.
وكذلك كان المسلمون الأولون، لو قلبت في تاريخهم لوجدتهم جميعاً يتسابقون في الفضل، ويتبارون في العمل النافع، ولا يشوبه رياء ولا تكاثر، ولو أنصف الناس لوضعوا من تاريخ الصف الأول من المسلمين صحائف أمام أعينهم لتكون مثلاً لهم يتأسونها، إذا كانوا يريدون الخير في الاقتداء .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين