المحدثون في جهادهم

لمَّا كان الدين هو الذي جاءنا عن الله عزَّ وجل وعن رسوله صلى الله عليه وآله وسلم بنقل الرواة حقَّ علينا معرفتهم، ووجب الفحص عن الناقلة والبحث عن أحوالهم، وإثبات الذين عرفناهم بشرائط العدالة والتثبيت في الرواية، مما يقضيه حكم العدالة في نقل الحديث وروايته، بأن يكونوا أمناء في أنفسهم، علماء بدينهم، أهل ورع وتقوى وحفظ للحديث واتقان به وتثبت فيه.

وأن يكونوا أهل تمييز وتحصيل، لا يشوبهم كثير من الغفلات ولا تغلب عليهم الأوهام فيما قد حفظوه ووعوه، ولا يشبه عليهم بالأغلوطات وأن يعزل عنهم الذين جرحهم أهل العدالة، وكشفوا لنا عن عوراتهم في كذبهم، وما كان يعتريهم من غالب الغفلة وسوء الحفظ وكثرة الغلط والسهو والاشتباه، ليعرف به أدلة هذا الدين وأعلامه وأمناء الله في أرضه عن كتابه وسنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهم هؤلاء أهل العدالة، فيتمسك بالذي رووه ويعتمد عليه، وليعرف أهل الكذب تخرصاً وأهل الكذب وهماً، وأهل الغفلة والنسيان والغلط ورداءة الحفظ، فيكشف عن حالهم وينبئ عن الوجوه التي كان مجرى روايتهم عليها، إن كذباً فكذب، وإن وهماً فوهم، وإن غلطاً فغلظ.

طبقات الرواة:

ثم احتيج إلى تعيين طبقاتهم ومقادير حالاتهم وتباين درجاتهم: ليعرف من كان منهم في منزلة الانتقاد والجهابذة والتنقير والبحث عن الرجال والمعرفة بهم وهؤلاء هم أهل التزكية والتعديل والجرح.

ويعرف من كان منهم عدلاً في نفسه من أهل التثبيت في الحديث والحفظ له والاتقان فيه فؤلاء هم أهل العدالة.

ومنهم الصدوق في روايته، الورع في دينه المتثبت الذي يهم أحياناً وقد قبله الجهابذة النقاد فهذا يحتج بحديثه أيضاً.

ومنهم الصدوق الورع المغفل الغالب عليه الوهم والخطأ والسهو والغلط، فهذا يكتب من حديثه الترغيب والترهيب والزهد والآداب، ولا يحتج بحديثه في الحلال والحرام.

ومنهم من قد ألصق نفسه بهم ودلسها بينهم، ممن قد ظهر للنقاد العلماء الرجال منهم الكذب، فهذا يُترك حديثه وتطرح روايته ويسقط ولا يشتغل به.

ولقد كان هؤلاء الجهابذة في سبيل الدين يبدون آراءهم في أمس الناس بهم، نصيحة للمسلمين وتقوى منهم، فزيد بن أبي أنسه - كما يذكر صحيح مسلم بشرح النووي – 

يقول (لا تأخذوا عن أخي) ويسأل عن المديني عن أبيه فيقول: (سلوا عنه غيري) فيعيدون السؤال من جديد فيطرق، ثم يرفع رأسه ويقول: (ه الدين، إنه ضعيف).

وكان أمر وكيع بن الجراح طريفاً، فقد كان رجلاً صالحاً، لا مأخذ عليه، غير أنه كان على بيت المال، ومن أجل وظيفته ه ذه كان ابنه – إذا روى عنه – يقرن معه آخر.

لقد كان سلفنا رضوان الله عليهم يعنون بالاسناد عناية فائقة، حتى لقد قال سفيان الثوري رضي الله عنه: (الاسناد سلاح المؤمن، فإذا لم يكن معه سلاح فبأي شيء يقاتل؟).

ويفسر الدكتور ناصر الدين الأسد العناية بالاسناد تفسيراً صادقاً فيقول ص 226 من كتابه النفيس (مصادر الشعر الجاهلي): (يبدو لنا أن التزام الاسناد المتصل في رواية الحديث إلى أمرين، أمر داخلي، وآخر خارجي.

أما الداخلي فمبعثه من نفس الراوي، ومصدره شعوره بالتحرج الديني، وذلك أنه يقنل كلاماً من كلام رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وهو الذي في حديثه المشهور: (من كذب عليَّ متعمداً فليتبوأ مقعده من النار).

وفي الإسناد المتصل ما يجعل المحدث يطمئن إلى أن غيره من شيوخه وشيوخ شيوخه، ثم التابعين والصحابة، يشتركون معه في تحمل هذا الحديث ونقله، وأنه لا يستقل وحده بحمل هذا العبء، وأن تبعته لا تعدو النقل الأمين لما سمعه من شيخ ثقة ثبت.

وأما الأمر الخارجي فمرجعه إلى سامعي الحديث من المحدث، وذلك أن الحديث يتضمن جزءاً كبيراً من السنة، أو هو السنة كلها، وهو من أجل مصدر من مصادر التشريع الإسلامي، بل إنه ذلك المصدر الثاني الذي يلي في القيمة كتاب الله فلذلك كان ما رأيت منهم من التدقيق والتحقيق، ومما يبعث الطمأنينة في نفوس السامعين، ويوحي إليهم بالثقة في حديث المحدث أن يصل بين عصره وعصر الرسول الكريم صلى الله عليه وآله وسلم بسلسلة متصلة من الرواة المحدثين، كلهم يشهد أنه سمعه ممن قبله حتى يصل الاسناد إلى الصحابة رضي الله عنهم فالرسول صلى الله عليه وآله وسلم) مصادر الشعر الجاهلي 258، 195 اهـ.

ودخل في هذا الباب – باب الاسناد – نقد الرواة وتصنيفهم إلى فئات يأخذون من بعضها ويتوقفون عن البعض، ويعلنون علا ملأ من الناس كذب البعض، وكان لهم في هذا المجال شعور مرهف، أو شعور مترف إذا أمكن هذا التعبير.

يقول الإمام مالك رضي الله عنه: لا يؤخذ العلم عن أربعة:

1 – رجل معلل بالسنة، وإن كان أروى الناس.

2 – رجل يكذب في أحاديث الناس، وإن كنت لا أتهمه أن يكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.

3 – وصاحب هوى يدعو الناس إلى سواه.

4 – وشيخ له فضل وعبادة إذا كان لا يعرف ما يُحدث به.

ولقد كان يحيى بن سعيد القطان رحمه الله تعالى يترك حديث للكثير ممن يظهر بعض الناس بهم الخير فقيل له: أما تخضى أن يكون هؤلاء الذين تركت حديثهم خصماءك عند الله يوم القيامة؟ فقال: لأن يكون هؤلاء خصمي أحبُّ إليَّ من أن يكون خصمي رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: لِمَ لَم تذبَّ الكذب عن حديثي؟!).

لقد اتفق المحدثون على ألا يأخذوا الحديث عن:

1 – الكذابون على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بل لقد اختلفوا في كفر هؤلاء، بل لقد اختلفوا في قبول الله لتوبتهم، ويكفي أن يعرف الكذب من أحدهم مرة واحدة على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فيسقط ذلك جميع أحاديثه.

على أن الكذب على الناس كان في ترك حديث الكذاب، حتى ولو كان يتحرج من الكذب على رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما ذكر الإمام مالك رضي الله عنه فيما سبق.

لأئمتنا في تعقب الكذابين طرائف: يقول الأستاذ السباعي في كتابه النفيس (السنة ومكانتها في التشريع الإسلامي): مبيناً بعض علامات الوضع في السند، ومنها أن يروي الراوي عن شيخ لم يثبت لقياه له أو ولد بعد وفاته، أو لم يدخل المكان الذي ادعى سماعه فيه، كما ادعى مأمون ابن أحمد الهروي أنه سمع من هشام بن عمار.

فسأله الحافظ ابن حبان: 

متى دخلت الشام؟

قال: سنة خمسين ومائتين.

قال ابن حبان: فإن هشاماً الذي تروي عنه مات سنة خمس وأربعين ومائتين، وكما حدث عبد الله بن إسحاق الكرماني عن محمد بن أبي يعقوب، فقيل له: مات محمد قبل أن تولد بتسع سنين.

وكما حدث محمد بن حاتم المكي عن عبد ابن حميد فقال الحاكم أبو عبد الله: هذا الشيخ سمع من عبد بن حميد بعد موته بثلاث عشرة سنة.

وفي مقدمة مسلم: أن المعلى بن عرفان قال: حدثنا أبو وائل، قال: خرج علينا ابن مسعود بصفين، وقال أبو نعيم يعني الفضل بن دكين، حاكيه عن المعلى، أتراه بعث بعد الموت؟ وذلك لأن ابن مسعود توفي سنة اثنتين أو ثلاث وثلاثين قبل انقضاء خلافة عثمان بثلاث سنين.

ولا شك أن العمدة في مثل هذه الحالة على التاريخ، تاريخ مواليد الرواة، وإقامتهم ورحلاتهم وشيوخهم ووفاتهم، ولذلك كان علم الطبقات قائماً بذاته علماً لا يستغنى عنه نقاد الحديث.

قال حفص بن غياث القاضي: إذا اتهمتم الشيخ فحاسبوه بالسنين، يعني: سنه، ومن كتب عنه.

وقال سفيان الثوري رضي الله عنه: لما استعمل الرواة الكذب استعملنا لهم التواريخ اهـ.

ومن أعجب ما روي في ذلك هو ما يرويه أبو أحمد بن عدي الحافظ عن الإمام محمد بن إسماعيل البخاري صاحب الجامع الصحيح قال: (سمعت عدة من مشايخ بغداد يقولون: أن محمد بن إسماعيل البخاري قدم بغداد، فسمع به أصحاب الحديث، فاجتمعوا وأرادوا امتحان حفظه.

فعمدوا إلى مائة حديث فقلبوا متونها وأسانيدها وجعلوا متن هذا الاسناد لاسناد آخر، وإسناد هذا المتن آخر، ودفعوها إلى عشر أنفس لكل رجل عشرة أحاديث،وأمروهم إذا حصروا المجلس أن يُلفقوا ذلك على البخاري، وأخذوا عليه الموعد للمجلس فحضروا وحضر جماعة من الغرباء من أهل خراسان وغيرهم من البغداديين.

فلما اطمأن المجلس بأهله، انتدب رجل من العشرة فسأله عن حديث من تلك الأحاديث فقال البخاري: (لا أعرفه).

فما زال يلقى عليه واحداً بعد واحد حتى فرغ والبخاري يقول: لا أعرفه.

وكان العلماء ممن حضر المجلس يلتفت بعضهم إلى بعض ويقولون: فهم الرجل

ومن كان لا يدري القصة، يقضي على البخاري بالعجز والتقصير وقلة الحفظ، ثم انتدب رجل من العشرة أيضاً فسأله عن حديث من تلك الأحاديث المقلوبة، فقال: (لا أعرفه) فسأله عن آخر فقال (لا أعرفه) فما زال يلقى عليه واحداً واحدً حتى فرغ من عشرته والبخاري يقول: (لا أعرفه) 

ثم انتدب الثالث والرابع إلى تمام العشرة حتى فرغوا كلهم من إلقاء تلك الأحاديث المقلوبة والبخاري لا يزيد على أن يقول (لا أعرفه).

فلما علم أنهم قد فرغوا التفت إلى الأول فقال: أما حديثك الأول فقلت كذا، وصوابه كذا، وحديثك الثاني كذا، وصوابه كذا والثاغلث والرابع على الولاء حتى أتى على تمام العشرة، فرد كل متن إلى اسناده وكل اسناد إلى متنه وفعل بالآخرين مثل ذلك.

فأقرَّ الناس له بالحفظ، وأذعنوا له الفشل، قال الحافظ بن حجر بعدما حكى هذه القصة قلت: هنا يخضع للبخاري.

فما العجب من رده الخطأ إلى الصواب، فإنه كان حافظاً، بل العجب من حفظه للخطأ على ترتيب ما ألقوه عليه من مرة واحدة).

ونختم هذا الفصل بقول الأستاذ العلامة الكبير الشيخ شبلي النعماني:

(لما أرادت الأمم الأخرى من غير المسلمين أن تجمع في أطوار نهضتها أقوال رجالها وروايتهم كان قد فات عليهم زمن طويل وانقضى بينها وبينهم عهد بعيد، فحاولوا كتابة شئون أمة قد خلت ولم يميزوا بين غث ذلك الماضي وسمينه، وصحيحه وسقيمه، بل لم يعلموا أحوال رواة تلك الأخبار ولا أسمائهم، ولا تواريخ ولادته، فاكتفوا بأن اصطفوا من أخبار هؤلاء الرواة المجهولين وروايتهم ما يوافق هواهم، ويلائم بيئتهم وينطبق على مقاييسهم).

ثم لم يمض غير زمن يسير حتى صارت تلك الخرافات كالحقائق التاريخية المدونة في الكتب وعلى هذا المنهاج السقيم صنفت أكثر الكتب الأدبية مما يتعلق بالأمم الخوالي وشئونها والأقوام القديمة وأخبارها، والأديان السالفة ومذاهبها ورجالها.

أما المسلمون فقد جعلوا لرواية أخبار والسير قواعد محكمة يرجعون إليها، وأصولاً متقنة يتمسكون بها:

أولها: وأعلاها ألا تروى واقعة من الوقائع إلا عن الذي شهدها، وكلما بعد العهد على هذه الواقعة فمن الواجب تسمية من نقل خبرها عن الذي شهدها، ثم تسمية من نقل ذلك الخبر عن الذي نقله عمن شهد، وهكذا بالتسلسل من وقت الاستشهاد بالواقعة والتحدث عنها إلى زمن وقوعها والتثبت عن أمانة هؤلاء الرواة، وفقههم وعدالتهم وحسن تحملهم للخير الذي يروونه.

وإذا كانوا على خلاف ذلك، وجب تبيِّنه أيضاً.

وهذه المهمة من أشق الأمور ومع ذلك فإن مئات من المحدثين تفرغوا لها، ووقفوا أعمارهم على تحري ذلك واستقصائه وتدوينه، وطافوا لأجله ورحلوا بين الأقطار، باحثين دارسين لأحوال الطبقة الرواة، وكانوا يلقون المعاصرين لهم من يعرفونه من أحوال كانت قبلهم.

وإذا اطمأنوا إلى سيرة فريق منهم سألوهم عما الرواة لينقدوا أحوالهم.

وقد اجتمع من هذا المجهود العلمي العظيم علم مستقل من العلوم الإسلاميَّة أطلق عليه فيما بعد عنوان: (أسماء الرجال) فتيسر لمن أتى بعدهم أن يقفوا على أقدار مئات الألوف من الحفاظ والعلماء والرواة وغيرهم.

هذا وبالله التوفيق 

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم 

المصدر: مجلة الجديد، 1 أغسطس 1977 - العدد 134

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين