علاقة الملائكة بالقرآن الكريم

الحمد لله ، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:

فإنه قد أفتى في غابر العصر الإمام ابو عمرو بن الصلاح الشهرزوري الشافعي المتوفى سنة 643هـ بأن الملائكة لا يقرؤون القرآن، ونصه : (ورد أن الملائكة لم يعطوا فضل قراءة القرآن ، وهي حريصة لذلك على استماعه من الإنس، فإذن قراءة القرآن كرامة أكرم الله بها الإنس) ( 1).

وأرسل قوله غفلاً من الاستدلال، متلفّعاً بالإجمال، فكان لا بد من دراسة موارد الأدلة، وتبيين وجوهها، حتى يظهر وجه الصواب.

أهمية الدراسة

-أنها تمتّ بنسب إلى ركن أصيل من أركان الإيمان، وهو الإيمان بالملائكة الكرام.

-وأنها تميط اللثام عن علاقة لم تأخذ حقها من البيان.

-وأنها تُتبع بسبب الى مسألة لمس المصحف للمحدث، وماذا قُصد بالمطهّرين في الآية التي استُدل بها على المنع.

-أنها تبرز خصّيصى عظمى خصّ الله بها البشر دون الملائكة وأكثرهم في غفلة عنها، وهي قراءة القرآن الكريم.

محددات الدراسة

تختص الدراسة بالآيات التي قيل انها تشير الى علاقة الملائكة بالقرآن، وتسبر أغوار البحث في دلالتها إثباتاً أو نفيا، مع التزام الاختصار.

الدراسات السابقة

لم أقف على أي دراسة مستقلة في المسألة، اللهم إلا بحثاً منشوراً على شبكة الألوكة للدكتور محمود عبد الجليل روزن، بعنوان (هل تقرأ الملائكة القرآن) لكنه لم يستوفِ-في نظري- الحدّ الأدنى من الحِجاج وإيراد الاعتراضات.

المطلب الأول: بيان أن جبريل عليه السلام هو المختص بإنزال الوحي دون غيره من الملائكة

وفيه قوله تعالى(قل من كان عدواً لجبريل فإنه نزله على قلبك) ، ومثله قوله تعالى(نزل به الروح الأمين على قلبك)

فهذه الآيات تفيد أن الملك الموكل بإنزال القرآن الكريم على قلب نبينا صلى الله عليه وسلم هو جبريل عليه السلام.

وإنكار أن جبريل عليه السلام هو صاحب الوحي كان من قول اليهود، إذ زعموا أن جبريل ينزل بالعقوبات لا بالوحي، وإنه لذلك عدو لهم، فنزلت آية البقرة في الرد عليهم( 2)، يقول الألوسي: (والضمير الأول البارز لجبريل والثاني للقرآن كما تشير إليه الأحوال، لأنها كلها من صفات القرآن ظاهرا...وقد دلت الآية على تعظيم جبريل والتنويه بقدره حيث جعلته الواسطة بينه تعالى وبين أشرف خلقه والمنزل بالكتاب الجامع للأوصاف المذكورة، ودلت على ذم اليهود حيث أبغضوا من كان بهذه المنزلة العظيمة الرفيعة عند الله تعالى ) (3 ).

أما آية الشعراء فبيّنت أن النازل بالوحي هو الروح الأمين وهو جبريل، يقول ابن عاشور: (والروح الأمين جبريل وهو لقبه في القرآن، سمي روحاً لأن الملائكة من عالم الروحانيات وهي المجردات.... والأمين صفة لجبريل لأن الله أمّنه على وحيه) ( 4).

وقد يقال هنا: ذكرتْ آيات أخر أن الله يرسل ملائكة غير جبريل، كقوله (الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس) وقوله (جاعل الملائكة رسلا) .

والجواب: أن الله يرسل ملائكة إلى البشر في غير الوحي، كما أشار إليه الشنقيطي( 5)، ومن ذلك إرساله الحفظة الذين يكتبون الأعمال، وإرساله ملك الموت ليقبض الارواح، وإرساله آخرين بالتثبيت والتبشير للمؤمنين، يدخل في ذلك وحي الإلهام.

ومما قد يشكل على هذا الجواب قوله تعالى (ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده أن أنذروا أنه لا أنا فاتقون) فإن الآية صرّحت بنزول جمع من الملائكة بالوحي والنذارة.

وقد أُجيب على هذا بجوابين:

الأول: أن المراد بالملائكة هنا جبريل وحده، وقد روي ذلك عن ابن عباس فيما ذكر الواحدي وقال: (وذكرنا فيما تقدم جواز تسمية الواحد باسم الجمع اذا كان ذك الواحد رئيساً مقدماً كقوله تعالى (الذين قال لهم الناس)(6 ).

وعليه فالروح هنا الوحي.

الثاني: أن المقصود جبريل ومن معه من حفظة الوحي، ذكره الألوسي( 7).

وهو قول لم يقم عليه دليل.

المطلب الثاني: بيان أن علاقة سائر الملائكة الثابتة بالقرآن هي التنزل لاستماعه من المؤمنين

وفيه قوله تعالى (إن قرآن الفجر كان مشهودا)

أي يشهد قراءة القرآن في صلاة الفجر ملائكة الليل وملائكة النهار، وهذا القول لم يذكر الطبري غيره( 8)، وعزاه الرازي الى الجمهور. (9 )

وقد استند من قال بذلك إلى جملة من الأحاديث والآثار، ومنها حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ويجتمعون في صلاة الفجر وصلاة العصر، ثم يعرج الذين باتوا فيكم، فيسألهم وهو أعلم بهم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلون وأتيناهم وهم يصلون) ( 10).

واختلف أهل العلم في نوع هذه الملائكة على قولين:

الأول: هم الحفظة، نقله عياض وغيره عن الجمهور .

الثاني: أنهم غير الحفظة، استظهره القرطبي، وقال ابن حجر: (يقوّيه أنه لم يُنقل أن الحفظة يفارقون العبد، ولا أن حفظة الليل غير حفظة النهار) (11 ).

وقد جاءت أحاديث أخر في حرص الملائكة على سماع القرآن، وهذه الأحاديث هي التي دعت ابن الصلاح إلى القول بأن الملائكة لم تؤتَ قراءة القرآن لذا فهي حريصة على سماعه.

المطلب الثالث: في دراسة الآيات التي ادعي أنها تفيد قراءة الملائكة للقرآن

وهذه الآيات هي:

-الآية الأولى: قوله تعالى (فالتاليات ذكرا)

اختلف المفسرون في دلالة هذه الآية .

فقيل : هم الملائكة، وهو قول مجاهد والسدي واختاره الطبري( 12).

وقيل: هو ما يتلى في القرآن من اخبار الامم، وهو قول قتادة(13 ).

وقيل: العلماء الذين يتلون آيات الله( 14).

وعلى القول بأنها الملائكة فلا يتأتى القول بقراءتهم القرآن، لأنه يمكن حملها على جبريل وحده لأنه كبير الملائكة، وهو قول الواحدي( 15) وعزاه لمقاتل.

ثم إن هذه الآية مثل قوله تعالى (فالملقيات ذكرا) فكما لا يمكن حمل هذه الآية على عمومها ، لأن الذي يلقي الوحي جبريل، فكذلك هذه، وقد قال الرازي في آية المرسلات: (وهذا الملقي وان كان جبريل عليه السلام وحده إلا أنه يجوز أن يسمى الواحد باسم الجماعة على سبيل التعظيم) ( 16).

-الآية الثانية (لا يمسه الا المطهرون)

وهذه الآية فيها أقوال:

الأول:أن المطهرين هم الملائكة، رواه الطبري عن ابن عباس وسعيد بن جبير وعكرمة ومجاهد( 17).

وهو اختيار مالك في «الموطأ» قال: (أحسن ما سمعت في هذه الآية إنما هي بمنزلة هذه الأية التي في عبس قول الله تبارك وتعالى (كلا إنها تذكرة في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة)( 18).

قال ابن عاشور: (يريد أن (المطهرون) هم السفرة الكرام البررة وليسوا الناس الذين يتطهرون) ( 19).

واختلف القائلون بهذا القول على من يعود الضمير على الكتاب المكنون أم القرآن، فصحح الرازي وابن عاشور الأول( 20)، وهو الظاهر لأنه أقرب مذكور، ومال الألوسي الى الثاني، لأن الكلام مسوق لبيان حرمة القرآن لا الكتاب المكنون( 21).

وعلى هذا القول تكون الآية خبرا لا أمرا.

وعليه أيضاً فلا يُقصد بالمسّ الحقيقة، ولكنه مجاز عن الطلب كقوله تعالى (وأنا لمسنا السماء) والمقصود المدح له بأنه بأيدي كرام بررة (22 ).

لكن يلاحظ أن هذه الكناية عن الطلب لا تكفي بمجردها للدلالة على القول بحصول قراءة القرآن من الملائكة.

الثاني: أن المطهرين هم المتطهّرون من الحدثين الأكبر والأصغر، وممن روي عنه ذلك محمد الباقر وعطاء وطاووس وسلمان( 23)، واختاره الجلال المحلي( 24) وابن عادل(25 )، للأحاديث الواردة بذلك، وعليه فتكون الآية أمراً بصورة الخبر.

وقد ردّ هذا القول ابن عطية بأنه إذا كان خبراً فهو في موضع الصفة، وقوله تعالى بعد ذلك (تنزيل)صفة أيضا، فإذ جعلناه نهياً جاء معنىً أجنبيا معترضاً بين الصفات، وذلك لا يحسن في رصف الكلام(26 ).

وناقشه ابن عادل بمنع تسليم أن (تنزيل) صفة بل خبر مبتدأ محذوف، أو على إضمار (نقول فيه) ( 27)، وهو جواب لا يخلو من تكلف ظاهر.

الثالث: أن معنى الآية: لا يجد طعم القرآن ونفعه إلا من آمن به، ذكره الفرّاء( 28) واختاره البخاري( 29) والراغب الأصفهاني(30)، وهو الذي أصغو اليه، لأن التطهير في أكثر موارده في القرآن تطهير النفس لا البدن، كما أنه لم يرد وصفاً للملائكة في غير هذا الموضع المختلف فيه.

-الآية الثالثة (بأيدي سفرة)

وهي من سياق قوله تعالى (كلا إنها تذكرة في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة)

وفيها أقوال:

الأول: أن السفرة الكرام هم الملائكة، رواه الطبري عن ابن عباس وابن زيد واختاره( 31).

الثاني:أنهم القراء، روى الطبري ذلك عن قتادة، وعلى هذا القول تكون الآية بشارة بنشر القرآن والإسلام بين الأمم( 32).

الثالث: أنهم الأنبياء، وجعل محمد عبده هذا القول مساوياً للأول، لأن السفير تطلق على الملائكة والانبياء(33 )، واستبعده الألوسي مستدلاً بأن الانبياء وظيفتهم التلقي للوحي لا الكَتْب لما يوحى، وبأن لفظ السفرة مختص بالملائكة لا يكاد يُطلق على غيرهم( 34) .

وكلامه فيه نظر من جهة أن ذكر الصحف لا يستلزم الكَتْب منهم، وبأن لفظ السفرة لم يُطلق في غير هذا الموضع فلا يتأتى تخصيصه بالملائكة.

ولم يأتِ القائلون بحمل الآية على الملائكة بدليل قوي يرجّح قولهم، سوى حديث (الماهر بالقرآن مع السفرة الكرام البررة) (35 ) وليس فيه تنصيص على كون المقصود الملائكة وإن فسره الشراح بذلك، واذا تطرق للدليل الاحتمال سقط به الاستدلال.

الخاتمة

من النتائج التي توصل اليها هذا البحث المختصر:

-أن جبريل عليه السلام هو الموكل بإنزال الوحي، وأن الآيات التي قد يُفهم منها غير ذلك يقصد بها الرسالة في غير الوحي.

-أن العلاقة الثابتة للملائكة بالقرآن الكريم هي الحرص على سماعه من المؤمنين.

-أن قول ابن الصلاح بعدم قراءة الملائكة للقرآن قول وجيه ولم يثبت ما ينقضه.

-أن دلالة الآيات التي قد يستدل بها على قراءة الملائكة للقرآن مرجوحة عند النظر الصحيح.

==========

(1) فتاوى ابن الصلاح، عمرو بن عثمان، تحقيق عبد المعطي قلعجي، دار المعرفة بيروت،ط1، 1406هـ، 1986م، ص234

( 2) انظر سبب النزول في جامع البيان ، محمد بن جرير الطبري، تحقيق عبد الله التركي هجر للطباعة، القاهرة1422هـ،2001م، 2/287.

( 3) روح المعاني، شهاب الدين الألوسي، دار احياء التراث العربي، بيروت ،1/333

(4 ) التحرير والتنوير، الطاهر بن عاشور، الدار التونسية للنشر،19/189

( 5) اضواء البيان، محمد الامين الشنقيطي، دار عالم الفوائد، 5/816

(6 ) التفسير البسيط، علي بن احمد الواحدي، جامعة الامام محمد بن سعود، الرياض، 1430هـ، 13/9

( 7) روح المعاني 14/93

( 8) جامع البيان 15/33

( 9) التفسير الكبير، محمد بن عمر الرازي، دار الفكر بيروت، ط1، 1401 هـ1981م، 21/29

( 10) صحيح البخاري مع الفتح رقم (555)2/33، تصوير دار المعرفة.

( 11) فتح الباري 2/35

(12 ) جامع البيان 19/494

( 13) جامع البيان 19/494

( 14) التفسير البسيط 19/9

(15 ) جامع البيان 19/494

( 16) تفسير الرازي 30/265

( 17) جامع البيان 22/362

( 18) الموطأ، مالك بن انس، دار احياء التراث العربي، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، 1406هـ1985م ،ص199.

( 19) التحرير والتنوير 27/334

( 20) تفسير الرازي29/194 التحرير والتنوير 27/334

( 21) روح المعاني 27/154

(22) حاشية الشهاب الخفاجي على البيضاوي، دار صادر بيروت، 8/149

( 23) روح المعاني 27/154

(24 ) تفسير الجلالين بحاشية الجمل، الجلال المحلي والجلال السيوطي،المطبعة الشرقية، مصر، 1303هـ، 4/292

( 25) اللباب في علوم الكتاب، عمر بن عادل، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، 1419هـ، 1998م، 18/437

( 26) المحرر الوجيز، عبد الحق بن عطية، وزارة الاوقاف القطرية، ط2، 1428 هـ،2007م، 8/211

( 27) اللباب 18/435

( 28) معاني القرآن، يحيى بن زياد االفراء، عالم الكتب، ط3،1403هـ 1983م، 3/130

( 29) صحيح البخاري مع الفتح 13/508

( 30) مفردات القرآن، الراغب الأصفهاني، دار القلم دمشق، ط4،1430هـ ، 2009م، ص525

( 31 )جامع البيان 24/109

( 32 )التحرير والتنوير 30/119

( 33) تفسير جزء عم، محمد عبده، مطبعة مصر، 1341هـ، ص18

( 34) روح المعاني30/42

(35 ) رواه مسلم (798)

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين