التعليق على كلمة الشيخ عبد الباعث في حقِّ بعض الصحابة رضي الله عنهم

الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وسلم.. وبعد:

فقد استمعتُ لمقطع من كلمة لفضيلة الشيخ محمد إبراهيم عبد الباعث الإسكندراني، وهو فاضل مشارك مطلع في التفسير والعربية، فوقع في غضون كلامه فيها أغاليط ومجازفات في حقِّ بعض الصحابة الكرام رضوان الله عليهم أجمعين نذكر منها ما سمعناه:

الأول: ادعى -حفظه الله- استثناء أهل البيت عليهم السلام في أخذ الحقوق والاقتصاص لهم ممن ظلمهم، وهو تحكُّم وتخصيص بلا مخصص، وعهدنا بالشيخ يرد أخبار الآحاد الصحيحة إذا عارضت المتواتر الكلي من الأصول العامة للشارع، والأصول ناطقة بأن الله يقتصّ لأهل الحقوق والمظالم كلهم دون تمييز بين أهل البيت أو غيرهم فالناس في المحشر سواء وأعمالهم هي الأصل، وكذا يتساوون في عفو الله تعالى، ولا يسوغ تخصيص طائفة دون أخرى، أو بمجرد النسب، ففي مسلم (من بطأ به عمله لم يسرع به نسبه) وقال السجاد عليه السلام: (كن عبداً حبشيا ولا تك فاجراً قرشيا).

الثاني: ناقض الشيخ فقال: إلا أن يعفو أهل البيت، فيقال: ما يدريك أنـهم لا يعفون عن معاوية رضي الله عنه وهم أهل الكرم والفضل والسماحة؟ فإن قلت: يسمحون ويعفون وهم أهل لذلك لزم بطلان كلامك هذا في معاوية، وإن قلت: لا يسمحون فقد نسبتَ أهلَ البيت عليهم السلام للمرتبة الأدنى من الأخلاق ومحاسن الشيم -حاشاهم- وكلاهما باطل.

وقد ذكر ابن أبي الدنيا في (المنامات) ومن طريقه ابن عساكر وابن العديم عن عمر بن عبد العزيز رحمه الله أنه رأى في منامه عليا سلام الله عليه ومعاوية رحمه الله دخلا بابا، فلم يكن بأسرع من أن خرج علي يقول: قُضي لي ورب الكعبة، وخرج معاوية يقول: غُفر لي ورب الكعبة.

الثالث: ادعى حفظه الله أنه لا يقال: إن القاتل مغفور له، وهو مهدر، لأنه مفروض فيمن قاتل جوراً وظلما وعصبية، ومعاوية إنما قاتل متأولا مجتهداً فيلزم أن يغفر له، بل يؤجر على اجتهاده لعموم حديث: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر) ولأنا أجمعنا على أنه باغ بقتاله كما نقل الإجماع النووي وغيره، والله يقول في أهل البغي: (وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا) والأصل أن من مات مؤمنا يستغفر له، ما لم يكن طاغية كيزيد والحجَّاج فكيف وهو صحابي استكتبه النبي صلوات الله وسلامه عليه، فدعواه المنع مخالفة للأصول. 

وأيضا فقد أخبر النبي صلوات الله عليه بأن الحسن سيد لإصلاحه بين الطائفتين، ولو كان معاوية ظالما جائراً بقتاله عليًّا ما حلَّ للحسن أن ينزل له عن الخلافة، ولا استحق بذلك وصف السيادة، بل هذا طعن في الحسن عليه السلام لأنه يلزم منه أنه رضي بظالم أبيه ومقاتله الغاصب وتولاه، والرضا بالظلم ظلم، واللازم فاسد فالملزوم مثله.

ولهذا كتب السيد العلامة محمد بن إبراهيم الوزير اليماني للإمام المهدي يقول:

لئن كنتَ مُقتديا بالحسين ... فلي قدوةٌ بأخيه الحَسَنْ

فقد حَمِدَ المصطفى فعلَهُ ......... لإطفائه لنَيار الفِتَنْ

ولو كان في فعلِهِ مخطئا ... لما كان للمدح معنىً حَسَنْ 

وفي إجماع الأمة على تصويب فعل الحسن دليل على أن معاوية لم يقاتل ظلما وجوراً، مع كونه باغيا مخطئا بالاتفاق لكنه لم يقصد البغي رضي الله عنه ولا قصد ابتداء عليّ عليه السلام بالقتال، فإن معه نوع حق بدليل حديث (تقتلهم أدنى الطائفتين للحق) وهو الطلب بدم عثمان رضي الله عنه، وهذا يقتضي الترضي والترحم عليه للإجماع على جواز الترضي والترحم على المخطئ المتأول، ومعنى بغيه امتناعه عن بيعة إمام وقته، فلهذا قاتله عليّ للإجماع على قتال من امتنع عن الدخول في بيعة إمام وقته.

الرابع: إيراده حديث (أصحابي) غلط منه، لأنه باتفاق الشراح يتنزل في أهل الردة، أو في المنافقين، وهم ثمانون منافقا معلومين بأسمائهم عدا من لا يعرفهم إلا حذيفة، ولو كان معاوية منهم لما أقرَّ حذيفة عمر على أن يوليه الشام، وأيضا فشأن الصحبة عظيم حتى قال عمر: (لولا صحبة له سبقت لا أدري ما صنع فيها لكفيتكموه) قاله في أنصاري سجع وتكهَّن، كما في كتاب (أخبار الخوارج) لمحمد بن قدامة المروزي بسند رجاله ثقات كما قال الحافظ ابن حجر في (كتاب الصحابة).

وقد قال الإمام الحافظ الحجة أبو محمد بن حزم رحمه الله ورضي عنه: الصحابة كلهم من أهل الجنة قطعاً، لأن الله قال: (لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلاً وعد الله الحسنى) وقال تعالى: (إن الذين سبقت لهم منا الحسنى أولئك عنها مبعدون).

يريد أنه تعالى وعد الجنة للسابقين من الصحابة قبل الفتح، ولـمن أنفق منهم وقاتل مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم بعد الفتح، بقوله: (وكلا وعد الله الحسنى)، ثم قضى سبحانه أن من تقدَّم له منه وعد بالجنة فهو عن النار بعيد، فتأمل كيف أوجب الجنة للصحابة كلهم بوجهين قاطعين: إثبات الجنة لهم، ونفي النار عنهم.

وهذا أصل قاطع في إثبات عدالتهم جميعاً، ولا يمكن أن ينخرم هذا الأصل القطعي بظنون وتواريخ محتملة مجملة معارضة بمثلها، والله لا يخلف وعده فلهذا قال العلماء: إن سيئات الصحابة لا تقع إلا مغفورة.!

وهنا أهل عظيم وهو أن الأمة أجمعت على اتباع الأئمة الأربعة لأن مذاهبهم نقاوة مذاهب السلف الأول وخلاصتها وصفوتـها، وقد حكى ابن السبكي في (معيد النعم) أن الأمة تلقَّت عقائد الطحاوي بالقبول والرضا والتسليم، وفيها أن الصحابة كلهم لا يذكرون إلا بالجميل. 

ولا يحفظ عن إمام من الأربعة سبّ معاوية أو النهي عن الترضي عنه والترحم عليه والاستغفار له، مع أنـهم ينصون على خطئه بقتال علي وينكرون عليه بعض تصرفاته كاستلحاق زياد، وقتل حجر بن عدي، وسب علي عليه السلام، والعهد ليزيد كما أنكر هذا وبعضه عليه ابن عباس وأم سلمة والحسن البصري وغيرهم، ومع هذا يترضى عنه أئمتنا قاطبة من أهل التفسير والفقه والحديث والكلام والتصوف كالأئمة الأربعة ونظرائهم وأهل الطريق كالجنيد والرفاعي والجيلاني والشاذلي وأمثالهم من أهل الله، والأشعري والماتريدي والباقلاني وأصحابـهم والمتكلمين من أصحاب أحمد، وحتى علماء العترة الطاهرة لا يتعرضون له لمقام الصحبة، إلا ما يرويه الروافض ولا عبرة به. 

فليعذرنا الشيخ عبد الباعث -عفا الله عنه- فنحن إنما نتبعهم ولا نتبعه، فإن جاءنا بنص منقول عن الأئمة في ذلك وإلا فهو الذي يتولى ما تولى، وقد قال ابن مسعود: (من كان مُستنّا فليستنَّ بمن مات فإن الحيَّ لا تؤمن عليه الفتنة) عفا الله عن الشيخ وختم لنا وله بالخير.

وأصل آخر وهو أن عمل المسلمين جرى بالترضي عن معاوية والترحم عليه مع إنكار أخطائه وتسميته بالباغي، فالتعلق ببعض الظواهر المظنونة في مخالفة هذا الأصل الذي هو عمل المسلمين غلط ولا يقوله عالم، بل لا يقوله إلا من جهل الأصول وأفرط في العصبية كالروافض، وإلا فالعمل مقدَّم على الدليل الظني كخبر الواحد والقياس، فكيف باجتهادات مظنونة مستندة إلى عمومات تخالف عمل المسلمين فهي أولى بالرد، وقد قال الله تعالى: (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى) الآية.

والعجب أن الشيخ ونظراءه من الأزهريين ينكرون على السلفيين دعوى اتباع الدليل وترك التمذهب، والخروج عن مذاهب الأئمة الأربعة لدليل ظاهره يخالفها، مع أنه قد يكون لقولهم بمقتضى الدليل سلف من فقهاء الأمصار من أفراد الصحابة والتابعين فمن بعدهم، ثم هو هنا في هذه المسألة يخالف مذاهب الأئمة في الترضي عن معاوية والاستغفار له، لما توهمه من الأدلة المظنونة ولا سلف له فيهم! فأين بالله الإنصاف؟ وبالله تعالى التوفيق.

ومن عجائب التاريخ أن الشاه عباس طهماسب الطاغية الذي فاق طغيان يزيد والحجاج وهو منتسب إلى السيد الإمام موسى الكاظم عليه السلام، كان قد عزم على غزو الموصل بعد غزو بغداد وكركوك واستباحته الدماء المعصومة واستحلاله الفروج المحرمة وتخريب العراق ونواحيه وإعماله السيف في أهل الإسلام، فكتب إلى السيد الشيخ حسن البرزنجي الحسيني الشافعي خطابا يذكر فيه ميله لأهل البيت عليهم السلام وحبّه لجعفر الصادق رضي الله عنه ورغبته في نشر مذهبه.

فكتب إليه السيد حسن يقول: (أما دعواك حب أجدادي فهذا الحب إن كان مشوبا ببُغض الأصحاب فلا ينفعك يوم الحساب، بل يكون سببًا للعذاب، وأما قولك: إنك راغب في نشر مذهب جعفر الصادق عليه السلام، فهو وإن كان من أكمل المجتهدين، وأجل التابعين، لكن لانقراض أصحابه لم يدون مذهبه، ولو علمنا تدوينه لاتبعناه لكوننا من ذريته) إلى آخر رسالته.

وقد بلغني أن فضيلة الشيخ عبد الباعث تكلم في خطبة له على هذا الأمر، وساق أحاديث ضعيفة، وبعضها لا يتم له الاستدلال به على مطلوبه، ولم أقف من كلامه إلا على هذا القدر الذي جمعنا هذه العجالة في نقضه، وكان خيراً له أن لا يخوض في هذا الأمر، ويخالف قومه وأهل مذهبه والأزهر والناس، ويوقع العامة في خبط ولبْس ويشغلهم عن مهمات دينهم وما بتلوا به من ندوب الدهر، فليس هذا من تصرف العقلاء الحكماء، وعهدنا به منهم، فكان يسعه ما وسعهم من السكوت وتفويض الأمر لأحكم الحاكمين إن لم يقنعه مذهب أئمة السنة وأولياء الله في جملة الصحب الكرام.

وقد قال بعض عقلاء الشيعة:

لعمرُكَ إن في ذنبي لشُغلا ....... عن ذنوب بني أُميّه

على ربي حسابـهمُ إليه ...... تناهى علمُ ذلك لا إليَّه

وليس بضائري ما قد أتوه ... إذا ما اللهُ أصلح ما لديَّه

والحمد لله، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وآله وأصحابه أجمعين.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين