كن مبادراً رائداً، لا تكن واحداً من الواحِدين

يتفاوت الناس بين قلّة حاملة وكثرة محمولة، أو إن شئت: قلّة دافعة وكثرة مدفوعة. فالقلة يشقّون الطرق والكثرة يتبعون ويقلدون، القلة يبادرون ويتقدمون في المُلِمّات المُهمّات والكثرة ينتظرون مَن يرشدهم إلى ما يصنعون، يقول قائلهم: إنما أنا واحد من الواحدين! وهذا من معاني قوله صلى الله عليه وسلم: "الناس كالإبل المئة لا تكاد تجد فيها راحلة"، أي أن المتميزين الملهِمين والقادة المتبوعين قد لا يزيدون على واحد في المئة من الناس.

هؤلاء القلّة هم الذين يحددون المسارات ويجددون الطاقات، وهم الذين يحركون الناس ويَمدّونهم بالتفاؤل والأمل، ويبعثون الروح في البدن المكدود ويشقون الطرق الجديدة عندما تصل القافلة إلى طريق مسدود. 

ليس لهؤلاء "الرواحل" صفة محدّدة كالسن العالي أو الشهادة المتخصصة، أو العلم الشرعي الغزير، بل يكفي أن يجتمع فيهم الإخلاص مع العقل الواعي والقلب الحيّ والهمة العليّة والمبادرة الذاتية والتقدير السليم.

* * *

عندما تشتد المحنة نحتاج إلى الرواحل أكثرَ من أيّ وقت، وقد وجدت بالملاحظة الدائبة أن كثيرين منهم يفرون من الميدان، إما لأنهم لا يعلمون أنهم من ذلك الصنف من الناس أصلاً، أو لأنهم يخشَون الفشل ويهابون المسؤولية وعواقبها الجِسام، فتراهم يتهربون ويتردّدون.

لكن الظروف الاستثنائية لا تحتمل التردد. عندما يقصف العدو مدننا بالبراميل وتنهار العمارة فوق ساكنيها لا ينتظر أصحابُ الهمَّة والمبادرة فرقَ الدفاع المدني وطواقمَ الإنقاذ المحترفة، بل يندفعون إلى العمل بوازع ذاتي يُمليه الإحساس بالواجب ويحركه الضمير، وهم يعلمون أن التردد والتأخر في الإنقاذ قد يكون فيصلاً بين الموت والحياة بالنسبة لبعض الناس. كذلك الشأن في علاج المصابين وإطعام الجائعين وإيواء المشردين وإغاثة المنكوبين، دائماً نجد من يتحرك من ذاته، من داخله، فهو يفتح الباب ويمهّد الطريق للآخرين الذين يأتون وراءه بعد حين.

* * *

لقد غيرت ثورتنا العظيمة الكثيرَ من المسلَّمات والمفاهيم، فلم تعد القيادة والمبادرة منتظَرة من طبقة عالية من الناس أو فئة مختارة منهم دون سواهم ولا هي محتكَرة فيهم؛ لقد صارت متوقَّعة من أشخاص عاديين مثلي ومثلك ومثل أخيك وجارك ورفيقك وكثيرين من أغمار الناس.

فلا تنتظر ولا تتردد يا صاحب الهمة العلية والنظر العميق والضمير الحي والوجدان النبيل، بل امضِ في دربك وشق طريقك في الحياة. ولا تستوحش لو مشيت فرداً في طريقٍ قَلَّ سالكوه، فسرعان ما تزدحم الطرق الجديدة بالسالكين، ومَن شقّ طريق خير تبعه فيه الناس فهو شريكهم في الثواب، كما في الحديث الصحيح: "من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً"، والحديث الآخر الجميل: "من دَلّ على خير فله مثل أجر فاعله".

* * *

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين