جامعات بلا أسوار

في مدينة صغيرة بجنوب ألمانيا كنت أسير بجوار مبنى الجامعة بصحبة أحد الأساتذة العرب المدرسين بها، ودار بيننا حديث حول عدم وجود أسوار للجامعة وبابها المفتوح على الشارع مباشرة، فقال لي صديقي:

كان في زيارتي أحد أقاربي ممن يحملون رتبا عسكرية عالية، واستفزه جدا عدم وجود أسوار للجامعة، واعتبره إختراق أمني كبير سيتسبب حتما في كارثة.!

وزاد استياؤه بإخباري له أنهم هنا في الغرب يعتبرون الجامعة مؤسسة خِدمَة عامة، يستطيع أي مواطن الاستفادة من خدماتها التعليمية والبحثية وما توفره مكتباتها.

ثم انعطف الحديث بيني وبين صديقي حول الاختلاف الجذري في مفهوم تربية الطالب بين بلادنا وبلاد الغرب، فقال لي صديقي:

من أهداف التربية في المؤسسات التعليمية الغربية : تهيئة الدارسين لينسجموا مع بيئتهم الاجتماعية، والقيام بدورهم كمواطنين في بلد ديموقراطي.

وبناء عليه فتهيئة المناخ التربوي لتنمية النشاط الطلابي في العمل العام والنشاط السياسي، هو جزء من وسائل تحقيق هدف المؤسسات التعليمية في تأهيل طلابها للمساهمة في القيام بدورهم في المجتمع، وهنا في هذه الجامعة يوجد اتحاد للطلاب المسلمين يمارس نشاطه بكل حرية جنبا إلى جنب مع اتحادات تمثل كافة شرائح المجتمع وتوجهاته السياسية.

قلت له: ياصديقي عندنا في بلادنا يعتبرون ممارسة الطلاب للسياسة والمشاركة في العمل العام نوع من الخروج والانحراف عن هدف المؤسسات التربوية.!

ولقد نقل لنا المفكر الراحل "زكي نجيب محمود" في كتابه "قيم من التراث" تجربة له في عضوية لجنة تم تشكيلها في منتصف الخمسينيات، بغرض وضع مقرر دراسي يستهدف تكوين المواطن الصالح، فوجد في بداية الجلسة الأولى مذكرة أمام الأعضاء تحدد لهم سلفاً تعريف المواطن الصالح : (مستجيباً، مطاوعاً، متجانساً في فكره وسلوكه مع مجموعة المواطنين.)

علق المفكر الراحل على هذا التعريف (طبعاً ليس داخل اللجنة ولكن بعدها بعشرات السنين) قائلاً : (كان المراد هو أن يكون المواطن الصالح مفتوح الأذنين أبكم اللسان.)، وهو تعبير مُلَطِف لوصف "القطيع".

وبذات الغرض وعلى ذات الطريق وفي نطاق الثقافة جاء في ورقة عمل اللجنة المُشَّكَّلة برئاسة الأستاذ "سيد ياسين" لوضع السياسة الثقافية للوزارة، والذي أقره المجلس الأعلى للثقافة برئاسة د. "جابر عصفور" وزير الثقافة عام 2014، تعريف السياسة الثقافية :" هي التي توجه الجوانب الثقافية اللامادية في المجتمع : المعتقدات ، الفكر ، الرأي ، الفن ، الأدب ، القيم ، العادات ، التقاليد ..... بهدف تحقيق أهداف وغايات تتفق وتوجهات الدولة الأيديولوجية ."!

ولا يخفى على لبيب أن معنى الدولة هنا (النظام الحاكم).

فالمسألة أعمق من أسوار مادية بين المؤسسات الخدمية (بما فيها أقسام الشرطة مثلاً) ، ولكن تتعداها لأسوار معنوية تحدد علاقة الفرد بالمجتمع وبالنظام الحاكم، وتنقله من خانة المواطن المسئول والمتساوي مع جميع المواطنين في الحقوق والواجبات، إلى خانة فرد تابع من رعايا الحكومة.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين