حدث في الخامس عشر من ذي الحجة قُتِل الضحاك بن قيس

في الخامس عشر من ذي الحجة من عام 64 قُتِل الضحاك بن قيس بن خالد الفِهري القرشي في معركة مرج راهط، شرقي دمشق، التي وقعت بين جيشه المؤيد لعبد الله بن الزبير وبين جيش الخليفة الأموي مروان بن الحكم.

ولد الضحاك بن قيس بن خالد الفِهري القرشي في مكة المكرمة سنة 4، وكنيته أبو أنيس وقيل أبو عبد الرحمن، وكان والده من أشراف قريش ويعمل في خصاء الغنم، ومثلَه مَثل كثير من الصحابة والتابعين لا تفيدنا المصادر كثيراً عن حياته ونشأته، وقبل أن نتحدث عن حياته ومقتله، ينبغي أن نذكر أخته الصحابية الفاضلة فاطمة بنت قيس، المتوفاة سنة 50، وهي أكبر منه بعشر سنوات، والتي كانت من المسلمات المهاجرات مع زوجها أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي، ولها عدة أحاديث أشهرها حديث في النفقة بعد طلاق أبي عمرو لها واستشارتها الرسول صلى الله عليه وسلم فيمن تتزوجه، وإشارة الرسول الكريم عليها بالزواج من أسامة بن زيد، وكانت ذات عقل وافر وكمال، وفي بيتها اجتمع أصحاب الشورى لما قتل عُمر بن الخطاب لانتخاب خليفته.

ويختلف العلماء في إن كانت للضحاك صحبة للرسول صلى الله عليه وسلم، وإن كانت له صحبة فهي على الأغلب بسيطة لا تذكر، فهو لذلك معدود في صغار الصحابة، ويرد أول ذكر له عن مشاركته في فتح دمشق في جيش أبي عبيدة بن الجراح، وأنه سكن دمشق مع من سكنها من الصحابة والتابعين، ثم وقوفه مع معاوية في نزاعه مع علي رضي الله عنه، وسواء كان صحابياً صغيراً أم تابعياً كبيراً فلا شك أنه كان من كبار الشخصيات السياسية في أيامه، كما سنرى.

ولما توفي أبو عبيدة بن الجراح سنة 18 في طاعون عمواس، عن 58 سنة، نزل الضحاك بن قيس في قبره مع معاذ بن جبل وعمرو بن العاص، وفي هذا دلالة على مكانة الضحاك من قومه بني فِهر، فقد كان أبو عبيدة رضي الله عنه فهرياً كذلك من ولد الحارث بن فهر، والضحاك من ولد محارب بن فهر، وهناك ثالث هو غالب بن فهر، فبنو فهر ثلاثة بطون.

وكان الضحاك قائد المشاة في عسكر دمشق في موقعة صفين سنة 37، فقد جعل معاوية على ميمنته ابن ذى الكَلاع الحِميَرى، وعلى ميسرته حبيب بن مسلمة الفهرى، وعمرو بن العاص على خيول أهل الشام كلها، ومسلم بن عقبة الـمُرِّى على رجالة أهل دمشق، والضحاك بن قيس على رجالة الناس كلها. ولما رفع أهل الشام المصاحف وطالبوا بتحكيم كتاب الله، أدرك الإمام عليٌّ رضي الله عنه ما يراد بذلك، ودعا في قنوت صلاة الفجر على قادة جيش معاوية الذين ذكرنا واحداً واحداً.

وقاد الضحاك أكثر من حملة أرسلها معاوية في سنة 38 وما بعدها على المناطق التي بسط عليها علي رضي الله عنه سلطانه مثل تدمر والبادية، يغير ويعود إلى الشام، وأراد عليٌّ أن يشن حملة مضادة فتقاعس أنصاره، فاستاء من ذلك وقال لهم علي المنبر: أكلما أقبل مِنسَرٌ من مناسر أهل الشام، أغلق كل امرئ بابه وانجحر في بيته انجحار الضب والضبع الذليل في وِجاره؟ أُفٍ لكم! لقد لقيت منكم! يوماً أناجيكم ويوماً أناديكم، فلا إخوان عند النجاء، ولا أحرار عند النداء، إن قلتُ نعم قلتم لا، وإن قلت لا قلتم نعم، إن استنفرتكم في الحر، قلتم الحر شديد فإذا جاء الشتاء نفرنا، وإذا جاء الشتاء واستنفرتكم، قلتم البرد شديد وإذا كان الصيف نفرنا، ولكن لا رأي لمن لا يطاع! وددت أن لي بجماعتكم ألف فارس.

وإلى جانب ذلك كان الضحاك من أهل الشورى لدى معاوية مع عمرو بن العاص وحبيب بن مسلمة وبُسر ابن أبي أرطأة وعبد الرحمن بن خالد بن الوليد وأبي الأعور السُّلمي وشرحبيل بن السِّمط الكندي، وتقول بعض الروايات إنه ممن مهد لمعاوية استخلاف يزيد على ولاية العهد من بعده.

ولما مات زياد بن أبيه سنة 53 ، عن 65 سنة، ولى معاوية الضحاك بن قيس على الكوفة، فسار فيهم سيرة حسنة يعفو ويصفح مع تهديد ووعيد دون ظلم أو تنكيل، خطب الضحاك بن قيس بالكوفة فقال: إنه بلغني أن فيكم رجالا يشتمون أئمة الهدى وينتقصون أمير المؤمنين عثمان، والله لئن لم ينتهوا لأضعن فيكم سيف زياد بن أبي سفيان ثم لا تجدوني ضعيف السَّورة، ولا كليل الشفرة، والله إني لصاحبكم الذي أغرت على بلادكم فسرت فيما بين الثعلبية وشاطيء الفرات أعاقب من شئت وأعفو عمن شئت، ولقد ذعرت المخبآت في خدورهن حتى أن المرأة لترهب صبيانها بي إذا بكوا فما تسكنهم إلا باسمي، واعلموا أني الضحاك بن قيس أبو أنيس قاتل ابن عميس.

فقام إليه عبد الرحمن بن عبيد فقال: صدق الأمير، أعرف والله ما تقول، ولقد لقيناك بغربي تدمر فوجدناك صبوراً وقوراً أبياً. ثم جلس وقال: يفخر علينا بما صنع ببلادنا؟! لقد ذكرته أبغض مواطنه إليه! ثم قال الضحاك: لقد رأيت منكم رجلاً بغربي تدمر وما كنت أرى في الناس مثله، حمل علينا فما كذب أن ضرب في الكتيبة بسيفه فصرع رجلاً وضربت رأسه ضربة شديدة وضربني فلم يصنع شيئاً، فما راعني إلا مجيئه عاصباً رأسه مقبلاً، فقلت له: أما نهتك الأولى عن الأخرى؟ فقال: ولِـمَ وأنا أحتسب ذلك في سبيل الله؟ ثم حمل علي فطعنني وطعنته، وحمل أصحابه فاقتتلنا ثم تحاجزنا. فقال عبد الرحمن بن عبيد أبي الكنود: ذلك يوم قد شهده هذا، يعني ربيعة بن ناجذ الأزدي، ولا أحسب هذا الفارس الذي ذكره الأمير يخفى عليه. قال له أتعرفه؟ قال: نعم، قال: من هو؟ قال: أنا. قال: فأرني الضربة. فأراه إياها فقال: أرأيك اليوم كرأيك يومئذ؟ قال: لا، رأيي اليوم الجماعة. قال الضحاك: ما عليكم مني بأس، أنتم آمنون ما لم تظهروا خِلافاً، ولكن العجب كيف نجوت من زياد فلم يقتلك فيمن قتل أو يسيرك؟! قال: أما التسيير فقد سيرني، وقد عافى الله من القتل.

ثم عزل معاوية الضحاك بن قيس سنة 57 وولى مكانه عبد الرحمن بن عبد الله الثقفي ابن أخته أم الحكم، وولى الضحاك شرطة دمشق، فبقي عليها 16 سنة حتى مات معاوية، وصاحب الشرطة منصب هام آنذاك يكاد يعدل نائب الأمير، بل إن معاوية لما قصد العراق سنة 41 بنية الصلح مع الحسن بن علي رضي الله عنهما، استخلف الضحاك على الشام.

وكان الضحاك مقرباً من معاوية بن أبي سفيان لا يغادر مجلسه، كان على عقيل بن أبي طالب دين فأتى أخاه علياً رضي الله عنه ليؤديه عنه، فرفض أن يعطيه من بيت مال المسلمين، فاستأذنه بالذهاب إلى معاوية، وكان عقيل زوج فاطمة بنت عتبة بن ربيعة خالة معاوية، فلما دخل على معاوية قال له: يا أبا يزيد، كيف تركت علياً وأصحابه؟ قال: كأنهم أصحاب محمد، إلا أني لم أر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم، وكأنك وأصحابك أبو سفيان وأصحابه، إلا أني لم أر أبا سفيان فيكم. فلما كان الغد قعد معاوية على سريره، وأمر بكرسي إلى جنب السرير، ثم أذن للناس فدخلوا، وأجلس الضحاك بن قيس معه على سريره، ثم أذن لعقيل فدخل عليه، فقال: يا معاوية، من هذا معك؟ قال: الضحاك بن قيس. فقال: الحمد لله الذي رفع الخسيسة وتمم النقيصة! هذا الذي كان أبوه يخصي بَهمَنا بالأبطح، لقد كان بخصائها رفيقاً. فقال الضحاك: إني لعالم بمحاسن قريش، وإن عقيلاً عالم بمساويها. وأمر له معاوية بخمسين ألف درهم، فأخذها ورجع.

ونذكر استطراداً أن قول الضحاك عن عقيل إنه أعلم بمساوئ قريش، له أصل فقد روي عن ابن عباس قال: كان في قريش أربعة يتنافر الناس إليهم ويتحاكمون: عقيل بن أبي طالب، ومخرمة بن نوفل الزهري، وأبو جهم بن حذيفة العدوي وحويطب بن عبد العزى العامري. وكان الثلاثة يعدون محاسن الرجل إذا أتاهم، فإذا كان أكثر محاسن نفروه على صاحبه. وكان عقيل يعد المساوئ، فأيما كان أكثر مساوئ تركه. فيقول الرجل: وددت أني لم آته، أظهر من مساويّ ما لم يكن الناس يعلمون.

كان الضحاك بن قيس مشهوراً بالشجاعة والإقدام ذا خبرة بالحرب والقتال، قال فيه الشويعر الحنفي، هانيء بن توبة:

إذا شمر الضحاك للحرب شبَّها ... غلامٌ غذته للحروب ربائبه

ودخل الضحاك بن قيس على معاوية، فتمثل معاوية بقول الشاعر:

تطاولت للضحاك حتى رددته ... إلى حسبٍ في قومه متقاصر

فقال الضحاك: قد علم قومنا أننا أحلاس الخيل. فقال: صدقت، أنتم أحلاسها، ونحن فرسانها، أنتم الساسة ونحن القادة. وأصل الحِلس كساءٌ يوضع تحت البرذعة على ظهر البعير ويلزمه، ومعناه هنا: أنهم من أصحاب الخيل يقتنوها، ويلزمون ظهورها.

كان الضحاك سرياً جواد، قدم المدينة فصلى بين قبر رسول الله صلى الله عليه وسلم والمنبر، فرآه رجل من التجار يكنى أبا الحسين وعليه بُرد ثمين من كسوة معاوية، فقال له وهو لا يعرفه: يا أعرابي أتبيع بردك؟ فواقفه من ثمنه على ثلاثمئة دينار، وقال: انطلق حتى أدفعه إليك. فأتى منزل حويطب بن عبد العزى فقال: يا جارية، هلمي بعض أردية أخي. فأخرجت إليه برداً فارتدى به، ثم قال للرجل: أراك قد أُغريت ببردي وأعجبت به، وقبيح بالرجل أن يبيع رداءه فخذه فهو لك. فأخذه الرجل فباعه فكان سبب يساره.

ولما حضرت معاويةَ الوفاةُ كان ابنه وولي عهده يزيد في الصيد، فاستدعى معاوية الضحاك بن قيس الفهري، وكان كما أسلفنا على شرطة دمشق، ومسلم بن عقبة فقال لهما: أبلغا يزيد وصيتي: انظر أهل الحجاز؛ فإنهم أصلك وعترتك، وأكرم من قدم عليك منهم، وتعاهد من غاب، وإن سألك أهل العراق في كل يوم أن تعزل عنهم عاملا وتولي عليهم عاملا فافعل، فإنَّ عزل عامل واحد أخف من أن يشهر عليك مئة ألف سيف، ولا تدري على من تكون الدائرة! وانظر أهل الشام، فليكونوا بطانتك وعيبتك، وإن رابك شيء من عدوك، فانتصر بهم، فإن أظفرك الله عليهم، فاردد أهل الشام إلى بلادهم؛ ولا يقيموا في بلاد غيرهم، فيتأدبوا بغير أدبهم، ولست أخاف عليك من قريش سوى ثلاثة، الحسين، وابن عمر، وعبد الله بن الزبير، فأما ابن عمر فقد وقدته العبادة، وأما الحسين فرجل ضعيف وأرجو أن يكفيكه الله تعالى بمن قتل أباه وخذل أخاه، وإن له رحما ماسة وحقا عظيما، وقرابة من محمد صلى الله عليه وسلم، ولا أظن أهل العراق تاركيه حتى يخرجوه، فإن قدرت عليه فاصفح عنه فإني لو صاحبته عفوت عنه، وأما ابن الزبير فإنه خَبٌّ ضَبٌّ فإن شَخَصَ لك فانبذ إليه إلا أن يلتمس منك صلحا،: فإن فعل فاقبل منه، واصفح عن دماء قومك ما استطعت.

ولما توفي معاوية، عن 73 سنة، في رجب من سنة 60 كان للضحاك بن قيس موقف في ضبط الأمور وحسم الفتنة المحتملة، فقد حمل أكفان معاوية، وصعد المنبر وخطب الناس وقال: إن أمير المؤمنين معاوية كان حد العرب، وعُودَ الغَرَب، قطع الله به الفتنة، وملّكه على العباد، وسير جنوده في البر والبحر، وكان عبداً من عبيد الله، دعاه فأجابه، وقد قضى نحبه، وهذه أكفانه فنحن مدرجوه ومدخلوه قبره، ومخلوه وعمله فيما بينه وبين ربه، إن شاء رحمه، وإن شاء عذبه.

وأرسل الضحاك إلى يزيد بمرض أبيه طالباً منه العودة إلى دمشق، فقدم وقد مات معاوية، وركب الضحاك بن قيس في جيش وخرج ليتلقى يزيد بن معاوية فلما وصل سلم عليه الناس بالإمارة وعزوه في أبيه، وهو يخفض صوته في رده عليهم، والناس صامتون لا يتكلم معه إلا الضحاك بن قيس.

ولم تمض أيام إلا وصحت نبوءة معاوية وتمرد عبد الله بن الزبير بالمدينة، ودام حكم يزيد 4 سنوات إلى وفاته في ربيع الأول من سنة 64، حدثت فيها أحداث جسام بغيضة، منها قتل الحسين رضي الله عنه في المحرم من سنة 61، ومنها موقعة الحَرَة بالمدينة في ذي الحجة من سنة 63، حين خلع وجهاء أهل المدينة يزيد بن معاوية وكانوا قد رجعوا من عنده وقد أكرمهم وكساهم، وأخرجوا من المدينة بني أمية ومواليهم، فسيَّر إليهم يزيد جيشاً على رأسه مسلم بن عقبة، حاصر المدينة ثم هاجمها وهزم أهلها واستباحها ثلاثة أيام قُتل فيها سبعمئة من حملة القرآن وعشرة آلاف من سائر الناس. وروى المدائني أن مسلم بن عقبة بعث روح بن زنباع إلى يزيد ببشارة الحرة، فلما أخبره بما وقع قال يزيد: واقوماه! ثم دعا الضحاك بن قيس فقال له: ترى ما لقي أهل المدينة؟ فما الذي يجبرهم؟ قال: الطعام والأعطية. فأمر بحمل الطعام إليهم وأفاض عليهم أعطيته.

وتوفي يزيد في ربيع الأول من سنة 64، وتولى الملك بعده وبعهد منه ابنه معاوية بن يزيد، وكان شاباً صالحاً ناسكاً زاهداً في الملك، لم يخرج إلى الناس ويصلي بهم كما هي عادة الخلفاء، وكان الضحاك بن قيس هو الذي يصلي بالناس ويسير الأمور، ثم توفي معاوية بن يزيد بعد بضعة أسابيع من ولايته، ورفض أن يعين خليفة له، وقيل له لما حضرته الوفاة: ألا توصي؟ فقال: لا أتزود مرارتها إلى آخرتي وأترك حلاوتها لبني أمية.

ولما مات معاوية بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان مال أكثر الناس إلى ابن الزبير، وقالوا: هو رجل كامل السن، وقد نصر أمير المؤمنين عثمان، وهو ابن حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمه بنت أبي بكر الصديق، وله فضل في نفسه ليس كغيره. وتبع أمراء الشام الرأي العام فدعا النعمان بن بشير بحمص إلى عبد الله بن الزبير، ودعا إليه كذلك زُفر بن الحارث بقنسرين، وأما الضحاك بن قيس فدعا في دمشق إلى ابن الزبير سراً لوجود بني أمية وكلب في دمشق، واستتب الأمر لابن الزبير إلا في فلسطين والأردن.

وجرى ذلك في ظل استقطاب شديد بين القبائل العربية المنتمية إلى قيس وموطنها الحجاز وأواسط الجزيرة العربية والتي أيدت عبد الله بن الزبير، وبين القبائل المنتمية إلى كلب وموطنها جنوب الجزيرة العربية واليمن والتي أيدت الأمويين، وبالطبع لم يخل الأمر من مداخلات تبين سخف هذه النعرة العصبية الجاهلية المنتنة نذكر منها على سبيل المثال أن بني أمية من قيس، وأن الضحاك والنعمان بن بشير كانا متزوجين من كلب.

وكان الأمير على فلسطين والأردن حسان بن مالك بن بَحْدل الكلبي، وكانت عمته ميسون زوجة معاوية ووالدة يزيد، وكان صاحب رأي وتدبير، ويطمح لأن يكون الخليفة قريبه خالد بن يزيد، وعلم بميل الضحاك بن قيس إلى ابن الزبير فكتاب له كتاباً ليثنيه عن ذلك، وذكر فيه حق بني أمية وبلاءهم عنده، وذمَّ ابن الزبير وذكر خلافه ومفارقته الجماعة، ودعا إلى مبايعة رجل من بني حرب من بني أمية، وقال لرسوله: إن قرأ الضحاك كتابي على الناس، وإلا فاقرأه أنت. وكتب إلى بني أمية يعلمهم ما كتب به إلى الضحاك، ويأمرهم أن يحضروا ذلك.

ولم يقرأ الضحاك كتاب حسان على الناس، ومرت أيام ثم خرج الضحاك ذات يوم فصلى بالناس صلاة الصبح، ثم ذكر يزيد بن معاوية فشتمه، فقام إليه رجل من كلب فضربه بعصاً، واقتتل الناس بالسيوف، ودخل الضحاك دار الإمارة، فلم يخرج، وافترق الناس ثلاث فرق: فرقة زبيرية، وفرقة بَحْدلية - هواهم لبني حرب - والباقون لا يبالون لمن كان الأمر ما بقي في بني أمية.

وكان أحد أسباب ضعف مركز المعسكر الأموي هو أن خالد بن يزيد المرشح لخلافة معاوية بن يزيد كان لا يزال غلاماً، وأن ابن الزبير كان كهلاً معروفاً بالتقوى والورع، وقال جمهور المعسكر الأموي لزعمائه: إنا نكره تولية هذين الغلامين عبد الله وخالد ابني يزيد، فإنهما حديثةٌ أسنانهما، ونحن نكره أن يأتينا الناس بشيخ ونأتيهم بصبي. فاتجه الأمويون لمبايعة الوليد بن عتبة بن أبي سفيان، فأبى، وما لبث أن مات.

وأرسل الضحاك بن قيس إلى بني أمية فأتاه مروان بن الحكم، وخالد وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية، وعمرو بن سعيد بن العاص الملقب بالأشدق، وكان والي معاوية ويزيد على الحجاز، وكان خطيباً بليغاً محبوباً عند أهل الشام، فاعتذر الضحاك إليهم، وذكر حسن بلائهم عنده، وأنه لم يُرِد شيئاً يكرهونه، وقال: اكتبوا إلى حسان بن مالك بن بحدل حتى ينزل الجابية، ثم نسير إليه فنستخلف رجلاً منكم. فكتبوا إلى حسان، فنزل الجابية، وخرج الضحاك بن قيس وبنو أمية يريدون الجابية.

وفي الطريق إلى الجابية قال معن بن ثور السُّلمي ومن معه للضحاك: دعوتنا إلى بيعة رجل أحزم الناس رأياً وفضلاً وبأساً، فلما أجبناك خرجت إلى هذا الأعرابي من كلب تبايع لابن أخته خالد بن يزيد! قال: فما الرأي؟ قالوا: نظهر ما كنا نخفي، وندعو إلى طاعة ابن الزبير. ففعل وبايعه الناس، وبلغ ذلك ابن الزبير فكتب إلى الضحاك بعهده على الشام، وكتب الضحاك إلى أمراء الأجناد ممن دعا إلى ابن الزبير فأتوه.

ويبدو أن تحول الضحاك عن تأييد الأمويين إلى عبد الله بن الزبير بدأ على الأقل مع وفاة يزيد لأنه كتب حينذاك كتاباً إلى قيس بن الهيثم السُّلمي، المتوفى سنة 85، وكان والي خراسان الأسبق ومن أعيان البصرة، وكان كذلك مؤيداً لبني أمية ثم تحول فأيد عبد الله بن الزبير، وكانت رسالة الضحاك تدعوه إلى التشاور قبل أن يتخذ موقفاً من تأييد الأمويين أو ابن الزبير: سلام عليك، أما بعد. فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: إن بين يدي الساعة فتنا كقطع الليل المظلم، فتنا كقطع الدخان، يموت فيها قلب الرجل كما يموت بدنه؛ يصبح الرجل مؤمنا ويمسي كافرا، ويمسي مؤمنا ويصبح كافرا، يبيع أقوام خَلاقهم ودينهم بعَرَض من الدنيا، وإن يزيد بن معاوية قد مات، وأنتم إخواننا وأشقاؤنا فلا تسبقونا حتى نختار لأنفسنا.

وكان عبد الله بن الزبير، على سابقته في الإسلام وصلاحه وعبادته، صاحب خصال لا تناسب الخلافة الموفقة، فقد كان مستبداً برأيه، إذا عَرَض له أمر أمضاه من غير روية ولا مشاورة، ومن ناحية أخرى كان شحيحاً في إنفاقه على من حوله، جاءه أخوه مصعب بوجوه أهل العراق وقال له: يا أمير المؤمنين، جئتك بوجوه أهل العراق، لم أدع لهم بها نظيراً، لتعطيهم من هذا المال؛ قال: جئتني بعبيد أهل العراق لأعطيهم مال الله! والله لا فعلت. فلما دخلوا عليه وأخذوا مجالسهم، قال لهم: يا أهل الكوفة، وددت والله أن لي بكم من أهل الشام صرف الدينار بالدرهم، بل لكل عشرة رجلاً. قال عبيد الله بن ظبيان: أتدري يا أمير المؤمنين ما مَثلنا ومَثلك فيما ذكرت؟ قال: وما ذلك؟ قال: فإن مثلنا ومثلك ومثل أهل الشام، كما قال أعشى بكر بن وائل:

عُلِّقتُها عَرضاً وعُلِّقت رجلاً ... غيري وعُلَّق أخرى غيرها الرجلُ

أحببناك نحن، وأحببتَ أنت أهل الشام، وأحب أهل الشام عبد الملك. ثم انصرف القوم من عنده خائبين، فكاتبوا عبد الملك بن مروان وغدروا بمصعب بن الزبير.

وبسبب من الخصلة الأولى ارتكب عبد الله بن الزبير خطأ سياسياً جسيماً، فقد أخرج بني أمية من مكة، وكتب إلى عبد الله بن مطيع واليه بالمدينة أن يخرج من بها من بني أمية إلى الشام، فزادهم حنقاً على حنق، وجعلهم بعيداً عن سلطانه، وجمع وجوههم في مكان واحد يتشاورون ويأتمرون، وكان مروان بن الحكم بن أمية يومئذ شيخهم، وهو المولود سنة 2، وابنه عبد الملك ناسكهم ومن يصدرون عن رأيه، وكانت سن عبد الملك يومئذ 28 سنة، وبه جدري قد ظهر به، فدخلهم من إخراجهم عن المدينة أمر عظيم، وحمل مروان ابنه عبد الملك على جمل وشده عليه شدا.

ثم إن وجوه قريش ومشايخهم اجتمعوا إلى ابن الزبير فقالوا: بلغنا ما أمرت به من إلحاق بني أمية بالشام، وإنما بعثتَ عليك أفاعي لا يبل سليمها، أمثلُ مروان وبني أمية يُشخَصون إلى الشام؟ فوجه ابن الزبير رسولا إلى ابن مطيع بكتاب منه يأمره فيه بإقرار بني أمية بالمدينة وترك إشخاصهم، فاتبعهم حتى وافاهم بأداني أرض الشام فعرض عليهم الانصراف فأبوا، وقال عبد الملك وقد نقه من مرضه للرسول: قل لأبي خبيب إنا نقول لا حول ولا قوة إلا بالله، يصنع الله.

ولما أجمع أمراء الشام على بيعة ابن الزبير فقد الأمويون الأمل، حتى إن مروان بن الحكم قرر أن يبايعه، وخرج يريد السفر إلى ابن الزبير في الحجاز ليبايع له ويأخذ منه أماناً لبني أمية، وخرج معه عمرو بن سعيد، فلقيهم عبيد الله بن زياد بأذرعات مقبلاً من العراق، فأخبروه بما أرادوا، فقال لمروان: سبحان الله، أرضيتَ لنفسك بهذا؟ تبايع لأبي خُبيب وأنت سيد قريش، وشيخ بني عبد مناف؟؟ والله لأنت أولى بها منه. فقال له مروان: فما الرأي؟ قال: الرأي أن ترجع وتدعو إلى نفسك، وأنا أكفيك قريشاً ومواليها، فلا يخالفك منهم أحد. فأخذ مروان بهذا الرأي وعاد.

وكان عبيد الله بن زياد يزور الضحاك كل يوم ، فقال له يوماً: يا أبا أُنيس، العجب لك وأنت شيخ قريش تدعو لابن الزبير وتدع نفسك، وأنت أرضى عند الناس منه، لأنك لم تزل متمسكاً بالطاعة والجماعة، وابن الزبير مشاقً، مفارق، مخالف، فادع إلى نفسك. فدعا إلى نفسه ثلاثة أيام، فقال الناس له: أخذت بيعتنا وعهودنا لرجل ثم دعوتنا إلى خلعه من غير حدث أحدثه، وأن نبايع لك! وامتنعوا عليه، فلما رأى ذلك الضحاك عاد إلى الدعاء إلى ابن الزبير فأفسده ذلك عند الناس، وغيَّر قلوبهم عليه، وكان ذلك مكيدة من عبيد الله بن زياد الذي تابع كيده فقال للضحاك: قد حصرت نفسك بدمشق، من أراد ما تريد لم ينزل المدائن والحصون، فاخرج فعسكِرْ ناحية يأتيك الناس من كل أوب، فإنك كبير قريش والمنظور إليه. فخرج الضحاك فنزل مرج راهط، وبقي عبيد الله بدمشق، ومروان وبنو أمية بتدمر، وخالد وعبد الله ابنا يزيد بن معاوية عند حسان بن مالك بن بحدل، وكتب عبيد الله إلى مروان أن ادعُ الناس إلى بيعتك، ثم سر إلى الضحاك، فقد بان أمره للناس.

ومهد روح بن زنباع الجذامي لبيعة مروان بن الحكم، فقام في جمع الناس فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أيها الناس، إنكم تذكرون عبد الله بن عمر ابن الخطاب وصحبته من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقدمه في الإسلام، وهو كما تذكرون؛ ولكن ابن عمر رجلٌ ضعيفٌ، وليس بصاحب أمة محمد الضعيف، وأما ما يذكر الناس من عبد الله بن الزبير ويدعون إليه من أمره، فهو والله كما يذكرون بأنه لابنُ الزبير حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن أسماء ابنة أبي بكر الصديق ذات النطاقين، وهو بعد كما تذكرون في قدمه وفضله؛ ولكن ابن الزبير منافق، قد خلع خليفتين: يزيد وابنه معاوية ابن يزيد، وسفك الدماء، وشق عصا المسلمين، وليس صاحب أمر أمة محمد صلى الله عليه وسلم المنافق؛ وأما مروان بن الحكم؛ فوالله ما كان في الإسلام صدعٌ قط إلا كان مروان ممن يشعب ذلك الصدع، وهو الذي قاتل عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان يوم الدار، والذي قاتل علي بن أبي طالب يوم الجمل عن عائشة، وإنا نرى للناس أن يبايعوا الكبير ويستشبوا الصغير - يعني بالكبير مروان بن الحكم، وبالصغير خالد بن يزيد بن معاوية.

وبايع مروان بنو أمية وأنصارهم، وتزوج أم خالد بن يزيد بن معاوية، وهي فاختة ابنة أبي هاشم بن عتبة بن ربيعة، واجتمع الناس على بيعة مروان فبايعوه، وخرج عبيد الله حتى نزل المرج، وكتب إلى مروان، فأقبل في خمسة آلاف، وأقبل عبيد الله بن زياد من حُوّارين في ألفين من مواليه وغيرهم من كلب، وثار يزيد بن أبي النمس الغساني بدمشق وأخرج عامل الضحاك منها، وأمدّ مروان بسلاح ورجال.

وكتب الضحاك إلى أمراء الأجناد، فقدم عليه زُفر بن الحارث الكلابي من قنّسرين، وأمده النعمان بن بشير الأنصاري بشرحبيل بن ذي الكلاع في أهل حمص، فتوافوا عند الضحاك بالمرج، فكان الضحاك في ثلاثين ألفاً من قبائل قيس وسائر مضر ونزار ومعهم ناس من قضاعة، ومروان في ثلاثة عشر ألفاً، أكثرهم رجَالة، فأقاموا بالمرج عشرين يوماً، يلتقون في كل يوم ويقتتلون، فقال عبيد الله بن زياد يوماً لمروان: إنك على حق، وابن الزبير ومن دعا إليه على باطل، وهم أكثر منك عدداً وعدة، ومع الضحاك فرسان قيس، فأنت لا تنال منهم ما تريد إلا بمكيدة، فكِدهم، فقد أحلّ الله ذلك لأهل الحق، والحرب خدعة، فادعُهم إلى الموادعة ووضع الحرب حتى تنظر، فإذا أمِنوا وكفّوا عن القتال فكُرّ عليهم.

فأرسل مروان إلى الضحاك يدعوه إلى الموادعة ووضع الحرب حتى ينظر، فأصبح الضحاك والقيسية فأمسكوا عن القتال، وهم يطمعون أنَّ مروان سيبايع لابن الزبير، وقد أعد مروان اصحابه، فلم يشعر الضحاك وأصحابه إلا بالخيل قد شدت عليهم، وغشتهم وهم على غير عدة، فنادى الناس: يا أبا أُنيس، أعجزاً بعد كَيْس؟! فقال الضحاك: نعم أنا أبو أُنيس، عجز لعمري بعد كيس! فاقتتلوا، ولزم الناس راياتهم، وصبروا وصبر الضحاك، فترجّل مروان وقال: قبح الله مَن يُولِّيهم اليوم ظهره، حتى يكون الأمر لإحدى الطائفتين. وقُتِلَ الضحاك بن قيس، قتله رجل من كلب، يقال له زُحمة بن عبد الله الكلبي، وانهزم جنوده فنادى منادي مروان: لا تتبعوا مولِّياً. فأمسكوا عنهم.

ووقعت معركة مرج راهط في النصف من ذي الحجة من عام 64، وانجلت عن مقتل عدد كبير من كبار القوم وسراتهم وفقهائهم من الجانبين، وكثير منهم من أنصار معاوية الذين انحازوا إلى عبد الله بن الزبير، وقُتِل من جرائها النعمان بن بشير رضي الله عنهما، وهو أول مولود بعد الهجرة من الأنصار، فقد بلغه مقتل الضحاك وكسرة جيشه، فخرج هارباً ليلاً ومعه امرأته نائلة بنت عمارة الكلبية، ومع ثقله وولده، فتبعه بعض أهل حمص فأدركوه وقتلوه، وجاء الكلبيون من أهل حمص فأخذوا نائلة وولدها.

وأصابت القيسية في هذه المعركة مَقتلةٌ لم يُقتلوها في موطن قط، وبقيت أصداء هذه المعركة يرددها الشيطان في أفكار القبائل العربية ليس في بلاد الشام والمشرق فحسب، بل في الأندلس البعيدة حتى انقسم أهلها شيعاً وأحزاباً بين قيسية شامية وبين يمانية كلبية فدب فيهم الوهن وصاروا لقمة سائغة لأعدائهم المتربصين بهم، ولعل مروان وهو الحاذق الخبير أدرك عواقب ما جرى، فاستاء لما حدث وبخاصة مقتل الضحاك الذي كان مخلصاً للأمويين، وقال: الآن حين كبرت سني، واقترب أجلي، أقبلت بالكتائب أضرب بعضها ببعض؟

ولما انهزم جيش الضحاك هرب زُفر بن الحارث الكلابي ومعه شابان من بني سُليم، فجاءت خيل مروان تطلبهم، فقصَّر فرسا الشابين وأدركتهم خيل مروان، فقالا لزفر: يا هذا، انج بنفسك، فأما نحن فمقتولان. فمضى زفر وتركهما حتى أتى قرقيسيا، وهي الميادين اليوم في شرق سورية، فاجتمعت إليه قيس، فرأسوه عليهم، وفي ذلك يقول زفر:

لعمري لقد أبقت وقيعة راهط ... لمروان صدعاً بيننا متنائيا

أريني سلاحي لا أبا لك إنني ... أرى الحرب لا تزداد إلا تماديا

أبعد ابن عمرو وابن معن تتابعا ... ومقتل همام أرجي الأمانيا

أتذهب كلب لم تنلها رماحنا ... وتُترك قتلى راهط هي ما هيا

فلم تُر مني نبَوَة قبل هذه ... فراري وتركي صاحبيَّ ورائيا

عشية أعدو في الفريقين لا أرى ... من القوم إلا من عليَّ ولا ليا

أيذهب يوم واحد إن أسأته ... بصالح أيامي وحسن بلائيا

فلا صلح حتى تَنحِط الخيل في القنا ... وتثأر من نسوان كلب نسائيا

فقد ينبت المرعى على دُمَن الثرى ... وتبقى حزازات النفوس كما هيا

وأرسل مروان إلى أيمن بن خريم رضي الله عنه، وهو ممن أسلم يوم الفتح شاباً يافعاً: ألا تتبعنا على ما نحن فيه؟ فقال: إن أبي وعمي شهدا بدراً، وإنهما عهِدا إليَّ ألا أقاتل رجلاً يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن جئتني ببراءة من النار فأنا معك. فقال: لا حاجة لنا بمعونتك. فخرج وهو يقول:

ولست مقاتلاً أحداً يصلي ... على سلطان آخر من قريش

له سلطانه وعلىَّ إثمي ... معاذ الله من سفه وطيش

أأقتل مسلماً في غير جرم ... فلست بنافعي ما عشت عيشي

واستقام الشام لمروان، وبث فيه عماله ورجاله، وسار في جنوده من أهل الشام إلى مصر فحاصرها، وكانوا مع ابن الزبير، فجرى بينهم وبين مروان قتال يسير، ثم توافقوا على الصلح، واستعمل ابنه عبد العزيز عليها، ودامت ولاية مروان 9 شهور وتوفي في رمضان من سنة 65، وخلفه ابنه عبد الملك.

تزوج الضحاك أم عبد الله بنت يزيد الكلبية، وكانت امرأة شجاعة مقدامة، كانت قبله عند حبيب بن مَسلمة، فأمره عثمان أن يخرج إلى غزو الروم في أرمينية، فقرر ذات يوم أن يهاجم بطريقهم في الليل، فسألته امرأته: فأين موعدي معك؟ قال: سُرادق البطريق أو الجنّة. ثم بيّتهم، فقتل من واجهه منهم حتى وصل السرادق فوجد امرأته قد سبقته إليه، وتوفي عنها حبيب فتزوجها الضحاك وهي أم أولاده.

أعقب الضحاك أولاداً منهم ابنه الأكبر عبد الرحمن بن الضحاك، كان من سروات قريش وكرمائهم، ولاه يزيد بن عبد الملك على المدينة سنة 101، فصعد المنبر، فحمد الله، وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، لن تعدموا مني ثلاث خلال: لا أُجمِّر لكم جيشاً، وإن أُمِرتُ فيكم بخير عجَّلتُه لكم، أو بشرٍّ أخرّته عنكم، ولا يكون بيني وبينكم حجاب. والتجمير: إطالة حبس الجيش بالثغور فلا يقفلون إلى أهاليهم.

ومكث عبد الرحمن بن الضحاك في الولاية 4 سنوات حسن السيرة، وكان على موسم الحج، ثم عزله يزيد بن عبد الملك سنة 104 وأغرمه 40.000 دينار، ويقال إن ذلك بسبب خطبته فاطمة بنت الحسين بن علي رضي الله عنهما، ورفضها الزواج منه وإلحاحه عليها إلحاحاً وصل إلى حد التهديد بمعاقبة أولادها، فشكته إلى يزيد فغضب وعزله وكتب إلى والي الطائف عبد الواحد بن عبد الله النصري: إني قد وليتك المدينة فأغرم ابن الضحاك أربعين ألف دينار، وعذبه حتى أسمع صوته، وأنا على فراشي.

ولما عزل عبد الرحمن صعد المنبر، فبكى وبكى الناس لبكائه، وقال: والله ما أبكي جزعاً من العزل، وضناً بالولاية، ولكني أربأ بهذه الوجوه أن يتبدلها بعدي من لا يرى لها من الحق ما كنت أراه، وإني وإياكم يا معشر أولاد المهاجرين والأنصار لكما قال أخو كنانة:

فما القيد أبكاني ولا السجن شفني ... ولا من حذار الموت يا قوم أجزع

ولكن أقواماً أخاف عليهم ... إذا مت أن يُعطُوا الذي كنتُ أمنع

وكانت بنو أمية تسير بالعامل المعزول في الطريق فيقف وتمر به الناس حامدين أم شامتين، فوقف عبد الرحمن في الشمس في جبة صوف، فكان القرشيون يمرون فيعدلون إليه ويثنون عليه، ويظللون عليه، حتى صاروا حلقة ضخمة.

ذكرنا أن السياسة غلبت على الضحاك، وينبغي أن نشير إلى أنه - رغم الاختلاف على صحبته - روى الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحدث عنه صحابة مثل عمير بن سعد الأوسي، المتوفى سنة 45، ومعاوية بن أبي سفيان ووصفه بالعدالة، وحدث عنه كبار التابعين مثل سعيد بن جبير، المولود سنة 45 والمقتول سنة 94، وعامر بن شراحيل الشعبي، المولود سنة 19 والمتوفى سنة 103 ، وسماك بن حرب الذهلي المتوفى سنة 123.

ومما ذكر من مروياته ما قاله في إحدى خطبه: أيها الناس أخلصوا أعمالكم، ولا يقولن أحدكم إذا عفا عن مظلمة تركتها لله ولوجوهكم، ولا يصل أحدكم رحمه لله ثم يقول هذا لله ولرحِمي، ولا تشركوا في أعمالكم مع الله أحداً فإن الله يقول القيامة: من أشرك معي شريكاً في عمل عمله فهو لشريكي وليس لي منه شيء، فإني لا أقبل اليوم إلا عملاً صالحاً خالصاً.

﴿وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آَمَنُوا، رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ﴾

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين