حدث في التاسع من ذي الحجة وفاة ابن فضل الله العمري

 

في التاسع من ذي الحجة من سنة 749 توفي في دمشق، عن 49 عاماً، ابن فضل الله العُمري، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن يحيى بن فضل الله، المؤرخ الجغرافي والكاتب البليغ والشاعر الرقيق، صاحب الموسوعة الجغرافية كتاب مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، وغيره من المؤلفات المفيدة النافعة.

 

ولد ابن فضل الله العمري في دمشق سنة 700، ونشأ فيها، وكانت أسرته عريقة في الكتابة والإنشاء، فوالده القاضي الرئيس محيي الدين يحيي، المولود بالكرك سنة 654 والمتوفى في القاهرة سنة 738 والمدفون بدمشق، عمل في كتابة الإنشاء بدمشق وهو في السابعة، تحت ظل أخيه الكبير شرف الدين عبد الوهاب، وترقى في الوظائف حتى صار كاتب السر لدى نائب السلطنة بالشام، ثم انتقل إلى مصر ليكتب للسلطان، قال الإمام الذهبي: كان صدراً معظماً وقوراً كامل العقل حسن الصيانة، تاركاً لمعاشرة الناس، خبيراً بوظيفته، بديع الكتابة، جزل العبارة، لا يكاد يتكلم إلا جواباً. وقال معاصره المؤرخ صلاح الدين الصفدي، خليل بن أيبك المولود سنة 696والمتوفى سنة 764، في كتابه أعيان العصر وأعوان النصر: لم أر فى عمري من كتب النسخ وخرج التخاريج والحواشي أحلى وأظرف ولا ألطف منه ... ولم أر عمري من نال سعادته في مثل أولاده وأملاكه ووظائفه وعمره، وكان السلطان قد بالغ أخيراً في احترامه وتعظيمه.

وكان عمه الذي ذكرنا: شرف الدين عبد الوهاب، المتوفى عن 94 سنة عام 717، كاتباً للسلاطين والأمراء، فاق في الترسل المنسجم الخالي عن التكلف والتصنع، وأجاد في الخط، قال عنه الصفدي: يكتب خطاً لو كان للحدائق يوماً ما احتاجت للأزاهر، أو للغواني ما تحلت بالجواهر! وكان وفير الثراء ظاهر النعمة، ومعظماً من الأمراء والسلاطين، ومتع بحواسه لم يفقد منها شيئاً ولم تتغير كتابته، ومات وهو جالس ينفذ البريد إلى بعض النواحي.

ودرس ابن فضل الله العمري العربية على الشيخ كمال الدين ابن قاضي شهبة، عبد الوهاب بن محمد، المتوفى سنة 726، الذي كان يدرس المبتدئين النحو والفقه، ودرسها كذلك على قاضي القضاة شمس الدين محمد بن مسلم المولود سنة 662 والمتوفى بالمدينة سنة 726، والذي كان آية في العلم والتواضع، ودرس على الشيخ برهان الدين ابن الفركاح، إبراهيم بن عبد الرحمن، المولود سنة 660 والمتوفى سنة 729، وكان لطيفاً متواضعاً، وقرأ الحديث على الشيخ تقي الدين ابن تيمية، وأخذ العروض والأدب على الشيخ شمس الدين الصايغ، محمد بن الحسن المتوفى سنة 722، وعن علاء الدين الوداعي، علي بن المظفر المولود في الإسكندرية سنة 640 والمتوفى بدمشق سنة 716، وكان أديباً بارعاً، ودرس ابن فضل الله علم البديع والبيان كما قرأ مجموعة من الدواوين، وكتب الأدب على العلامة شهاب الدين محمود بن سلمان، المولود سنة 644 والمتوفى بدمشق سنة 725، وكان شيخ صناعة الانشاء في عصره، ويقال: لم يكن بعد القاضى الفاضل مثله. وهو إلى ذلك شاعر مكثر.

 

وأخذ في مصر عن الشيخ أثير الدين ابن حيان، محمد بن يوسف، المولود بغرناطة سنة 654 والمتوفى بالقاهرة سنة 745،: سمع عليه كتاب الفصيح لثعلب والمعلقات الست والمقصورة الدريديَّة وأكثر ديوان أبي تمام وغير ذلك؛ وكان أثير الدين كما يصفه الصفدي : الشيخ الإمام الحافظ العلامة، فريد العصر وشيخ الزمان، وإمام النحاة... وله إقبال على الطلبة الأذكياء وعنده تعظيم لهم... وله الموشحات البديعة وهو ثبت فيما ينقله محرر لما يقوله عارف باللغة ضابط لألفاظها، وأما النحو والتصريف فهو إمام الدنيا فيهما لم يذكر معه في أقطار الأرض غيره في العربية، وله اليد الطولى في التفسير والحديث والشروط.

وفي سنة 729 أصاب الفالج كاتبَ سر السلطان القاضي علاء الدين بن الأثير، فطلب السلطان المملوكي الناصر محمد بن قلاوون، المولود سنة 684 والمتوفى سنة 741، والد شهاب الدين القاضي محيي الدين إلى القاهرة وجعله كاتب سره، وصار شهاب الدين هو الذي يقرأ كتب البريد على السلطان، وفي سنة 732 أعاده السلطان إلى كتابة سر دمشق وعاد هو معه، وبعد 8 أشهر طلب السلطان والده فعاد معه يقرأ على السلطان البريد، واستعفى والده من السلطان لثقل سمعه وكبر سنه إذ قارب الثمانين، فأذن له أن يقيم ابنه شهاب الدين مكانه، فصار الاسم لمحيى الدين والقائم بالعمل شهاب الدين.

 

واستمر شهاب الدين حتى سنة 737 حين ترك على نفرة من السلطان، وكان السبب أن الأمير تنكز نائب السلطنة في دمشق سأل السلطان الناصر أن يقرر في كتابة سر دمشق أحد الكتاب في ديوان مصر، وهو علم الدين محمد بن قطب الدين أحمد بن مفضل المعروف بابن القطب، وكذلك بابن فضل الله، والذي كان أجداده أقباطاً ثم أسلموا، ولم يعجب هذا التعيين ابن فضل الله وغض من مكانة ابن القطب، ونبزه بالقبطي، فلم يلتفت السلطان الناصر لذلك، فكتب له مرسوم التعيين على كُره، ولما أمره السلطان أن يكتب فيه زيادة في راتبه امتنع فعاوده فقال للسلطان مغضباً: ما أفلح من خدمك! وخدمتك عليَّ حرام! ثم ترك المجلس، وكان هذا منه بحضرة الأمراء فغضبوا لذلك وهمّوا بضرب عنقه، فأغضى السلطان عنه وبلغ محيي الدين ما كان من ابنه فبادر إلى السلطان وقبل الأرض، واعترف بخطأ ابنه واعتذر عن تأخره بثقل سمعه، وسأل العفو، فأمره أن يقيم ابنه علاء الدين علي في موضع شهاب الدين، وأن يلزم شهاب الدين داره فيما يشبه الإقامة الجبرية، ولم يكن علي، المولود سنة 712، بمهارة أخيه المعزول في الكتابة ولكنه كان أمهر أهل عصره في الخط وتعتيق الورق وتقليد المخطوطات، وتوفى سنة 769.

وبقي شهاب الدين قرابة سنتين بطالاً منزوياً، وحج في سنة 738، ثم أراد السفر إلى الشام فأرسل يستأذن السلطان، فتذكره بالعقوبة وأمر بطلبه وصادره واعتقله في شعبان سنة 739، وجلس في الاعتقال قرابة 8 أشهر، ثم جرت حادثة لم يعرف خبرها أحد من الديوان، فقالوا: اسألوا أحمد بن فضل الله، فسألوه فعرف القصة وأخبر بها مفصلة، وتبين تميزه عن غيره والحاجة إليه فأمر الناصر بالإفراج عنه.

ثم قام السلطان الناصر بعزل الأمير تنكز من منصب نائب السلطنة بدمشق، وعزل معه كاتب سره شهاب الدين القيسراني، وأمر بمصادرة أمواله وقطع يده، ثم استدعى شهابَ الدين العمري واستحلفه على المناصحة وجعله كاتب السر في دمشق، فرجع إلى دمشق وسعى حتى خلَّص القيسراني من العقوبة.

وبقي شهاب الدين في منصب كتابة سر دمشق قرابة سنتين ثم عزل في منتصف سنة 743 وطُلب إلى مصر لكثرة الشكايات منه فشفع فيه أخوه علاء الدين، فأعيد إلى دمشق بطالاً مع مرتب قدره 1000 درهم شهرياً، وتفرغ للتأليف والتصنيف، حتى أدركه الأجل.

ورُبَّ ضارة نافعة فقد ألف ابن فضل الله في هذه الفترة كتابه العظيم مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، وسنتحدث عنه بعد قليل.

وجاءت وفاة ابن فضل الله حين وقع بدمشق الطاعون سنة 749 فقلق لذلك شهاب الدين وراعى القواعد الطبية في الانعزال عن الناس، ثم عزم على الحج فسافر بزوجته وولديه إلى الحجاز ماراً بالقدس الشريف وصاموا فيه رمضان، ووافت المنية زوجته هناك فدفنها وعاد إلى دمشق وقد أثقله الحزن، فلم تمض أسابيع إلا وتوفي رحمه الله في يوم عرفة سنة 749، ودفن بالصالحية عند والده وأخيه بدر الدين محمد. ورثاه الصفدي بقصيدة منها:

 

الله أكبر يا ابن فضل الله ... شغلت وفاتُك كلَّ قلبٍ لاه

ما كنت إلا واحدَ الدهر الذي ... يسمو على الأنظار والأشباه

أما القلوب فإنها رهن الأسى ... ترد القيامة وهي فيك كما هي

أبداً يخيّل لي بأنك حاضر ... تملي الفوائد لي وأنت تجاهي

 

وكان المؤرخ الصفدي قريباً كثيراً من ابن فضل الله العمري وأسرته، وما أكثر ما ينقل عنه وعن مؤلفاته في كتبه، ولما ذكره في الوافي للوفيات قال: رزقه الله أربعة أشياء لم أرها اجتمعت في غيره وهي: الحافظة، قلَّما طالع شيئاً إلا وكان مستحضراً لأكثره، والذاكرة التي إذا أراد ذكرى شيء من زمن متقدم كان ذلك حاضراً كأنه إنما مرَّ به بالأمس، والذكاء الذي تسلط له على ما أراد، وحسن القريحة في النظم والنثر... وأضاف الله تعالى له إلى ذلك كله حسن الذوق الذي هو العمدة في كل فن... ولم أر من يعرف تواريخ ملوك المغل من لدن جنكزخان وهلم وجرّاً معرفته وكذلك ملوك الهند الأتراك [يقصد ملوك الإمبراطورية المغولية في الهند]، وأمّا معرفة الممالك والمسالك وخطوط الأقاليم ومواقع البلدان وخواصها فإنه فيها إمام وقته، وكذلك معرفة الاسطرلاب وحل التقويم وصور الكواكب.

كان لشهاب الدين ولد اسمه عبد الوهاب أدخله والده في في ديوان الانشاء معه بمصر ومع عمه علاء الدين، وكان يكتب جيداً، ثم لما رجع والده إلى دمشق معيناً في وظيفة كاتب سر دمشق بقي يكتب معه وكان يدخل بالعلامة إلى النائب، ثم استقر في توقيع الدست في أوائل سنة 750 واستمر إلى أن توفي سنة 754، وكان جواداً فيه حدة.

لابن فضل الله مؤلفات كثيرة وقيمة أكثرها شهرة وأكبرها حجماً كتابه مسالك الأبصار في ممالك الأمصار، وقد حققه تحقيقاً متقناً الدكتور حمزة أحمد عباس من حديدة باليمن، وقد جعل ابن فضل الله على قسمين : في الأرض والثاني: في سكان الأرض، وقد بين منهجه النقدي الدقيق في خطبة الكتاب فقال: فاستخرت الله تعالى في إثبات نبذة دالَّة على المقصود في ذكر الأرض وما فيها ومن فيها: الأظهَر فالأظهر، والأشهر فالأشهر، وما لم أجد بُدّا من ذكره في ذلك ومثله، وحالة كل مملكة، وما هي عليه، هي وأهلها في وقتنا هذا... لُيبصر أهل كلِّ قطر القطر الآخر، وبينته بالتصوير: ليُعرف كيف هو، كأنه قُدَّام عيونهم بالمشاهدة والعِيان، مما اعتمدت في ذلك على تحقيق معرفتي له، فيما رأيته بالمشاهدة، وفيما لم أره بالنقل ممن يعرِف أحوال المملكة المنقول عنه أخبارها، مما رآه بعينه أو سمعه من الثقات بأُذنه، ولم أنقل إلا عن أعيان الثقات، من ذوي التدقيق في النظر، والتحقيق للرواية، واستكثرت ما أمكنني من السؤال عن كلِّ مملكة، لآمن من تغفُّل الغفلاء وتخيُّل الجهالات الضالَّة، وتحريف الأفهام الفاسدة.

ولم أُعرِّج إلى ملوك الكفَّار ركابي، ولا أرسيت بجزائر البحر سفني، ولا أسهرت في الظلمات عيني، ولا أتعبت في المحفورة يدي، إلا ما الممت منه إلْمامة الطيف المنفّر، ونغبت منه نُغبة الطائر الحذر، لأن غالب ما يقال - والله أعلم - أسماء لا يُعرف لها حقيقة، ومجاهل لا توصل إليها طريق.

وإن كان في العمر فسحة، وفي الجسم صحَّة، وللهمَّة نشاط، وللنفس انبساط، وما ذلك على الله بعزيز... لأُذيِّلنَّ بممالك الكفَّار هذا التصنيف، وأجيء بفارسه المُعْلَم وخلفه من سبيهِّم رديف.

ولم أذكر عجيبة حتى فحصت عنها، ولا غريبة حتى ذكرت الناقل، لتكون عهدتها عليه... وقطعت فيه عمر الأيّام والليالي، وأثبتُّ فيه بالأقلام أخبار العوالي. وشُغلت به الحين بعد الحين، واشتغلت ولم أسمع قول اللاَّحِين. وحرصت عليه حرص الضّنين، وخلصت إليه بعد أن أجريت ورائي السنين.

ويبدو أن ابن فضل الله وفى بوعده في وصف ممالك الكفار، إذ تورد مصادر ترجمته أن له كتاباً أسماه: وممالك عباد الصليب.

وفي كتاب مسالك الأبصار مشاهدات شخصية له في دمشق وفلسطين ومصر تبين التزامه بمنهجه في العزو والتدقيق التمحيص، ومنها ما يذكره حول الأهرام وما بنيت له، فيقول: ولقد أصْعَدْتُ غير مرَّة، مارّا على الأهرام بجميع بلاد الجيزة، ورأيت منها ما دثر بعضه، وما دثر كله. فإذا هي مصفحة البناء، شيئا على شيء، لا فُسحة في أوساطها، كما تكون ساحات الدور بين الجدران، وإنما هي بناء ملتصق على بناء، بعضها فوق بعض، ووجدتُ بعض الأهرام مبنيّة بالطوب، وهذا أكبر دليل على أنها لم تُتَّخذ ملجأ من الطوفان.

فأما مقدار الهرمين المشار إليهما، في ارتفاعهما ومساحة أقطارهما، فإنه مذكور في الكتب ذكرا مستوعبا لم أحققه بالقياس، وأبى لي تحقيقي في هذا الكتاب أن أذكره بمجرَّد التقليد، مع إمكان التحقيق، مع كثرة تردّدي عليها، وسكني في القاهرة في جوارها، ولعذر مانع في وقت هذا التأليف، قعدتُ عن معاودتها بالنظر والتحقيق.

وهو عندما يتحدث عن مدافن الفراعنة في الصعيد يقول: رأيت بها مختلفات من صور الحيوان: من نوع الإنسان والدوابّ والوحش والطير، على صور مختلفة، وأشكال متباينة، مصبَّغة بأنواع الأصباغ، مرسومة في الجُدُر والسقوف والأركان، من باطن البناء وظاهره، لم تنطمس رسومها، ولا حالت أصباغُها: كأنَّ يد الصانع ما فارقت صورها، وكفَّ الصبّاغ ما مسح دهانها.

 

ويتحدث عن منابع النيل فيقول: والأقوال في أوّل مجرى النيل كثيرة، ذكر فيها المسعودي وغيره ما لا فائدة فيه، والشائع على ألسنة الناس أنّ أحدا ما وقف على أوّله بالمشاهدة، وجعل كل واحد منهم سببا لعدم الوقوف على حقيقة أوّله.

ومن الفريد توقعه وجود أمريكا وراء بحر الظلمات فيقول: لا أمنع أن يكون ما انكشف من الماء من الأرض، من جهتنا، مكشوفاً من الجهة الأخرى، وإذا لم أمنع أن يكون منكشفاً من تلك الجهة، لا أمنع أن يكون به من الحيوانات والنبات والمعادن مثل ما عندنا، أو من أنواع أو أجناس أخرى.

 

ويحفل الكتاب بالنقل عن كتب سابقة يعزو إليها وبعضها مما اختفى واندثر، ولذا فللكتاب من هذه الناحية أهمية كبيرة.

كذلك ينقل شهاب الدين العمري في كتابه عن أشخاص يسميهم شاهدوا هذه الأماكن والحوادث ورووا لنا كثيراً من أحوالها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، ولذا فالكتاب من هذه الناحية في غاية الأهمية، فهو يذكر قدوم وفد من ملك الصرب والبلغار إلى مصر وطلبه المودة وحسن الصلة، قال رحمه الله: ووصلت منهم رسل إلى حضرة سلطان مصر سنة 731 بكتاب إلى سلطانها من صاحب السرب والبلغار، يعرض نفسه على مودته، ويسأل منه سيفا يقلده، وسنجقا يقهر أعداؤه به، فأكرم رسوله، وأعد نزله وجهز له معه خلعة كاملة.

ومؤلفه الهام الآخر هو كتابه التعريف بالمصطلح الشريف، وهو ليس في الحديث كما يتبادر للذهن، بل هو مرجع أساسي للكُتَّاب في دواوين السلطنة والحكومة يبين لهم كيف يكتبون شكلاً ومضموناً الرسائل والمراسيم والاتفاقات والمعاهدات وغيرها مما تصدره الدولة أو توافق عليه، وجعله سبعة أقسام تتضمن: رُتب المكاتبات، وعادات العهود والتقاليد والتفاويض والتواقيع والمراسيم والمناشير، ونُسخ الأيمان، وفي الأمانات و الدفن و الهدن والمواصفات والمفاسخات، وفي نطاق كل مملكة وما هو مضاف اليها من المدن والقلاع، وفي مراكز البريد والحمام ومراكز هُجن الثلج و المراكب المسفرة به في البحر والمناظر والمحرقات، وسابعاً: فيأاوصاف ما تدعو الحاجة إلى وصفه.

وقد أشار لفضل الكاتب وكتابه القلقشندي، أحمد بن علي المولود سنة 756 والمتوفى سنة 821، في صبح الأعشى في صناعة الإنشا، وهو فيه يكثر النقل جداً عن ابن شهاب، قال القلقشندي: مَلِكُ الكتابة وإمامها، وسلطانُ البلاغة ومالك زمامِها... أنفَسُ الكتب المصنفة في هذا الباب عِقْدا، وأعدُلها طريقاً وأعذبُها وِرْدا، قد أحاط من المحاسن بجوانبها، وأُعقِمت الأفكارُ عن مثله ففاز من الصنعة بأحمدِ مذاهِبها.

وينقل القلقشندي عن ابن فضل الله صيغة أيمان يُحلّف بها النصارى على الإخلاص للسلطان، أورد بعضاً منها للفائدة والغرابة:

والله والله والله العظيم، وحق المسيح عيسى ابن مريم، وأمه السيدة مريم، وما أعتقده من دين النصرانية، والملة المسيحية، وإلا أبرأ من المعمودية، وأقول: إن ماءها نجس، وإن القرابين رجس، وبرئت من مار يوحنا المعمدان والأناجيل الأربعة، وقلت: إن مَتَّى كذوب، وإن مريم قول اليهود، ودِنتُ بدينهم في الجحود، وأنكرت اتحاد اللاهوت بالناسوت، وبرئت من الأب والابن وروح القدس، وكذبت القسوس، وشاركت في ذبح الشماس، وهدمت الديارات والكنائس، وكنت ممن مال على قسطنطين بن هيلانة، وتعمد أمه بالعظائم، وخالفت المجامع التي أجمعت الأساقفة برومية والقسطنطينية، ووافقت البرذعاني بأنطاكية، وجحدت مذهب الملكانية، وسفهت رأي الرهبان، وأنكرت وقوع الصلب على السيد اليسوع، وكنت مع اليهود حين صلبوه، وحدت عن الحواريين، واستبحت دماء الديرانيين، وجذبت رداء الكبرياء عن البطريرك، وخرجت عن طاعة الباب [يقصد البابا]، وصمت يوم الفصح الأكبر، وقعدت عن أهل الشعانين، وأبيت عيد الصليب والغطاس، ولم أحلف بعيد السيدة، وأكلت لحم الجمل، ودنت بدين اليهود، وأبحت حرمة الطلاق، وخنت المسيح في وديعته، وتزوجت في قرن بامرأتين وهدمت بيدي كنيسة قمامة، وكسرت صليب الصلبوت، وقلت في البنوة مقال نسطورس، ووجهت إلى الصخرة وجهي، وصديت عن الشرق المنير حيث كان المظهر الكريم، وإلا برئت من النورانيين والشعشعانيين، ودنت غير دين النصارى، وأنكرت أن السيد اليسوع أحيا الموتى، وأبرأ الأكمة والأبرص، وقلت بأنه مربوب، وأنه ما رؤي وهو مصلوب، وأنكرت أن القربان المقدس على المذبح ما صار لحم المسيح ودمه حقيقة...

أما وقد استشهدنا بالقلقشندي رحمه الله فينبغي أن نشير إلى أن كتابه صبح الأعشى هو أحد أربعة من الكتب الموسوعية، التي كتبت في الحقبة المملوكية وامتازت بضخامتها وتنوعها وطرافتها؛ وهي: مسالك الأبصار، ونهاية الأرب للنويري، المتوفى سنة 733، ولسان العرب لابن منظور، محمد بن مكرم المتوفى سنة 711.

ولكونه عمرياً وضع ابن فضل الله كتاب فواضل السمر في فضائل آل عمر، وقد اختصر كتاب قلائد العِقيان في محاسن الأعيان الذي ألفه الفتح بن محمد بن خاقان الإشبيلي، وله مجموع رسائل أسماه الشتويات، وكتاب النبذة الكافية في معرفة الكتابة والقافية، وكتاب الدائرة بين مكة والبلاد، وله في الأدب كتاب يقظة الساهر، وكتاب نفحة الروض، وكتاب دمعة الباكي ويقظة الساهي، وله في المدائح النبوية ديوان صبابة المشتاق، وله كذلك قصيدة مطولة رائية اسمها حسن الوفا لمشاهير الخلفا، وكتاب تذكرة الخاطر.

وله كتاب أسماه ذهبية العصر ترجم فيه لأعلام عصره في الشرق والغرب، وذكر أشعارهم وأخبارهم على نهج يتيمة الدهر للثعالبي، وقال في مقدمته: لما رأيت أكثر الناس أصدقاء العظم الرميم، وأعداء الأحياء، قمت لأهل عصري منتصرا وجنيت فيه لفحول الرجال وجمعت فيه ذيل المشرق والمغرب وقصرته على أهل المئة الثامنة.

نختم بما ذكره ابن فضل الله في مسالك الأبصار: مررت بعد حين من الدهر بمعاهد كنت آلفها أوّل عمري، والشيب ما عارض عارضي ولا عذري؛ وعقد الاجتماع منظوم، وأهلها أهلَّة ونجوم. فوجدتها خالية بعد أهلها، ظامية بعد عَلِّها ونهلها؛ وقد أصبحت عارية من ريفها وظلِّها، عادمة لكثرها وقُلِّها، وقد كتب عليها بعض من ولِع:

هذه دارُهمْ وماتُوا جَميعا ... هكذا هكذا يُعادِي الزمانُ!

فحرّكني هذا البيت، لسكان ذلك البيت، وأيامنا نحن وساكنه الميت، وتذكرت تلك الأيام الماضية، والعيشة الراضية، ثم ما غرت الحوادث، وسدّت من الأبواب والبواعث، فقلت ارتجالا:

 

أين دهْرٌ مضى لنا أول العُمْر وأينَ الزمانُ والإخْوانُ!

حَدَثَتْ بعدَنا عليهم أمورٌ! ... هاتِ شيئاً ما اغتالهُ الحَدَثان؟

ذهب الكلُ في زمان تقضّى ... كلُّ شيء يأتي عليه الزمان!

ما تَبَقّى لنا من الكل إلا ... قولُنا للتذكار: كُنَّا وكانوا!

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين