أعمالٌ مشرِّفة في يوم عرفة

عناصر المادة

1- الاعتبار بتصرّم الأيّام وسرعتها ومرورها وزوالها 2- يوم عرفة يوم تجديد العهد مع الله تعالى بالعبوديّة 3- خير أعمال يوم عرفة

مقدمة:

أزف الوقت ليجتمع وفود الله وضيوفه على صعيدٍ واحدٍ، يهلّلون ويكبّرون ويرفعون أصواتهم بالتّلبية والدّعاء خضوعاً وإخباتاً لربّ الأرض والسّماء.

ها قد اقترب اليوم التّاسع من ذي الحجّة؛ يوم عرفة الّذي يجتمع فيه ضيوف بيت الله على جبل الرّحمة، فينتشرون في سهله الفسيح انتشار النّور في الأفق، فتنتشي أرواحهم طرباً، وتنسكب عبراتهم شوقاً، وتبحّ أصواتهم شكراً وذِكراً، يداخل قلوبهم سرورٌ وفرحٌ بفضل الله تعالى، وقد جاء في الحديث عن عُقْبَةَ بْنَ عَامِرٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (يَوْمُ عَرَفَةَ وَيَوْمُ النَّحْرِ وَأَيَّامُ التَّشْرِيقِ، عِيدُنَا أَهْلَ الْإِسْلَامِ). [ 1 ]

لسان حالنا جميعاً من برّحت بنا الشّدائد فما استطعنا الرّحيل، ومن قصرت بنا ذنوبنا فما أُكرمنا بالمثول: يا ليتني أطوف برحاب الكعبة أمتّع بصري برؤية بيت الله، يا ليتني أمثُل بين يدي الحَجر أقبّله كما قبله الحبيب؛ مستشعرا قول الفاروق رضي الله عنه: "إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ، لاَ تَضُرُّ وَلاَ تَنْفَعُ، وَلَوْلاَ أَنِّي رَأَيْتُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ". [ 2 ]

يا ليتني أسعد مع إخواني يوم عرفة بقضاء أجمل يومٍ يمرّ عليّ منذ أن وُلدت.

لكن ما عساه أن يفعل من لم يوفّق للذّهاب إلى تلك الدّيار؟

وماذا ينبغي له أن يفعل علّه يدرك شيئاً ممّا فاته؟

إذ الباري قد غمرنا بفضله، وأكرمنا حتّى ولو لم نذهب لتلك الدّيار.

1- الاعتبار بتصرّم الأيّام وسرعتها ومرورها وزوالها

إذ المؤمن يأخذ العبرة من كلّ شيءٍ، وهو أولى بالتقاط الحكمة.

الليل والنّهار يُبليان كلّ جديدٍ، يُقربان كلّ بعيدٍ، يطويان الأعمار، يُشيّبان الصّغار، يُفنيان الكبار، ما أجمل فهم الصّحابة الكرام رضوان الله عليهم لمّا نزل قول الله تعالى في مثل هذه الأيّام: قوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3].

عَنْ هَارُونَ بْنِ أَبِي وَكِيعٍ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ}، قَالَ: يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ، قَالَ: فَبَكَى عُمَرُ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا يُبْكِيكَ؟)، قَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبْكَانِي أَنَّا كُنَّا فِي زِيَادَةٍ مِنْ دِينِنَا، فَأَمَّا إِذَا كَمُلَ فَإِنَّهُ لَمْ يَكْمُلْ قَطُّ شَيْءٌ إِلَّا نَقَصَ، قَالَ: (صَدَقْتَ). [ 3 ]

ففهم من هذه الآية أنّها تنعي الحبيب صلى الله عليه وسلم، وفعلاً انتقل الحبيب إلى الرّفيق الأعلى بعدها بأشهرٍ.

{وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ} [الأعراف: 142].

قال ابن كثير: "الْأَكْثَرُونَ عَلَى أَنَّ الثَّلَاثِينَ هِيَ ذُو الْقَعْدَةِ، وَالْعَشَرُ عَشَرُ ذِي الْحِجَّةِ". [ 4 ]

كانت هذه المدّة تهيئةً لموسى عليه السّلام، ثمّ بعدها أنزل الله المنّ والسّلوى على بني إسرائيل في صحراء سيناء.

إذا كان الباري قد أنزل على بني إسرائيل المنّ والسّلوى في الصّحراء؛ فإن صحراء قلوبنا لأشدّ حاجةً إلى منّةٍ من الله وسلوى ملؤها اليقين والثّبات والأمل.

لا تكن بمعزلٍ عن النّصّ القرآنيّ؛ فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السّبب، ينعزل موسى عليه السّلام في هذه الأيام عن شواغل الأرض ليغرق في هواتف السّماء لتصفو روحه وتشفّ وتضيء 

وتتقوّى عزيمته على مواجهة الموقف، ونحن وقد كثر الرّحيل إلى الله في هذه الأيّام، فلنغتنم ولنعتبر ولنُعدّ أنفسنا للقاء الموعود.

2- يوم عرفة يوم تجديد العهد مع الله تعالى بالعبوديّة

يَومُ عَرَفَةَ يَومُ تَجديدِ العَهدِ معَ الله تعالى بالعُبودِيَّةِ، لأنَّ اللهَ تعالى أخَذَ العَهدَ على بَني آدَمَ بِقَولِهِ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ} [الأعراف: 172].

قال تعالى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} [الأعراف: 172].

عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (أَخَذَ اللَّهُ الْمِيثَاقَ مِنْ ظَهْرِ آدَمَ بِنَعْمَانَ -يَعْنِي عَرَفَةَ- فَأَخْرَجَ مِنْ صُلْبِهِ كُلَّ ذُرِّيَّةٍ ذَرَأَهَا، فَنَثَرَهُمْ بَيْنَ يَدَيْهِ كَالذَّرِّ، ثُمَّ كَلَّمَهُمْ قِبَلًا) قَالَ: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ} [الأعراف: 172-173].

يأتي يَومُ عَرَفَةَ لِيُجَدِّدَ فيهِ العِبادُ عَهدَهُم معَ الله تعالى بالعُبودِيَّةِ، ويُكثِرونَ من قَولِ: لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ.

3- خير أعمال يوم عرفة

الصّيام: لقد حضّ النّبيّ صلى الله عليه وسلم على الأيام الصّالحة في أيّام العشر؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ أَيَّامِ الدُّنْيَا أَيَّامٌ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنْ يُتَعَبَّدَ لَهُ فِيهَا مِنْ أَيَّامِ الْعَشْرِ، وَإِنَّ صِيَامَ يَوْمٍ فِيهَا لَيَعْدِلُ صِيَامَ سَنَةٍ، وَلَيْلَةٍ فِيهَا بِلَيْلَةِ الْقَدْرِ). [ 5 ]

وخصّ منها يوم عرفة، حيث سُئل النّبيّ صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة فقال: (يُكَفِّرُ السَّنَةَ الْمَاضِيَةَ وَالْبَاقِيَةَ). [ 6 ]

الدّعاء: عَنْ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (خَيْرُ الدُّعَاءِ دُعَاءُ يَوْمِ عَرَفَةَ، وَخَيْرُ مَا قُلْتُ أَنَا وَالنَّبِيُّونَ مِنْ قَبْلِي: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ وَحْدَهُ لاَ شَرِيكَ لَهُ، لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ). [ 7 ]

أيُّها الإخوة الكرام: هذا اليَومُ يَومُ تَوبَةٍ وإنابَةٍ ودُعاءٍ، فهل من مُستَجيبٍ لِنِداءِ الله عز وجل: {وَتُوبُوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون} [النّور: 31].

ولِنِدائِهِ تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً} [التّحريم: 8].

أينَ المُقبِلونَ على الله تعالى؟ أينَ التَّائِبونَ العابِدونَ؟ أينَ المُستَغفِرونَ؟ أينَ النَّادِمونَ؟ أينَ المُتَضَرِّعونَ؟ أينَ البَاكونَ؟ أينَ الدَّاعونَ بِصِدقٍ؟

عَنْ سَلْمَانَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: (إِنَّ رَبَّكُمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى حَيِيٌّ كَرِيمٌ، يَسْتَحْيِي مِنْ عَبْدِهِ إِذَا رَفَعَ يَدَيْهِ إِلَيْهِ، أَنْ يَرُدَّهُمَا صِفْرًا). [ 8 ]

ختاماً: إيّاك أن تُضيع العتق من النّار، قَالَتْ عَائِشَةُ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: (مَا مِنْ يَوْمٍ أَكْثَرَ مِنْ أَنْ يُعْتِقَ اللهُ فِيهِ عَبْدًا مِنَ النَّارِ، مِنْ يَوْمِ عَرَفَةَ). [ 9 ]

فمن فاته في هذا العام القيام بعرفة فليقم لله بحقه الّذي عَرَفَه..

ومن عجز عن المبيت بمزدلفة، فليُبيِّت عزمه على طاعة الله وقد قرَّبه وأزلفه..

ومن لم يقدر على نحر هديه بمنى، فليذبح هواه هنا وقد بلغ المُنى..

ومن لم يصلْ إلى البيت لأنّه منه بعيد، فليقصد ربّ البيت فإنّه أقرب إلى من دعاه من حبل الوريد.

1 - مسند الإمام أحمد: 17379

2 - صحيح البخاريّ: 1597

3 - مصنّف ابن أبي شيبة: 34408

4 - تفسير ابن كثير: ج1، ص: 468

5 - سنن ابن ماجه: 1728

6 - صحيح البخاريّ: 1162

7 - سنن التّرمذيّ: 3585

8 - سنن أبي داوود: 1488

9 - صحيح مسلم: 1348

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين