ما هو التسامح؟

في اللغة: التسامح مصدر، جذره ثلاثي: (سَمَحَ) السِّينُ وَالْمِيمُ وَالْحَاءُ أَصْلٌ يَدُلُّ عَلَى سَلَاسَةٍ وَسُهُولَةٍ.

ويطلق على عدة معانٍ، منها: (الجود)، يُقَالُ سَمَحَ لَهُ بِالشَّيْءِ. وَرَجُلٌ سَمْحٌ، أَيْ جَوَادٌ، وَقَوْمٌ سُمَحَاءُ وَمَسَامِيحُ. (مقاييس اللغة). ورجلٌ سمُحٌ أو سمْحٌ إذا جاد بما لديه، وصار من أهل السماحة، فأعطى عن كرمٍ وسخاء، وفي الحديث: (أَسْمِحُوا لِعَبْدِي كَإِسْمَاحِهِ إِلَى عَبِيدِي) (أخرجه الإمام أحمد).

ومن هذا الباب وصف الشريعة بــ (الحنيفية السمحة) أي المستقيمة السلسة السهلة..

ومنه الحديث: (السَّماحُ رباحٌ، والعُسرُ شؤمٌ). / مسند الشهاب للقضاعي/. وفي البخاري: (رحم الله رجلا سمحًا إذا باع، وإذا اشترى، وإذا اقتضى)..

ومنها: (الموافقة على المطلوب)، أَنشد ثعلبُ: 

لو كنت َتُعطي حين تُسألُ، سامَحَتْ=لك النفسُ واحلولاك كلُّ خليلِ

فالسهولة والسلاسة واليسر في العلاقات البشرية أمر طلبته الشريعة وحضت عليه وهو من جملة مكارم الأخلاق، ولا يخفى أثره على المجتمع.... وهو زينة الفضلاء، لأنه ينم عن أخلاق عالية، ونفس راقية، وإرادة للخير لا تخفى، لأن المسامح يتنازل عن حظ نفسه لأجل الآخرين، وهذا عين الفتوة والشهامة.. لذلك لا يكون التسامح إلا من الأقوياء القادرين على استيفاء الحقوق، وليس من الضعفاء المقهورين المغلوبين على أمرهم... ومن هذا الباب قول المهاتما غاندي: الضعيف لا يمكن أن يسامح، فالتسامح من صفات الأقوياء.

والأصل في التسامح أن تستطيع العيش مع قومٍ تعرف يقينا أنهم مخطئون..

ومن هذا الباب كان تسامح نبينا صلى الله عليه وسلم مع أهل مكة يوم أظهره الله تعالى عليهم، حيث قال لهم: (اذهبوا فأنتم الطلقاء) فعفا عنهم عند المقدرة ... بينما هم ضاقت صدورهم به وبدعوته يوم بدأها، وناصبوه العداء، وحاولوا مرارا عديدة قتله.. فلم يعاملهم بنظير ما فعلوا .. بل لم يضق صدره صلى الله عليه وسلم باليهود في المدينة، وكتب لهم وثيقة دستورية لم يعرف العالم لها مثيلا، صنفهم فيها من ضمن الأمة، وأعطاهم حق إدارة شؤونهم الاجتماعية والدينية الخاصة، « ذلك أن حرية التدين، أو اختيار الدين، يعتبر من أرقى أنواع الحرية والاختيار وأعلاها وأسماها، لذلك فالإكراه على الدين يناقض كرامة الإنسان من جانب، كما يناقض قيم الدين ونصوصه من جانب آخر، فحرية التدين قيمة أساس في المجتمع الإسلامي، وعدم الإكراه والقبول بصاحب الخيار والمعتقد (الآخر) هـو استجابة لأوامر الدين والتزام بقيمه» 

فــــــ «الوثيقة» «التي كتبت بإملاء من الرسول صلى الله عليه وسلم في العام الأول من هـجرته إلى المدينة مثلت السـياسة الداخلية للدولة الإسـلامية مع (الآخر) - اليهودي، والوثني- وهو ما يسمى في العصر الحديث بالقانون الدولي الخاص، وكذلك مثلت نظاما متكاملا للعلاقات الخارجية مع القبائل والشعوب والدول وهو ما اصطلح عليه فيما بعد بالقانون الدولي العام»، كما كشفت هذه الوثيقة «عن مدى الظلم الاجتماعي الذي كانت تعانيه يثرب قبل ذلك، حيث نقلت المتساكنين من نظام الأسرة والقبيلة والعشيرة والطائفة إلى نظام الأمة الواحدة، كما عملت على تنظيم الدفاع المحكم ضد أي عدوان خارجي، وتوفير الأمن الداخلي لجميع المتعاقدين «وكفالة الحقوق والحريات، والأخذ بمبدأ التكافل الاجتماعي»، وتحقيق مبدأ التسامح الديني المفضي إلى التعايش السلمي والتعاون بين الأفراد والقضاء على الطبقية والعنصرية والطائفية، وعملت على سيادة العدل والمساواة في الحقوق والواجبات العامة أمام القانون وغيرها من المبادئ والقيم الإنسانية النبيلة التي لم يعرفها العالم إلا منذ قرنين تقريبا». 

فهل تعرف دساتير اليوم وضعًا خاصًا كالذي أعطاه الإسلام لهذه المجموعات التي كانت تشارك المسلمين البلاد؟!! 

وهل ضاقت صدور المسلمين بالتعدد الذي كان يُلَوِّنُ مجتمعهم، كما ضاق صدر صدر بعض الدول التي تدعي الحرية وحقوق الإنسان بحجاب تلبسه امرأة مثلا .. أو بأعدادٍ من المسلمين تتزايد.. في الوقت الذي لن يجد أهل الغرب في بلادهم من الإكرام ما يجدوه اليوم في بلاد العرب والمسلمين ..

ويومٌ على إثر يوم نرى كيف أن صدور المخالفين تضيق بقبولنا، ولذلك أرى أننا نحن المعنيون أكثر من غيرنا بمصطلح قبول الآخر، بمعنى أن يقبلنا غيرنا، فيوم كنا حكام المنطقة، وحاول خليفة المسلمين أبو جعفر المنصور إجلاء الموارنة من جبل لبنان بسبب ثورة قام بها بعض شبانهم، لم يأذن له الإمام الأوزاعي رحمه الله تعالى بتشتيت الناس وإجلائهم عن أراضيهم، ولم يسمح له أن يؤخذ البرئ بجريرة المسيء.

ويوم جاء التتار إلى بلاد الشام وأسروا عددا لا يستهان به من المسلمين واليهود والنصارى، ذهب لفَكاكهم شيخُ الإسلام أحمد بن تيمية رحمه الله تعالى، ولما أراد السلطان التتريُّ أن يعطيه أسارى المسلمين فقط رفض، وقال لا أقبل إلا بفكاك الجميع، لأن أهلَ الكتاب أهلُ ذمتنا ونحن مسؤولون عنهم.

أحمد شوقي:

تسامُحُ النفسِ معنىً من مروءتها=بل المروءةُ في أسمى معانيها

تخلَّقِ الصفحَ تسعدْ في الحياةِ به=فالنفسُ يُسْعِدُها خُلُقٌ ويُشقيها

الشاعر القروي:

إِذا استطعتَ كن إِما مسيحًا مسامِحًا=عداكَ وإِما فارسَ الحربِ عنترا

فما اللؤمُ إِلا إِن حقدت فلم تكن=كريمًا فتعفو أو شُجاعًا فتثأرا

جوستاف لوبون:

«إن حضارة العرب المسلمين قد أدخلت الأمم الأوربية الوحشية في عالم الإنسانية، فلقد كان العرب أساتذتنا.. وإن جامعات الغرب لم تعرف موردًا علميًا سوى مؤلفات العرب، فهم الذين مدنوا أوروبا مادةً وعقلًا وأخلاقًا، والتاريخ لا يعرف أمة أنتجت ما أنتجوه.. إن أوروبا مَدينة للعرب بحضارتها.. وإن العرب هم أول من علم العالم كيف تتفق حرية الفكر مع استقامة الدين.. فهم الذين علموا الشعوب النصرانية، وإن شئت فقل: حاولوا أن يعلموها، التسامح الذي هو أثمن صفات الإنسان.. ولقد كانت أخلاق المسلمين في أدوار الإسلام الأولى أرقى كثيراً من أخلاق أمم الأرض قاطبةً»..

مع تحفظي على كلمة (العرب)، ذلك أن غالب علمائنا كانوا أعاجم، فهم مسلمون وليسوا عربا. وبالتالي فحضارتنا إسلامية اجتمعت فيها خلاصات القيم الفاضلة عند العرب والعجم، فأنتجت هذه الحضارة التي وصفها لوبون. 

التسامح في القانون الدولي:

في عام 1995م اعتمد المؤتمر العام لليونسكو في دورته الثامنة والعشرين، باريس، 16 تشرين الثاني/نوفمبر إعلانا للتسامح، أسماه (إعلان مبادئ بشأن التسامح)، عرَّف فيه التسامح في مادته الأولى بأنه يعني الاحترام والقبول والتقدير للتنوع الثري لثقافات عالمنا ولأشكال التعبير وللصفات الإنسانية لدينا، وأنه يتعزز بالمعرفة والانفتاح والاتصال وحرية الفكر والضمير والمعتقد. وأنه الوئام في سياق الاختلاف، وهو ليس واجبا أخلاقيا فحسب، وإنما هو واجب سياسي وقانوني أيضا، والتسامح، هو الفضيلة التي تيسر قيام السلام، يسهم في إحلال ثقافة السلام محل ثقافة الحرب، وأنه لا يعني المساواة أو التنازل أو التساهل بل هو قبل كل شئ اتخاذ موقف إيجابي فيه إقرار بحق الآخرين في التمتع بحقوق الإنسان وحرياته الأساسية المعترف بها عالميا. .. وأن ممارسة التسامح لا تتعارض مع احترام حقوق الإنسان، ولذلك فهي لا تعني تقبل الظلم الاجتماعي أو تخلي المرء عن معتقداته أو التهاون بشأنها. بل تعني أن المرء حر في التمسك بمعتقداته وأنه يقبل أن يتمسك الآخرون بمعتقداتهم. والتسامح يعني الإقرار بأن البشر المختلفين بطبعهم في مظهرهم وأوضاعهم ولغاتهم وسلوكهم وقيمهم، لهم الحق في العيس بسلام وفي أن يطابق مظهرهم مخبرهم، وهي تعني أيضا أن آراء الفرد لا ينبغي أن تفرض علي الغير.

ثم في المادة الثانية تكلم الإعلان عن دور الدولة في نشر ثقافة التسامح، وفي المادة الثالثة عن الأبعاد الاجتماعية له، وفي الرابعة عن دور التعليم في نشره وتعزيزه، وفي الخامسة ضرورة الالنزام الجاد بتطبيقه، وفي السادسة تم تعيين السادس عشر من شهر تشرين الثاني يوما عالميا للتسامح..

واليوم، بعد مضي واحد وعشرين عاما على إعلانه يحق لنا أن نسأل: هل ساهم هذا الإعلان في نشر ثقافة التسامح؟ وهل استطاعت الأمم المتحدة أن تمنع الظلم والاضطهاد والكراهية والعنف ضد الضعفاء في عالم تحكمه اليوم القوة بعيدا عن الأخلاق والقيم؟

هل نستطيع أن نطالب اليوم سكان بلاد الشام مسلمين ومسيحيين بمسامحة الغرب على تدمير بلادهم وقتل أبنائهم وتشريدهم؟

البعض يحاول أن يسوق لما يحصل بأن سببه التطرف الديني .. ولكن الحقيقة أن سببه الصراع الدولي الجديد على إعادة توزيع المنطقة .. تحت مسمى (الشرق الأوسط الجديد)، الذي بدأ مع سياسة التدخلات الأوروبية في السلطنة العثمانية في منتصف القرن التاسع عشر، والذي تمخَّض عن دخول العنصر اليهودي على المنطقة من خلال قضية فلسطين، ومن خلال الأنظمة التي تدعم هذا الكيان والتي تسعى إلى إيجاد حالات تطرف لتبرير تطرف اليهود، كما تسعى إلى إيجاد حالات عداء بين المختلفين: إن في المعتقد أو في المذاهب، لإضعاف ذلك المدِّ المتجانس الذي يحيط باليهود في فلسطين، سواء بشقه الإسلامي أم بشقه المسيحي، وكل ذلك سعيا نحو السيطرة الكاملة على هذه المنطقة المهمة في التاريخ والجغرافيا، والتي تسمى ( البلاد العربية). 

وأستطيع أن أُدَلِّلَ على قولي هذا بكلمة قالها (ناحوم غولدمان) رئيس المنظمة اليهودية العالمية في المؤتمر الذي عُقد في باريس سنة 1968 م بأنه إذا أرادت إسرائيل أن تعيش مطمئنة في فلسطين فعليهم (تفسيخ الشعوب) من حولها، ثم أعطى تصورا كيف يمكن أن يصلوا إلى مطلبهم بأنه عن طريق إقامة (دويلة مارونية في لبنان)، و(دويلة علوية في سوريا)، و(دويلة كردية في شمال العراق). وهذا يعني أنهم سيضربون على وتر: القوميات، والعرقيات، والأثنيات.

ما العمل؟

إن مواجهة التطرف والعنف الذي يناقض ثقافة التسامح تحتاج إلى إحياء الثقافية الدينية الحقة سواء عند المسلمين أو عند المسيحيين، ثقافة الأمة الواحدة التي عاشت خمسة عشر قرنا آمنة مطمئنة في ظل قانون عادل لا يُظلم فيه أحد، قانون يعتبر الدينَ كله أخلاق، والشريعة كلها أخلاق، ونبيُنا صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليتمم مكارم الأخلاق، فالقيم الأخلاقية التي يدعو لها التدين كفيلة بمواجهة هذه الحالة، بينما الانفلات الأخلاقي الذي تعيشه مجتمعاتنا بعيدا عن الدين تساهم بشكل قوي في انفراط العقد الاجتماعي بين أبناء الأمة الواحدة.. لذلك لا بد من قانون وقوة تحمي التسامح والأخلاق ..

القانون يحمي التسامح:

يقول الفيلسوف النمساوي كارل بوبر Karl Popper : «سيقود التسامح غير المشروط حتمًا إلى اختفاء التسامح نفسه.. ففي حال مدّدنا تسامحنا غير المحدود لیشمل حتى أولئك المتعصّبین، وإن لم نكن مستعدين للدفاع عن مجتمعنا المتسامح ضدّ مخالب المتعصّبین، فسنكون بذلك قد دّمرنا حتى المتسامح وتسامحه معهم. 

ولذلك فعلينا أن نطالب - باسم التسامح - الحقّ في عدم التساهل مع المتعصّبین، علينا أن نطالب باعتبار أيّ حركة تعظ بالتعصّب خارجةً عن القانون، وعلينا اعتبار التحريض على التعصّب والاضطهاد جريمةً، تمامًا مثلما نعتبر التحريض على القتل، أو على الإختطاف، أو على الدعوة إلى الرجوع للمتاجرة بالعبيد جريمة».

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين