فقه السيرة (56) دعوة الملوك والأمراء

مضى من الزمن ما بين البعثة وإرسال الرسل والرسائل تسعة عشر عاماً كانت الدعوة الإسلامية فيها محصورة في الإطار الجغرافي المحدود في بلاد العرب، ما عدا الهجرتين إلى الحبشة، وكانتا دورة تدريبية مستقبلية للمسلمين لمتابعة الدعوة إلى الله في بلاد غير بلاد العرب ولأمم تختلف في مواطنها وألوانها ولغاتها ومصالحها وعقائدها ونظم الحكم فيها.

وكانت الدعوة في الإطار الجغرافي المحدود في بلاد العرب مرتكزةً على قاعدة المدينة النبوية ذات الإمكانات المحدودة بشرياً واقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وبعد نضال دعوي استمر ست سنوات، امتلكت المدينة النبوية إمكانيات جغرافية وبشرية واقتصادية وسياسية وعسكرية مكَّنت رسول الله من إرسال الرسل إلى الأمم والملوك والأمراء في الإطار الجغرافي الأوسع والأكثر بُعداً عن المدينة، فَبِصلحِ الحديبية كان الاعتراف السياسي الكامل للزعامة العربية بالوجود الإسلامي للدولة النبوية الإسلامية ، وقد تحققت لها السيادة والاستقلالية المادية والمعنوية والصفة الدينية والتشريعية والوجود الحقيقي على أرض العرب فأَمْكَنَ لأي قبيلة من القبائل أن تقيم معها حلفاً وعقداً، لتشكل معاً قوة دفاع مشترك.

والمعنى الإجمالي لما تحقق مع صلح الحديبية: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قد امتلك القدرة على مخاطبة الملوك والأمراء ودعوة الأمم إلى دين الله وبيده قواعد ثابتة راسخة تستطيع تحمل مسؤولية ذلك.

ومن المهم جداً معرفة القدرات السياسية والدبلوماسية التي أعدها رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في هذا المجال، وظهرت على مسرح الأحداث من خلال اختيار الرسل ومضامين الرسائل وتحمل النتائج المترتبة عليها وحسن معالجتها. ولم يكن هذا الحدث العظيم في غير وقته، فقد اقتضت الحكمة النبوية أن يكون النداء الموجَّه إلى العالم في هذا الوقت بالذات، وهُوَ مَطلع السنة السابعة للهجرة النبوية .

وتعد هذه الخطوة نقطة تحول هامة في تاريخ العرب والإسلام ليس لأن الرسول سوف يوحد عرب الجزيرة العربية تحت راية الإسلام فحسب، ولكن لأن هؤلاء العرب بعد أن اعتنقوا الإسلام وتمثلوا رسالة السماء أنيط بهم حمل الدعوة الإسلامية إلى البشرية كافة. 

ويشير المنهج النبوي في دعوة الزعماء والملوك إلى ما يجب أن تكون عليه وسائل الدعوة، فإلى جانب دعوة الأمراء والشعوب، اختار الرسول صلى الله عليه وسلم أسلوبًا جديدًا من أساليب الدعوة وهو مراسلة الملوك ورؤساء القبائل، وكان لأسلوب إرسال الرسائل إلى الملوك والأمراء أثر بارز في دخول بعضهم الإسلام وإظهار الود من البعض الآخر، كما كشفت هذه الرسائل مواقف بعض الملوك والأمراء من الدعوة الإسلامية ودولتها في المدينة؛ وبذلك حققت هذه الرسائل نتائج كثيرة واستطاعت الدولة الإسلامية من خلال ردود الفعل المختلفة تجاه الرسائل أن تنتهج نهجًا سياسيًّا وعسكريًّا واضحًا ومتميزًا .

إعداد وتأهيل الرسل . 

آ ـ إعداد الرسل: يحتاج الرسل إلى معرفة طيبة بأحوال الأمم التي سيُبْعثون إليهم ولغات تخاطبهم وأعرافهم الدبلوماسية، وعقائدهم التي يدينون بها، وأحوالهم السياسية والمعاشية وأخلاقهم العامة والطرق التي يمكن عبورها للوصول إليهم

ب ـ تعلُّم اللغات الأجنبية: فقد أمر رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الرسل قبل بعثهم إلى الملوك والأمراء بتعلم لغات الأقوام التي سيُرسلُهم إليهم. 

وكان عمرو بن أمية الضمري يعلم لغة الحبشة، ودحية بن خليفة الكلبي يعلم لغة الروم، وحاطب بن أبي بلتعة يعلم لغة القبط وعبد الله بن حذافة السهمي يعلم لغة الفرس

كان زيد بن ثابت ترجمان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكاتب رسائله، وقارئ الرسائل الواردة إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكل رسول من الرسل يعلم لغة القوم الذين سيبلغهم رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم 

ج ـ تحميل الرسل المسؤولية وتوضيح المهمة والهدف: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لأصحابه وافوني بأجمعكم بالغداة، وكان إذا صلّى الفجر حُبس في مصلاّه قليلاً يُسبّحُ ويدعو، ثم التفت إليهم فبعث عدّة إلى عدة، وقال لهم: «انصحوا لله في عباده، فإنه من استُرعيَ شيئاً من أمور الناس ثم لم ينصح لهم حرّم الله عليه الجنّة، انطلقوا ولا تصنعوا كما صنع رُسل عيسى بن مريم، فإنهم أتَوْا القريب، وتركوا البعيد»

فأصبح رسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكل رجل يتكلم بلسان القوم الذين أُرسل إليهم، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال: هذا أعظم ما كان من حق الله عليهم في أمر عباده.

د- فصاحة اللسان وحسن البيان وقوة الحجة ووفور العقل في الرسل

ه-الهيأة واللياقة في الصورة والمظهر.

من رسل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم دحية بن خليفة الكلبي الذي كان ذو هيأة ولياقة تشابه هيأة ولياقة الروم، كان جميل الصورة حسن المظهر، عالماً بطبائع الروم، وكان بنو كلب يسكنون أطراف الشام، وكانت الشام تحت حكم الروم، يُجيد دحْية لغتهم ويَعْرِفُ عَاداتهم وأعرافهم،وكان عمرو بن أمية الضمري شبيه الهيئة بالأحباش، وكانت أمهُ حبشية ويُجيد لغة الأحباش، وربما كان على معرفة مباشرة بالنجاشي الذي أمضى زمناً من حياته عبداً لرجل من بني ضمرة يرعى له الغنم، وكان عبد الله بن حذافة يجيد اللغة الفارسية ويتردد كثيراً على بلاد فارس وبلاط كسرى، مما جعله ذا بصيرة بأحوال الفرس. وكان سليط بن عمرو يختلف إلى اليمامة ويعلم أمورها وأحوالها .

مواصفات الرسائل .

بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم رسائله إلى كسرى وقيصر والمقوقس والنجاشي والحارث بن أبي شمر الغسّاني وهوذة بن علي الحنفي وهذه الرسائل تحمل نفس الهدف، ولكنها تختلف في الشكل، ففيها: الدعوة إلى أهل الكتاب وإلى أهل المجوس، وإلى المشركين العرب، ومما يلاحظ فيها

الاحترام الشديد يُبديه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم لمن يُخاطبه فيجلُّه ويُعَظِّمه احتراماً لمكانته في قومه، فيقول: (إلى عظيم الروم)، (إلى عظيم الفرس)، (إلى عظيم القبط).

- وضوح النص وعدم وجود لبس أو غموض فيه.

- الحرص على فتح الحوار مع الْمُرسل إليه وتشجيعه على الإيمان.

- تحميله مسؤولية رعيته.

ـ احترام مكانته في نفسه وحرصه على ملكيّته فلا يُنازعُ عليها إذا آمن بالله وأسلم.

- تجرَّد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، عن كل مظاهر الملك والعظمة في رسائله، وتعريفه بنفسه أنه (عبد الله ورسوله) وفي ذلك دلالة واضحة على أنَّ العبودية لله وحده.

ـ انسجام نصوص الكتب والرسائل مع الهدف المطلوب ووحدتها الموضوعية، فهي مجرَّدةٌ عن معالجة مشكلات شخصية أو خلافات سياسية، وموضوعها الهادف هو: (الوحدانية لله سبحانه وتعالى).

ـ اعتماد طريقة الملوك والأمراء في ختمٍ وحافظةٍ لتثبيت صحة المصدر وضمان سلامة الرسالة . 

الرسل والرسائل . 

1-حاطب بن أبي بلتعة . 

بعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حاطب بن أبي بلتعة اللخمي إلى المقوقس جريح بن مينا ملك الإسكندرية وعظيم القبط يدعوه إلى الإسلام وكتب معه كتاباً، فأوصل إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقرأه وقال له خيراً، وأخذ الكتاب فجعله في حُقٍّ من عاج وختم عليه ودفعه إلى جاريته، وكتب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: قد علمت أنَّ نبياً قد بقي وكنت أظن أنه يخرج بالشام، وقد أكرمت رسولك، وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وقد أهديت لك كسوةً وبغلةً تركبها. ولم يزد على هذا ولم يُسلم. فقَبِلَ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هديته وأخذ الجاريتين مارية أم ابراهيم بن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأختها سيرين، وبغلة بيضاء وهي دُلدُل.

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: (ضّنَّ الخبيث بِمُلكه ولا بقاء لملكه).

قال حاطب: كان لي مكرماً في الضيافة وقِلَّةِ اللُبث بِبابهِ، ما أقمت عنده إلاَّ خمسة أيام. 

وجدير بنا أن نذكر كلام حاطب للمقوقس؛ حتى يعرف القارئ أنّ هذه البعوث بلغت حدّا من الفقه والحصافة يستحقّ الإعجاب البالغ.

قال حاطب: أنه قد كان رجل قبلك يزعم أنَّهُ الرب الأعلا فأخذه الله نكال الآخرة والأولى، فانتقم به ثم انتقم منه، فاعْتبر بغيرك ولا يَعتبرُ بك غيرك، قال: هات. قال: إنَّ لك دينا لن تَدَعَهُ إلاَّ لما هو خيرٌ منه وهو الإسلام إليه الكافي بهِ اللهُ فقدَ ما سواه ، إنّ هذا النبيّ دعا الناس، فكان أشدّهم عليه قريش، وأعداهم له اليهود، وأقربهم منه النصارى، ولعمري ما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمّد، وما دعاؤنا إياك إلى القران، إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل.

وكلّ نبي أدرك قوما فهم أمته، فحقّ عليهم أن يطيعوه، وأنت ممّن أدرك هذا النبيّ، ولسنا ننهاك عن دين المسيح، ولكننا نأمرك به.

وكان أثر هذه الدعوة الحارة الخطاب الذي سقناه انفا.

2- شجاع بن وهب الأسدي.

وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم شجاع بن وهب الأسدي إلى الحارث بن أبي شمر الغساني يدعوه إلى الإسلام وكتب معه كتاباً ، قال شجاع: فأتيت إليه وهو بغوطة دمشق، وهو مشغولٌ بتهيئة الإنزالٍ والإِلطافِ لقيصر ، وهو جاءٍ من حمص إلى إيلياء، فأقمتُ على بابه يومين أو ثلاثة، فقلتُ لحاجبه: إني رسول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فقال: لا تصل إليه حتى يخرج يوم كذا وكذا، وجعل حاجبه، وكان رومياً اسمه مُرِيُّ، يسألني عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فكنت أحدثه عن صفة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وما يدعو إليه فيرقُّ حتى يغلبهُ البكاء ويقول: إني قد قرأْتُ الإنجيل فأجدُ صفة هذا النبيَّ صلى الله عليه وآله وسلم بعَيْنهِ فأنا أومن به وأُصدِّقه وأخاف من الحارث أن يقتُلَني، وكان يكرمني ويُحسنُ ضيافتي .

وخرج الحارث يوماً فجلس ووضع التاج على رأسه، فأذنَ لي عليه، فدفعت إليه كتاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وقد جاء فيه: (سلام على من اتبع الهدى، وآمن به، إني أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يُبقى لك ملكك) ، فقرأه ثم رمى به وقال: من ينتزع مني مُلكي؟ أنا سائر إليه ولو كان باليمن جئْتُه، عَليَّ بالناس! فلم يزل يَفرضُ حتى قام، وأمرَ بالخيول تُنْعلُ ثم قال: أخْبر صاحبك ما ترى، وكتبَ إلى قيصر يُخْبرُهُ خَبَري وما عزَمَ عليه، فكتب إليه قيصر: أنْ لا تَسِرْ إليه، وإلْهَ عنه وَوَافِني بإيلياء، فلمَّا جاءَ جوابُ كتابه دعاني فقال: متى تُريد أن تخرج إلى صاحبك؟ فقلتُ: غداً، فأمَرَ لي بمائة مثقالٍ ذَهبٍ، ووصلني مُرِيُّ، وأمر لي بنفقةٍ وكسوةٍ، وقال: أقرئ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مني السلام، فقدمْتُ على النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم فأخبرتُهُ، فقال: «باد ملكه» وأقرأته من مُريّ السلام وأخبرته بما قال، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «صدق». ومات الحارث بن أبي شِمْر عام الفتح . 

3-سليط بن عمرو العامري .

وبعث رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم سليط بن عمرو العامري إلى هوذة بن علي الحنفي يدعوه إلى الإسلام وكتب معه كتاباً، فقدم عليه وأنزله وحَباهُ، وقرأ كتاب النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، وردَّ رداً دون رد وكتب إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم: ما أحسن ما تدعو إليه وأجمله وأنا شاعر قومي وخَطيبُهم، والعرب تَهابُ مكاني فاجعل لي بعض الأمر أتَّبعُك، وأجاز سليط بن عمرو بجائزة، وكساه ثوباً من نسيج هجر، فقدم بذلك كله إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وأخبرهُ بما قال، وقرأ كتابه وقال: لَوْ سألني سَيابةً من الأرض ما فعلتُ، بادَ وباد ما في يَدَيْهِ، فلما انصرف من عام الفتح جاءَهُ جبريلُ فأخبرهُ أنه قد مات.

4- دحية بن خليفة الكلبي . 

بعث النبي صلى الله عليه وسلم دحية الكلبي إلى هرقل عظيم الروم وذلك في مدة هدنة الحديبية وجاء في الكتاب: 

«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى: أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت عليك إثم الأريسيين ،( قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إلى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللهِ فَإِن تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ) [آل عمران: 64] ». 

وكان مما قاله دحية لهرقل : يا قيصر، أرسلني من هو خيرٌ منك والذي أرسلَهُ هو خيرٌ منه ومنك، فاسمع بِذُلٍّ ثم أجِبْ بنُصْحٍ، فإنك إن لم تذلَّل لم تفهم وإنْ لم تنصحْ لم تُنصِفْ.

قال قيصر: هات.

قال دحية: هل تعلم أَكانَ المسيح يُصلِّي؟ قال: نَعم، قال: فإني أدعوك إلى من كان المسيحُ يُصلي له، وأدعوك إلى من دَبَّرَ خلق السماوات والأرض، والمسيح في بطن أمه، وأدعوك إلى هذا النبي الأُميّ الذي بشَّرَ به موسى وبشَّر به عيسى ابن مريم بعدَهُ. وعندك من ذلك إثارة من علم تكفي عن العيان وتشفي عن الخبر، فإن أجبت كانت لك الدنيا والآخرة وإلاَّ ذهَبَتْ عنك الآخرة وشوركت في الدنيا، واعلم أن لك رَبّاً يقصم الجبابرة ويُغيّرُ النعم .

ولقد تسلم هرقل رسالة النبي صلى الله عليه وسلم ودقق في الأمر ، روى البخاري بسنده عن عبد الله بن عباس أنَّ أبا سفيان بن حرب أخبره أنَّ هرقل أرسل إليه في ركب من قريش، وكانوا تجاراً بالشام، في المدة التي كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مادَّ فيها أبا سُفيان وكُفَّارُ قريش «صلح الحديبية» فأَتوْهُ وهم بإيلياء فدعاهمُ في مجلسه وحولَهُ عُظماء الروم، ثم دعاهم ودعا بتَرجمانه فقال: أَيّكُمْ أقرَبُ نسباً بهذا الرجل الذي يزعُم أنَّهُ نبيٌّ؟ فقال أبو سفيان: فقلت: أنا أقربهم نسباً، فقال: أَدْنوهُ مني وقَرِّبوا أصحابه فاجعلُوهم عند ظهرِهِ، ثم قال لترجمانه: قل لهم: إني سائلٌ هذا عن هذا الرجل، فإِنْ كذَبَني فكذّبوه، فوالله لولا الحياء من أنْ يأثِروا عليَّ كذباً لكذبت عنه، ثم كان أوَّل ما سألني عنه أن قال: كيف نسبه فيكم؟ قلتُ: هو فينا ذو نسب، قال: فهل قال هذا القول منكم أحدٌ قطُّ قبلَهُ؟ قلت: لا، قال: فهلْ كان من آبائه من ملك؟ قلت: لا، قال: فأشراف الناس يتبعونه أم ضُعَفاؤهم؟ قلت: بل ضعفاؤهم، قال: أيزيدون أم ينقصون؟ قلت: بل يزيدون، قال: هل يرتدُّ أحدٌ منهم سخطةً لدينه بعد أن يدخل فيه؟ قلت: لا، قال: فهل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قلتُ: لا، قال: فهل يَغْدرُ؟ قلت: لا، ونحن منه في مُدَّة لا ندري ما هو فاعل فيها، قال: ولم تمكنِّي كلمة أُدْخِلُ فيها شيئاً (أي أنتقصه بها) غير هذه الكلمة، قال: فهل قاتلتموه؟ قلتُ: نعم، قال: فكيف كان قتالكم إياه؟ قلت: الحرب بيننا وبينه سِجالٌ ينالُ منا وننالُ منه، قال: ماذا يأمركم؟ قلت: يقول: أعبدوا الله وحده ولا تشركوا به شيئاً واتركوا ما يقول آباؤكم، ويأمرنا بالصلاة والصدق والعفاف والصلة، فقال للترجمان: قل له:

سألْتُكَ عن نسبه فذكرت أَنَّهُ فيكم ذو نسب فكذلك تُبعَثُ الرسل في نسب قومها، وسألتك هل قال أحدٌ منكم هذا القول فذكرت أن لا، فقلت: لو كان أحدٌ قال هذا القول قبله لَقُلتُ رجلٌ يأْتسي بقولٍ قيل قبله، وسألتك هل كان من آبائه من مَلِكٍ فذكرت أن لا، قلتُ: فلو كان من آبائه من ملك قُلتُ رجل يَطلب مُلك أبيه، وسألتك هل كنتم تَتَّهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال فذكرت أن لا، فقد أعرفُ أنَّهُ لم يكن ليذَرَ الكذب على الناس ويكذب على الله، وسألتك أشراف الناس اتَّبعوه أم ضعفاؤهم فذكرت أنَّ ضُعفاءَ هُم اتبعوه وهم أتباع الرسل، وسألتك أيزيدون أم ينقصون فذكرت أنَّهم يزيدون، وكذلك أمر الإيمان حتى يتمَّ، وسألتك أَيرتَدُّ أحدٌ سخطةً لدينه بعد أن يدخلُ فيه، فذكرت أن لا، وكذلك الإيمان حتى تُخالط بشاشته القلوب، وسألتك هل يغدر فذكرت أن لا، وكذلك الرسل لا تغدرُ، وسألتك بما يأمركم فذكرت أنه يأمركم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً وينهاكم عن عبادة الأوثان ويأمركم بالصلاة والصدق والعفاف، فإن كان ما تقولُ حقاً فسيملك موضع قدميَّ هاتين وقد كنت أعلم أنَّه خارجٌ لم أكن أظنُّه أنه منكم، فلو أني أعلم أني أخلص إليه لتجَشَّمْت لقاءهُ، ولو كنت عنده لَغَسلت عن قدمه.

في هذا الحدث ما يدل على بعض آثار رسالة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى قيصر، وفيه تحقيق سياسي وعقائدي دقيق تحرّى فيه هرقل استجلاء الحقيقة والتثبت من بعثة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ومقارنته مع ما يعلمه من علامات النبوّة الواردة في الكتب القديمة، والمبشرات برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبنتيجة هذا اللقاء بهرقل قال أبو سفيان: فما زلت موقناً أنه سيظهر حتى أدخل الله علي الإسلام .

5- عبد الله بن حذافة السهمي .

أرسل النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب إلى كسرى ملك الإمبراطورية الفارسية، مع عبد الله بن حذافة السهمي، (أمره أن يدفعه إلى عظيم البحرين فدفعه عظيم البحرين إلى كسرى، فلما قرأه مزقه فدعا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يمَّزقوا كل ممزق) ، ونص الرسالة كما أورده الطبري كالتالي: 

«بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى كسرى عظيم فارس، سلام على من اتبع الهدى، وآمن بالله ورسوله، وشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله، إلى الناس كافة، لينذر من كان حيًّا، أسلِمْ تسلَمْ، فإن أبيت عليك إثم المجوس». 

وقد تحقق ما أنبأ به رسول الله بكل دقة، فقد استولى على عرشه ابنه (قباذ) الملقب بـ (شرويه) وقتل كسرى ذليلاً مهانًا بإيعاز منه سنة 628م، وقد تمزق ملكه بعد وفاته، وأصبح لعبة في أيدي أبناء الأسرة الحاكمة، فلم يعش (شرويه) إلا ستة أشهر، وتوالى على عرشه مدة أربع سنوات عشرة ملوك، واضطرب حبل الدولة إلى أن اجتمع الناس على (يزدجرد) وهو آخر ملوك بني ساسان، وهو الذي واجه الزحف الإسلامي الذي أدى إلى انقراض الدولة الساسانية التي دامت وازدهرت أكثر من أربعة قرون انقراضًا كليًّا، وكان ذلك في سنة 637م، وهكذا تحققت هذه النبوءة في ظرف ثماني سنين. 

6- عمرو بن أمية الضمري . 

أما كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ملك الحبشة فقد أرسله مع عمرو بن أمية الضمري وقد جاء في الكتاب: 

«بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد رسول الله، إلى النجاشي ملك الحبشة، أسلم أنت، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن وأشهد أن عيسى ابن مريم روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم البتول الطيبة الحصي فحملت به، فخلقه من روحه ونفخه كما خلق آدم بيده، وإني أدعوك إلى الله وحده لا شريك له، والموالاة عن طاعته، وأن تتبعني وتؤمن بالذي جاءني فإني رسول الله، وإني أدعوك وجنودك إلى الله عز وجل وقد بلغت ونصحت فاقبلوا نصيحتي، والسلام على من اتبع الهدى». 

7- العلاء بن الحضرمي .

وأرسل صلى الله عليه وسلم أبا العلاء بن الحضرمي بكتابه إلى المنذر بن ساوي العبدي أمير البحرين بعد انصرافه من الحديبية، ونقلت المصادر التاريخية أن المنذر قد استجاب لكتاب النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وأسلم معه جميع العرب بالبحرين، فأما أهل البلاد من اليهود والمجوس فإنهم صالحوا العلاء والمنذر على الجزية من كل حالم دينار ونقل أبو عبيد القاسم بن سلام نص كتاب النبي صلى الله عليه وسلم إلى المنذر بن ساوي برواية عروة بن الزبير، وجاء فيه: 

«سلام أنت، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، أما بعد فإن من صلى صلاتنا، واستقبل قبلتنا، وأكل ذبيحتنا ، فذلك المسلم الذي له ذمة الله، وذمة الرسول، فمن أحب ذلك من المجوس فإنه آمن ومن أبى فإن الجزية عليه».

8- عمرو بن العاص . 

وفي ذي القعدة سنة 8هـ بعث النبي صلى الله عليه وسلم عمرو بن العاص بكتابه إلى جيفر وعبد ابني الجلندي الأزديين بعمان وقد جاء فيه: «من محمد النبي رسول الله لعباد الله ملوك عمان، وأسد عمان، ومن كان منهم بالبحرين إنهم إن آمنوا وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأطاعوا الله ورسوله وأعطوا حق النبي صلى الله عليه وسلم، ونسكوا نسك المؤمنين، فإنهم آمنون وأن لهم ما أسلموا عليه، غير أن مال بيت النار ثنيا لله ورسوله، وأن عشور التمر صدقة، ونصف عشور الحب، وأن للمسلمين نصرهم ونصحهم، وأن لهم على المسلمين مثل ذلك، وأن لهم أرحاءهم يطحنون بها ما شاؤوا». 

من نتائج إرسال الكتب إلى الملوك والأمراء.

أظهر الرسول صلى الله عليه وسلم في سياسته الخارجية دراية سياسية فاقت التصور، وأصبحت مثالا لمن جاء بعده من الخلفاء، كما أظهر صلى الله عليه وسلم قوة وشجاعة فائقتين، فلو كان غير رسول الله صلى الله عليه وسلم لخشي عاقبة ذلك الأمر، لا سيما أن بعض هذه الكتب قد أرسلت إلى ملوك أقوياء على تخوم بلاده كهرقل وكسرى والمقوقس، ولكن حرص رسول الله وعزيمته على إبلاغ دعوة الله، وإيمانه المطلق بتأييد الله سبحانه وتعالى، كل ذلك دفعه لأن يقدم على ما أقدم عليه وقد حققت هذه السياسة النتائج الآتية: 

أ- وطد الرسول صلى الله عليه وسلم بهذه السياسة أسلوبًا جديدًا في التعامل الدولي لم تكن تعرفه البشرية من قبل. 

ب- أصبحت الدولة الإسلامية لها مكانتها وقوتها وفرضت وجودها على الخريطة الدولية لذلك الزمان. 

ج- كشف للرسول صلى الله عليه وسلم نوايا الملوك والأمراء وسياستهم نحوه وحكمهم على دعوته. 

د- كانت مكاتبة الملوك خارج جزيرة العرب تعبيرًا عمليًّا على عالمية الدعوة الإسلامية تلك العالمية التي أوضحتها آيات نزلت في العهد المكي مثل قوله تعالى: ( وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ ) [الأنبياء: 107]. 

وهكذا ، فإن رسائل النبي صلى الله عليه وسلم إلى أمراء العرب والملوك المجاورين لبلاده تعتبر نقطة تحول في سياسة دولة الرسول الخارجية، فعظم شأنها، وأصبحت لها مكانة دينية وسياسية بين الدول، وذلك قبل فتح مكة، كما أن هذه السياسة مهدت لتوحيد الرسول صلى الله عليه وسلم لسائر أنحاء بلاد العرب في عام الوفود.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين