أَوْشَك الجدار على الانهيار

فقط قبل ثلاثين عاماً، كان المواطن في واحدة من أكبر مدن أوروبا لا يستطيع المرور عبر شطريها دون جواز سفر وتصريح مرور.!

فقط قبل ثلاثين عاماً، كان سُكَّان شطر من أوروبا يهيمون على وجوههم ويخاطرون بأرواحهم برا وبحرا لاختراق جدران القهر والاستبداد.!

بجوار "نقطة تفتيش شارلي" أحد بوابات العبور بين برلين الشرقية والغربية، وفي "متحف شارلي" الذي يحوي (ضمن محتوياته) توثيقاً لوسائل الهروب التي كان يبتدعها الألمان في برلين الشرقية لتجاوز الجدار العازل بينهم وبين برلين الغربية، وقفتُ أمام مجسم لقارب مطاطي وداخله رجل يحمل مجدافه، وخلف المجسم لوحة بعرض حائط الغرفة تمثل خريطة يبدو فيها مسارات لسفن راحلة بمهاجرين عبر بحر البلطيق من ألمانيا الشرقية نحو أوروبا، في مشهد شبيه بسفن الموت المهاجرة من بلادنا إلى أوروبا عبر البحر المتوسط.

هكذا وقبل ثلاثين عاماً فقط، كان حال أوروبا المتقدمة والآمنة اليوم، والتي يسير فيها الراكب من أقصاها إلى أقصاها دون جوازات مرور.

هذه أوروبا التي تسير لها اليوم رحلات الهجرة المعاكسة من بلادنا المنكوبة.

هذه هي أوروبا التي لو كنت ولِدتُ فيها بداية القرن العشرين ومتُ في منتصفه، كنت سأعيش خمسين عاما من البؤس والشقاء بين حربين عالميتين مدمِرَتين، إن نجوت فيهما من الموت سأعيش مشرداً تائها في دروب أزمات سياسية واقتصادية طاحنة.

كنت سأعيش مقهوراً تحت نظم ديكتاتورية نازية وفاشية وشيوعية من أسوأ ما أنتجته البشرية من نظم قمعية.

كنت سأحيا بين جدران نفسية تحجز بين البشر على أساس العرق والدين والجنس واللون، كنت سأموت قبل أن أسمع صيحة "مارتن لوثر كينج" وحلمه بالمساواة 

بين البيض والسود والتي لم يمض عليها سوى خمسة وخمسين عاما، ومازال حلمه قيد التحقيق.!

أنا الشرقي المنكوب في الجنوب خلف البحر الأبيض المتوسط، طافت في ذهني هذه الخواطر وعيني تتقلب بين مشاهد داخل متحف شارلي لإحصائيات عدد ضحايا محاولات الهروب من الجدار العازل بين برلين الشرقية والغربية.

وحدثتني نفسي بأن الإنسان في ظل أزماته ونكباته، يحتاج إلى اختراق جدار الزمان والمكان، لتنفتح عينه على تلك الأيام التي يداولها الله بحكمته بين الناس، وعلى نهر التاريخ الجاري بلا توقف ، وأمواجه التي ترفع أقواما وتضع آخرين.

فإن كنا اليوم في قعر الموجة ومحبوسون خلف جدران نعاني منها .. فحتماً سينهدم الجدار .. وحتما ستعلو بنا الأمواج.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين