احتكار الصواب

المحاور

في عالم الأفكار والمعتقدات والمذاهب والآراء جراحات كبرى نتيجة الاختلاف الحاصل بين أصحابها .. اختلاف في الأصول والفروع وفروع الفروع .. ولا تكاد تجد اتفاقاً على شيء بين الناس في بعض المسائل أحياناً. 

‏وقبل الخوض في تحليل نتائج هذه الاختلافات وبيان كيفية التعامل معها، لابد من إجراء تحليل لبعض أسبابها، فالناس تختلف لأسباب منها:

١. اختلاف الأهواء والميولات والرغبات. 

٢. اختلاف الأفكار وطرائق التفكير وزوايا النظر. 

٣. اختلافٌ متوارث لا تبرير له، سوى ما يعرف بترحيل المشكلات عبر الأجيال. 

ولاشك أن هذه الأسباب لا تنفصل عن بعضها .. لأننا في الغالب نغلف اختلاف أهوائنا ورغباتنا وميولاتنا بأغلفة عقلية فكرية .. ونزيد الأمر تعقيداً إذا تم صبغ ذلك الخلاف بصيغة تاريخية .. كأن يكون لدي رغبة في عمل شيء يوافق مصلحة شخصية لي، فأظهر للآخرين بأن في ذلك خير للجميع، وأن ما سواه فيه من المفاسد ما فيه، ثم أقوم باستحضار أدلة شرعية أو شواهد تاريخية تعزز رأيي أو (رغبتي)!!.

‏ثمة نزاع واختلاف أدى إلى صراعات دموية تاريخية وهو على ثلاثة أنواع:

١. صراع بين الباطل والباطل .. وهو صراع مصالح .. ويعتبر أشدها دموية، وفيه يقول سبحانه: "بَأْسُهُم بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ ۚ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ۚ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْقِلُونَ" (الحشر: 14). 

٢. صراع بين الحق والحق .. وهو صراع اجتهادات .. ويعتبر كذلك شديد الدموية .. ومن ذلك ما شهده تاريخنا بشكل مبكر من نزاع بين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وقد رجّح ابن حجر رحمه الله أنه هو المقصود من حديث النبي صلى الله عليه وسلم:" لا تقوم الساعة حتى يقتتل فئتان عظيمتان، فيكون بينهما مقتلة عظيمة؛ دعواهما واحد" متفق عليه .. بل ومثل ذلك ما يجري بين أصحاب المذاهب الفكرية والفقهية في إطار أهل السنة من نزاعات وتجاذبات واتهامات في كثير من الأحيان. 

٣. صراع بين الحق والباطل .. وهو صراع وتدافع أزلي (قديم) وأبدي (مستمر)، أخبرنا عنه رب العزة بقوله سبحانه:"وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ" (البقرة: 251)... ومن ذلك ما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تَزالُ عِصابةٌ من أُمَّتي يقاتلونَ على أمرِ اللهِ، قاهِرينَ لعَدُوِّهِم، لا يَضرُّهم مَن خالفهم، حتى تأتيَهم الساعةُ وهم على ذلك" صحيح الجامع.

وعلى الرغم من تعدد أنواع الصراعات إلا أن هنالك أمر لافت فيها كلها؛ وهو أن الجميع دون استثناء يزعم احتكار الصواب لنفسه:

١. فعلى مستوى الصراع الأول، يقول سبحانه وتعالى:"وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَىٰ عَلَىٰ شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَىٰ لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَىٰ شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ ۗ كَذَٰلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ ۚ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ" (البقرة: 113). 

٢. وعلى مستوى الصراع الثاني، نرى الفرقاء المختلفين في المسائل يستشهدون بالآية نفسها، والحديث نفسه ويحلفون على المصحف كله أنهما كلاهما على صواب، روى البخاري عن أَبِي سَعِيدٍ الخدري رضي الله عنه قَالَ: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:" وَيْحَ عَمَّارٍ ، تَقْتُلُهُ الفِئَةُ البَاغِيَةُ، يَدْعُوهُمْ إِلَى الجَنَّةِ ، وَيَدْعُونَهُ إِلَى النار" قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: " فَإِنْ قِيلَ: كَانَ قَتْلُهُ بِصِفِّينَ ، وَهُوَ مَعَ عَلِيٍّ ، وَالَّذِينَ قَتَلُوهُ مَعَ مُعَاوِيَةَ ، وَكَانَ مَعَهُ جَمَاعَةٌ مِنَ الصَّحَابَةِ : فَكَيْفَ يَجُوزُ عَلَيْهِمُ الدُّعَاءُ إِلَى النَّارِ ؟ فَالْجَوَابُ: أَنَّهُمْ كَانُوا ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يَدْعُونَ إِلَى الْجَنَّةِ ، وَهُمْ مُجْتَهِدُونَ لَا لَوْمَ عَلَيْهِمْ فِي اتِّبَاعِ ظُنُونِهِمْ. 

٣. وحتى على صعيد الصراع الثالث، نجد عجباً حين يزعم فرعون بأن موسى عليه السلام صاحب فتنة "وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَىٰ وَلْيَدْعُ رَبَّهُ ۖ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ" (غافر: 26) .. ويسير على خطاه أبو جهل حين يقول قبيل غزوة بدر فيما روى ابن جرير في تفسيره بسند صحيح قال: "كان المستفتح يوم بدر أبا جهل، قال: اللهم أقطعنا للرحم، وأتانا بما لا نعرفه، فأحنه (اقتله) الغداة، فأنزل الله: "إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمْ الْفَتْحُ" (الأنفال: 19).

وهذا ما يزيد من عمق الأزمة لا سيما وأن الأمر يترتب عليه سلوك وعمل وحقوق عباد وجنة أو نار .. وليس مجرد خلاف أو جدل فكري بارد.

‏ويخطر بالبال سؤال هنا: هل يعرف المخطئون أنهم على غير هدى .. أم أن الشيطان يحرص على تزيين الخطأ لهم حتى يروه صواباً؛ فيرى اللص أن له حقاً في أموال الناس، ويرى الكذاب أنه يقول الحقيقة، ويرى الطاغية المستبد أنه يدافع عن ميراثه وميراث أجداده، ويرى الملحد أنه حر ولا حق لأحد في الحد من حريته .. والذي اعتقده جازماً أن رب العزة لن يحاسب أحداً دون أن يقيم عليه الحجة، وصدق الله: "مَّنِ اهْتَدَىٰ فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا ۚ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ ۗ وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّىٰ نَبْعَثَ رَسُولًا" (الاسراء: 15) .. وقال سبحانه: "وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا ۚ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ" (النمل: 14) .. فكلّ يعرف نفسه .. والله نسأل أن يرينا الحق حقاً وأن يرزقنا اتباعه، وأن يرينا الباطل باطلاً ويرزقنا اجتنابه.

‏لقد كان إخوة يوسف عليه السلام يرون (فيما زين لهم الشيطان) أنهم على صواب حيث قالوا:" لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَىٰ أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ" (يوسف: 8) .. لكن الرسالة وصلتهم فاستدركوا على أنفسهم قبل فوات الأوان"قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ" (يوسف: 97) .. في حين أن فرعون تأخر في الاستدراك بعد تكرار وصول الرسالة إليه ففاته الأوان" حَتَّىٰ إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ" (يونس: 91).

وفي مسألة تعدد الصواب في أراء واجتهادات المكلفين، يقول الإمام الشوكاني في إرشاد الفحول:" .. وذهب أبو حنيفة، ومالك، والشافعي، وأكثر الفقهاء إلى أن الحق في أحد الأقوال (حصراً) ولم يتعين لنا، وهو عند الله متعين، لاستحالة أن يكون الشيء الواحد، في الزمان الواحد، في الشخص الواحد حلالاً وحراماً، وقد كان الصحابة رضي الله عنهم يُخطِّئ بعضهم بعضاً، ويعترض بعضهم على بعض، ولو كان اجتهاد كل مجتهد حقاً، لم يكن للتخطئة وجه" .. ولكن قبل أن تزعم بأنك أنت صاحب الحق لابد أن تجتهد طويلاً في البحث عنه، وأن تستخير الله تعالى ليدلك عليه، وأن تجتنب الهوى ما استطعت، وحينها فلا ضير عليك لو أخطأته، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم: " إِذَا حَكَمَ الْحَاكِمُ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ، وَإِذَا حَكَمَ فَاجْتَهَدَ ثُمَّ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ" متفق عليه.

لقد وصل الاختلاف في وجهات النظر بين أصحاب المدارس الفقهية إلى القول ببطلان العبادة على مذهب كذا عند فعل كذا أو قول كذا .. وعلى الرغم من ذلك كان الأدب، والذوق الرفيع، واحترام اجتهاد الآخر؛ حاديهم إلى استيعاب بعضهم .. فرأيي صواب يحتمل الخطأ (هذا الاحتمال مهم في باب التواضع مع الآخر) ورأي غيري خطأ لكنه يحتمل الصواب (هذا الاحتمال مهم في باب الاستفادة من الآخر). 

ومثلما قلنا في المدارس الفقهية ينبغي القول في المدارس الفكرية؛ طالما أنها كلها تستظل بظلال التوحيد المجيد، وتسعى وتجتهد لتحقيق نهضة الأمة .. فمن هذه المدارس من يرى في العمل السياسي ومزاحمة الساسة خير للأمة، ومنها ما يرى في العمل الجهادي ومدافعة المعتدين خير للأمة، ومنها ما يرى في تربية الناس وتزكية المجتمعات خير للأمة، ومنها ما يرى في الدعوة والتبليغ خير للأمة، ومنها ما يرى في تمكين السُّنة ومحاربة البدعة خير للأمة .. ومنها ما يرى الثورة على المستبد والمحتل واجبة .. ومنها ما يرى بأن الصبر والثبات أوجب (ولكن دون تبرير لوجوده واستسلام كامل له) .. وهذا كله لا يخرج عن دائرة الصواب، وإن تفاوتت هذه المدارس الفكرية في أهميتها وضرورتها على ضوء حال الأمة وحاجتها .. فعلام التفسيق والتكفير والتخوين .. ولماذا ترى العيوب في أفكار غيرك، ولا ترى شيئاً من العيوب في نفسك .. "وما أبرِّئُ نَفْسِي" فكل هذه المدارس اجتهادية؛ لم تخل واحدة منها من خلل وزلل واختراق وهوى .. لكنها في الجملة حسنة نافعة؛ إلا ما كان بين جنباتها كلها من إفراط وتفريط.

لقد تعلمنا كلنا فنون الإلقاء .. ولا زلنا بحاجة إلى تعلم شيء من فنون الإصغاء .. لأن في الاصغاء للآخر معرفة لمقاصده وإدراك لزوايا نظره؛ فلعله يريد أن يقول مثل ما نقول ولكن بلغة أو أسلوب مختلف، أو أنه خانه التعبير عن الصواب الذي نراه .. أو أن لديه ما هو أصوب من صوابنا .. فلو أن أحدهم سأل عن أقرب الطرق إلى السوق فإن لهذا السؤال إجابات صحيحة وأجابات أصح .. وأسوأ الإجابات أسرعها في الغالب .. وتستثنى الإجابات الخاطئة.

لقد تشدد البعض وتعنت في رفضه للآخر مهما كان قريباً أو يتقاطع في بعض الأفكار والآراء معه .. وعقد على ذلك ولاءً وبراءً، فلم يُبق لنفسه صديق ولا حتى حليف .. في حين تساهل آخرون في الانفتاح على الآخر حتى أفسدوا قلوبهم وعقولهم بتخريف اليهود وتزوير النصارى وكذب الروافض وفلسفة الملحدين .. وأصبح الكفر والعهر والظلم بالنسبة لهم وجهة نظر .. والصواب في ذلك هو أن يكون الناس بالنسبة لنا على مراتب:

١. منهم من نأخذ عنهم (الثقات العدول .. نأخذ عنهم ما لم يبدلوا تبديلا). 

٢. منهم من نأخذ منهم (أهل الحكمة والبلاغة من غير المسلمين .. نأخذ منهم انتقاءً). 

٣. منهم من نجتنبهم (الذين خلطوا فكراً صحيحاً وآخر فاسداً). 

٤. منهم من نحذر منهم (المفسدون أصحاب الفكر المدمر).

وختاماً

إن أكثر ما يدعو إلى الاحترام؛ أن يعيش المرء ويموت وهو يبحث عن الصواب .. وأن لا يزعم احتكاره لنفسه .. فالمرء يتمسك بما يراه صواباً اليوم، ثم هو في الوقت ذاته يبحث بشكل جاد عما هو أصوب في الغد .. ولا حرج في تغيير المسار أو تبديل الأفكار؛ إن وجدت طريقاً أقل كلفة وأبلغ في الوصول إلى الغاية، لأجل ذلك نطلب تجديد وتأكيد الهداية لأنفسنا في كل ركعة .. ولكل زمان ومكان صوابه .. وقد تعددت فتوى النبي صلى الله عليه وسلم في المسألة الواحدة لتعدد حال السائلين .. والدعوة السلمية كانت أصوب للعهد المكي .. بينما الثورة والقتال صار الأصوب في العهد المدني .. ولا ينبغي قياس حال على حال آخر .. وللشافعي رحمه الله فقه يناسب كل بلد نزل فيه .. مع بقاء الأصول وتثبيت القواعد، و"الكلمة الحكمة ضالة المؤمن؛ أنَّا وجدها فهو أحق بها" رواه الترمذي .. والمتعصب المتشنج مغرور .. وعند الله عاقبة الأمور.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين