حدث في السابع عشر من ذي القعدة: استشهاد الإمام أحمد بن إبراهيم الغازي، المعروف بجوري

في السابع عشر من ذي القعدة من عام 949=21/2/1543استشهد الإمام الغازي أحمد بن إبراهيم العَدالي المعروف بجورَيّ، أي الأعسر بالصومالية، ويقال له كذلك أحمد قَران، أثناء معركة مع الأحباش وحلفائهم البرتغاليين شرقي بحيرة تانا في شمالي غربي الحبشة، ونتج عن المعركة انسحاب القوات العَدالية الصومالية من الهضبة الأثيوبية وانتقال المعارك إلى السفوح الأثيوبية.

ولد أحمد جوريّ سنة 912 على التقريب في زيلع على البحر الأحمر، عاصمة سلطنة عدال، في عهد الأمير محمد المحفوظ، والذي استشهد في سنة 923 في إحدى معاركه مع الإمبراطور الحبشي لبنه دنقل الملقب داويت الثاني، وهي ذات السنة التي هاجم فيها الأسطول البرتغالي زيلع وأحرقها، وتولى الحكم بعد محفوظ سلطان اسمه أبو بكر بن محمد شاع في عهده الظلم وقطع الطريق وتداول الخمور والفجور، فرحل أحمد إلى هَرَر مع مجموعة من أصحابه الشباب يبلغ عددهم حوالي مئة، وأمّروا عليهم أحدهم وكان يدعى عمر دين، وسمعوا مرة بقدوم حملة حبشية نهبت البلاد وأسرت النساء والعيال وساقت المواشي، فساقوا وراءهم واشتبكوا معهم وهزموهم، وأطلقوا الأسرى وأعادوا الأموال والمواشي إلى أصحابها.

وقوي شأن هؤلاء الفتية شيئاً فشيئاً حتى خشي السلطان أبو بكر على ملكه منهم وقرر القضاء عليهم، وخرج بنفسه لقتالهم، فكانت الدائرة عليه، وهزموه، فعاد وحشد قواته وطردهم حتى حصرهم في جبل بضعة عشر يوماً، وقتل أميرهم في ذلك الحصار، وتوسط بعض العقلاء في الصلح، فأصدر السلطان عفوه عنهم وسمح لهم بالعودة إلى زيلع وأن تبقى معهم خيولهم وآلة حربهم.

وما لبث السلطان أن نقض العهد وأخذ الخيول والسلاح، وقتل أحد كبارهم، وتوعد أحمد جورَيّ بالقتل، فهرب من البلد باتجاه هرر، فخرج السلطان وراءه وهو يهرب من وجهه في كر وفر، وانضم إليه عدد من الناقمين الكارهين فصار معه قرابة 200 راجل وسبعة فرسان، واستطاعوا مرة هزيمة قوة كبيرة أرسلها السلطان أبو بكر وراءهم فازدادوا بها قوة، وخرج السلطان وراءهم وأخلى البلد من الحامية، فقاموا بحركة التفاف لمهاجمة البلد فعلم بذلك السلطان وأدركهم على حدود البلد، فانسحبوا في جنح الليل لعدم تكافئ القوى، فسار السلطان وراءهم من اليوم التالي، فعادوا عليه وهزموه هزيمة منكرة، وسار أحمد بجنوده إلى هرر فاستولى عليها وأمّن أهلها ونادى فيها بالعدل والانصاف.

وأعاد السلطان تجميع قواه وسار على رأس جيش جديد لمهاجمة أحمد جوري، الذي علم بمسير السلطان إليه فاستعد لمواجهته واستطاع حصر الجيش القادم، وتوسط لدى الطرفين الفقهاء والمشايخ لحقن الدماء، فاتفقا على أن يبقى السلطان في سلطنته على أن يعترف بأحمد جوري أميراً على البلاد التي وقعت تحت سيطرته، وعادتهم في ذلك الوقت أن الأمير هو حاكم البلاد الفعلي على أن يؤدي للسلطان ضريبة معلومة مفروضة في كل سنة، وهكذا استتبت الأمور لأحمد جوري الذي تلقب بالإمام، فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر وجلس للمظالم، وأمن الطرق فأحبه الناس وانتعشت أحوال البلاد، وجرى ذلك حوالي سنة 931=1525 وكان عمر أحمد جورَيّ في حدود عشرين سنة، وبعدها بقليل توفى السلطان أبو بكر فجاء أحمد جوري بقريب للسلطان ونصبه مكانه وضمن بذلك ولاءه وطاعته.

وكان الأحباش قد انتهزوا فرصة التقلبات والاضطرابات فغزوا بلاد المسلمين وأخربوها مراراً، وفرضوا على بعضها خراجاً سنوياً يؤدوه إليهم، فمنع الإمام أحمد ذلك، وبسط حمايته على أراضيهم، وكانت أول معركة كبيرة للإمام أحمد مع الأحباش هي معركة شمبرة كورِه في سنة 935=1529، فقد كان القائد الحبشي دقالهان قد هاجم سلطنة عدال في السنة الماضية، فمضى أحمد إلى الحبشة على رأس جيش صغير تكون من 300 فارس وبضعة مشاة، مقابل جيش حبشي بلغ 3000 فارس وأعداداً بالغة من المشاة، ويقال إنه في هذه المعركة استخدم الإمام أحمد مدافع جلبها من العثمانيين في اليمن، فكانت هذه أول مرة تدوي فيها المدافع في القرن الأفريقي، وكان لها دور حاسم في هزيمة الحبشة لوقع المفاجأة ولتأثيرها المعنوي والمادي الكبير.

وبعد ذلك باشر الإمام أحمد في تكوين جيش منظم، واستجابت له كبريات القبائل الصومالية، وبخاصة قبيلة هبر مقادل من إسحاق، وقبيلة هارتي، وتعني القويّ بالصومالية، وقبيلة مريحان، واتسم هذا الجيش بالانضباط والثبات، وهما عنصران أساسيان للقتال، ورغم أن جنوده كانوا أبناء عدة قبائل صومالية، إلا أنهم تخلوا عن ولائهم القبلي وانضموا إليه وقاتلوا معه تحت راية الإسلام باعتباره إمام المسلمين في تلك البلاد.

ولم يستطع الإمام أحمد استثمار هذا النصر الذي فتح أمامه أبواب الحبشة، فقد كانت القبائل التي انضوت تحت لوائه معتادة على أن تقوم بغارات خاطفة على الأراضي الحبشية تعود بعدها بالغنائم إلى أوطانها، فلما عزم الإمام على متابعة القتال تململ جنوده من المقام في الهضبة الحبشية بعيداً عن أوطانهم، فما أمكنه البقاء وعاد بجيشه إلى الصومال، ومضت سنتان قبل أن يهاجم فيها الأحباش من جديد، وجرت في سنة 938 معركة أمبا سل التي هزم فيها الإمام أحمد الحبشة هزيمة منكرة، وكاد إمبراطورهم أن فيها يقع أسيرا، فتابع طريقه هذه المرة لغزو الهضبة الأثيوبية، فسار من بلد لأخرى وخرَّب الكنائس واستولى على نفائسها، حتى وصل تيجري وهزم جيش الحيشة الذي تجمع لصده عنها، وبلغ ذروة انتصاره عندما وصل أكسوم في أقصى الشمال ودمر كنيسة مريم الكبرى التي كان ملوك الحبشة يتوَّجون فيها منذ قرون عديدة.

كانت السفن البرتغالية تنطلق من الهند من مستعمرتها في ميناء جوا على سواحل مليبار، وتجوب بحر العرب والبحر الأحمر للتصدي للسفن التجارية العربية، وكان ضمن مخططاتها مهاجمة الحجاز لأهداف دينية بحتة، وكان الإمبراطور الحبشي داويت الثاني قد قلص علاقته بالبرتغاليين لخشيته منهم، بعد أن قضى على محفوظ أمير زيلع واعتقد أنه انتهى من التهديد الصومالي.

وفي سنة 947=1542 قاد استيفاو دا جاما، ابن الرحالة المشهور فاسكو دا جاما، حملة بحرية جعلت من ميناء مَصُوع في جنوبي البحر الأحمر قاعدة لها، وتركت فيه بعض السفن والرجال، واتجهت شمالاً لتفاجئ الأسطول العثماني في السويس وتدمره، ولكن العثمانيين كانوا على علم بقدوم الحملة فاستعدت لها سفنهم وأجبرتها على الانسحاب والعودة إلى ميناء مصوع الذي كان ضمن مملكة الحبشة آنذاك.

وكان البرتغاليون الذي مكثوا في مصوع قد علموا بأنباء القتال الدائر بين المسلمين وبين الأحباش المسيحيين، فاقترحوا على استيفاو مساعدة الحبشة، فأرسل أخاه كريستوفر دا جاما، البالغ من العمر 24 سنة، على رأس 400 من رماة البنادق مع عدد من الحرفيين والمساعدين، ساروا جنوباً نحو الهضبة الإثيوبية صحبة نائب الإمبراطور في المقاطعات الشمالية، وحجزهم موسم الأمطار عن متابعة السير، فعسكروا في مكانهم وقاموا بالإغارة على القرى الحبشية القريبة التي دانت بالطاعة للإمام أحمد، والتقوا في تلك الفترة بالملكة سابلة ونقل زوجةِ الإمبراطور داويت الثاني ووالدة الأمير قلاوديوس، أو كلاوديوس، الذي لم يستتب له عرش الحبشة بعد مقتل والده في إحدى المعارك سنة 947، وكان يعيش منبوذاً في جنوبي الحبشة، مع ثلة ضئيلة من الفرسان.

وكانت أول مواجهة بين البرتغاليين وبين الإمام أحمد في ذي الحجة من سنة 948=1542 عقب عيد الأضحى، بالقرب من نهر في منطقة بحيرة أشنجه، وكتب مؤرخ برتغالي يصف كيف استكشف الإمام أحمد المواقع البرتغالية، فقال: ترك ملك زيلع أعوانه ينصبون معسكره، وصعد تلة هو وثلاثمئة فارس ليتفحص معسكرنا، وكانت تظلله ثلاث رايات كبيرة، اثنتان منها بيض مع هلال أحمر، وواحدة حمراء فيها هلال أبيض، وكانت هذه الرايات دائماً تظلله وبها يُعرف مكانه.

ووفقاً للتقاليد الإسلامية قام الإمام بدعوة الخصوم إلى الإسلام أو مغادرة بلاده أو الحرب، وأمهلهم 3 أيام، فلما لم يقبلوا هاجمهم في اليوم الرابع، ولكنه لم يستطع التغلب على البرتغاليين، فقد صفَّ دي جاما عسكره في تشكيل كردوس مشاة مربع وهاجم عسكر الإمام واستطاع دحر هجمات خيالة المسلمين بفضل تماسك الكردوس ووطأة نار مدافعه وبنادقه، وأصابت الإمام طلقة طائشة جرحت فخذه، فأمر بالانسحاب، وما أن رأى البرتغاليون والأحباش الراية التي تشير بالانسحاب حتى انقضوا على جيش الإمام يتتبعونه، فأوقعوا فيه خسائر، ولكنهم لم يدحروه، فقد أعاد تجميع قواته على الطرف الثاني من النهر، وأرسل في طلب الإمدادات ليخوض المعركة من جديد.

ولمابدأ المدد يصل تباعاً بعد حوالي أسبوع من المعركة الأولى تحرك دا جاما على الفور للقضاء على خصمه قبل أن يصبح في أوج قوته، فهاجمه في اليوم العاشر، وصفَّ جيشه وفق كردوس المشاة المربع الذي أثبت نجاحه من قبل؛ ، وقاتل المسلمون بعزيمة أشد وكادوا أن يدحروا الكردوس لولا أن انفجر بعض البارود في الطرف البرتغالي جفلت معه خيل المسلمين وارتدت على عقبها، فهاجمهم الخصم واضطرهم إلى الانسحاب كيفما اتفق، وأصيب الإمام أحمد بجراح وحمله رجاله على أكتافهم بعيداً عن المعركة، ولم تكن خسائر البرتغاليين قليلة، بل كانت بالغة لدرجة أن أحد من حضروا المعركة تحسر أن لم يبق لديهم فرسان تمكنهم من تعقب المنهزمين والقضاء عليهم.

وبعد هذه الهزيمة بدأ أهل المناطق الحبشية في التنكر للإمام أحمد وامتنعوا عن تقديم الزاد له، وفي هذه الأثناء وصلت إمدادات حبشية إلى معسكر دا جاما، فسار بهم جنوباً يتعقب الإمام أحمد حتى لحق به بعد عشرة أيام، وتهرَّب الإمام أحمد من معركة لم يكن مستعداً لها، ثم جاء موسم الأمطار وأصبح القتال متعذراً إلى أن تدخل السنة الجديدة، وخيم الطرفان على مرأى من بعضهما البعض؛ الأحباش والبرتغاليون بالقرب من البحيرة والإمام على جبل زوبِل.

ولم يتوانى الإمام عن التخطيط لمواجهة خصمه بمثل سلاحه، فأرسل إلى الوالي العثماني في زَبيد في اليمن يستنجده، وكانت الدولة العثمانية كما أسلفنا على وعي بنوايا البرتغاليين في السيطرة على التجارة في بحر العرب لدوافع تجارية، وفي الهجوم على الحرمين والحجاز لدوافع دينية، فأمده الوالي بألفين من متطوعة العرب و900 من رماة البنادق الأتراك، وما أن انتهى الشتاء والأمطار حتى هاجم الإمام أحمد المعسكر البرتغالي في معركة وفلا، وذلك في منتصف سنة 949=1542، وانجلت المعركة عن مقتل حوالي نصف البرتغاليين، وغنم أحمد معظم أسلحتهم النارية، وأصيب دا جاما بجروح بالغة وأُسِر مع عشرة من قواده، وعرض عليه الإمام أن يطلق سراحه إذا هو أسلم، فلما رفض أمر بقتله.

وبعد هذه المعركة ترك عدد من الجنود الأتراك جيش الإمام أحمد، وتختلف الروايات في سبب ذلك، من رواية تقول إنهم تركوه لأنه قتل دا جاما وكانوا يريدون تقديمه للسلطان في استانبول، وتقول رواية أخرى لعلها أصح، إنهم طلبوا منه 10.000 دينار ذهبي مكافأة على الانتصار، على عادة الأتراك، فثقلوا عليه وشعر أنه بعد انتصاره لم يعد بحاجة إليهم، فأرضاهم وسرحهم سراحاً جميلا.

أما من بقي من الجنود البرتغاليين فانضموا إلى الإمبراطور قلاوديوس، واستفادوا من سلاح كانوا قد خزنوه في الأراضي الحبشية، وشكل الأحباش جيشاً قوامه قرابة 9.000 جندي، ساروا لقتال الإمام أحمد، وكان أول اشتباك لهم في 9 ذي القعدة مع قوة من الفرسان والمشاة الصوماليين بقيادة أحد أمراء الإمام المدعو سيد محمد، واستطاع الأحباش هزيمة هذه القوة وقتلوا قائدها وعرفوا من الأسرى أن الإمام على مسيرة 5 أيام منهم، فاتجهوا ناحيته ومعنوياتهم في أوجها بسبب النصر الذي حققوه، وفي أثناء المسير تخلف عنهم لخطأ ما 50 من الجنود البرتغاليين.

ولما وجد الجيش الحبشي البرتغالي الإمام أحمد عسكروا قريباً منه، وتريث السلطان قلاوديوس في الهجوم عليه على أمل أن يأتي الجنود الخمسون، والذي كانوا في رأيه أفضل من 1000 من جنوده، وأمضى الطرفان بضعة أيام وهما يتناوشان غارات الخيالة، ورجحت الكفة في هذه الغارات إلى جانب الطرف الحبشي البرتغالي، ثم استطاع الصوماليون قتل قائد حبشي كبير هو أزماش كِفلو، فتشاءم بذلك الأحباش وتضعضت نفوسهم، وهمَّ كثيرون منهم بترك القتال، فخشي الإمبراطور قلاوديوس أن ينفض أغلب جيشه إن ترك الأمور على غاربها، فقرر أن يقوم بهجومه في اليوم التالي.

وجرت المعركة في في 17 ذي القعدة 949=22/2/1543 في واينا داقا شرقي بحيرة تانا، وقسم الإمام جيشه إلى قسمين، ونجح المسلمون في البداية في دحر العدو ولكن هجمة من خيالة البرتغال والحبشة زحزحتهم عن مواقعهم، فقام الإمام أحمد بدخول القتال وقيادة هجوم مضاد، وكان أحد الرماة البرتغاليين يترصده بنية أن يثأر لمقتل دا جاما، فلما سنحت له فرصة أطلق عليه النار فأرداه قتيلاً، وحزَّ أحد الأحباش رأس الإمام وقدَّمه للإمبراطور الذي كان قد وعد من يأتيه به أن يزوجه أخته، ولكن الإمبراطور لم يف بوعده بحجة أنه لم يقتله وإنما أجهز عليه، وأنه لا يعرف من قتله.

وما أن شاع مقتل الإمام في جيشه حتى اضطربت صفوفه ودبت فيها الفوضى، وانسحب من سلم من أفراده، إلا أحد الجنود الأتراك الذي وقف بسيفه في وجه خمسة من فرسان الحبشة فلم يكونوا له أكفاء، وبقي يقاتل حتى طعنه فارس برتغالي برمح طويل أنفذه فيه، فأمسك التركي بالرمح بشدة وأهوى بسيفه على الفارس فقطع ركبته قبل أن يموت.

وكان الإمام أحمد قد تزوج في سنة 935 السيدة باتي دلونبره ابنة محفوظ أمير زيلع السابق، وفي سنة 937 جاءه منها مولود أسماه محمد، وكان الشاب الصغير إلى جانب والده عندما استشهد في المعركة، ووقع في الأسر، وكان من عادة الإمام أحمد أن يصطحب زوجته إلى القتال، فلما دارت عليه الدوائر واستشهد، عادت إلى هرر هي ومن بقي من الجيش ومعها كثير من الأموال.

وترك المنهزمون وراءهم أسراهم من الأحباش الذين وجدَ كثيرٌ منهم أهليهم في جيش الإمبراطور قلاوديوس، وكان عدد لا يستهان به من الأحباش يقاتل مع الإمام أحمد، وذلك بسبب شقاق نجم داخل المعسكر الحبشي حول الإمبراطور قلاوديوس وأحقيته في تولي العرش، فطلبوا الصفح من الإمبراطور فقتل بعضهم وعفا عن أكثرهم، فمالت إليه قلوب الحبشة وأصبح بمقدوره بعد هذا الانتصار أن يعمل على توطيد أركان حكمه.

ولم تكن دلونبرة زوجة الإمام أحمد زوجة تقليدية، بل كانت سيدة حكيمة مدبرة رحيمة، أثنى على سلوكها ورحمتها أعداؤها من الحبشة، ومن ذلك أن زوجها أسر في إحدى المعارك الأمير ميناس ابن الإمبراطور داويت الثاني مع بعض أبناء عمه، وكان مصير أبناء العم الخِصاء وتقديمهم هدية لوالي زبيد، ولكن هذه السيدة أقنعت زوجها أن ينزل الناس منازلهم، وأن ابن الإمبراطور له معاملة خاصة، فربَّته في بيتها وزوجته ابنتها، ولما قتل زوجها وقع في الأسر ابناها، فاتفقت هي مع أم الأمير ميناس على إطلاق سراح ابنيها مقابل إعادة الأمير ميناس إلى الحبشة، ليصبح إمبراطورها في المستقبل بعد مقتل أخيه قلاوديوس.

ولما قتل زوجها جعلت دلونبرة نصب عينها أن تثأر للإسلام ولزوجها القتيل، وتزوجت بابن أخته النور بن مجاهد واشترطت عليه أن يقاتل الأحباش ويأخذ بثأر زوجها، فأخذ بالأسباب وحصَّن هرر وبدأ في توطيد سلطانه والتحالف مع القبائل، ومضت قرابة 10 سنوات دون كبير قتال، إلى سنة 962، حين بدأ نور جهاده فهاجم سهول بالِه في شرق الحبشة ثم هاديه، وفي سنة 966 هاجم منطقة فاتَقار واشتبك مع الإمبراطور قلاوديوس وأرداه قتيلاً، واستمر نور في غزو الأراضي الحبشية مدة 12 سنة أخرى، قبل أن يتوقف ويعود إلى هرر، حيث وافته منيته سنة 975، ولجهاده الطويل كان يلقب صاحب الفتح الثاني.

جذَّرت هذه المعارك العلاقات العدائية التاريخية بين الصومال وبين الحبشة، وتركت آثارها على طرفين أحدهما عريق في النصرانية ويحكمه إمبراطور يعتبر نفسه من سلالة النبي سليمان، والثاني قبائل لها وشائج قديمة مع الجزيرة العربية، دخلت في الإسلام وتمثلته قلباً وقالباً في مجتمعاتها وقيمها، فأصبح محور وجودها وذاتها، وكان الأثر المعنوي لهذه المعارك أكبر بكثير من عواقبها المادية، فقد حطمت الاستقرار العريق الذي نعمت به الحبشة قروناً لم تتعرض فيها لتهديد خارجي، ولم يلتزم المقاتلون الصومال دائماً بتعاليم الإسلام في الجهاد والغزو، والتي تقضي باحترام أماكن العبادة وعدم التعرض لها أسوة بما فعله الصحابة في بلاد الشام ومصر، ولا يزال الإمام أحمد جورَي وغزوه للحبشة ماثلاً حياً في ذاكرتها الجماعية، تتناقل أخباره الأجيال؛ جيلاً عن جيل، محفوفة بما يشبه الأساطير للتخويف من الإسلام والمسلمين، وفي المقابل فإن الصوماليين يعدونه بطلاً مقداماً ضحى بحياته لردع العدوان الأثيوبي على أرض الأجداد، ومنها منطقة أوجادين ذات الأغلبية الصومالية، والتي احترب البَلَدان عليها في سنوات 1977-1982، وتحمل اسم الإمام أحمد جوري الغازي أهم مدرسة ثانوية في مقديشو، وأطلقت حكومة المحاكم الإسلامية اسمه في سنة 2008 على مطار مدينة كسمايو في غربي الصومال.

ونعود إلى العلاقات البرتغالية الحبشية، والتي كان يفترض أن تكون على أحسن حال بعد هذا التعاون والدعم الكبير، ولكنها كانت علاقات متوترة ما لبثت أن اضمحلت فاندثرت، وسبب ذلك أن أحد قواد الحملة البرتغالية كان معه ابنه القسيس الشاب، ويدعى خواو بِرميودس، فأرسله مبعوثاً عن الحملة إلى البرتغال يطلب العون والمدد، وقام برميودس بتقديم نفسه في أوروبا على أنه بطرك الحبشة، ولما عاد إلى الحبشة ادعى أن البابا بولص الثالث قد عينه بطركاً على الإسكندرية، وكانت تصرفاته في الحبشة تنسجم مع أخلاق شخص يقوم بمثل هذه الادعاءات الزائفة، ولم ينطل زيف دعاويه العريضة على الإمبراطور قلاوديوس، فأرسل يسأل ملك البرتغال خوان الثالث عن حقيقة الأمر، فأجابه الملك إنه لا يعدو كونه قسيساً عادياً وأن تصرفاته لا ينبغي أن تمر دون عقاب يردعه ويكبح جماحه. وعلى إثر ذلك قام الإمبراطور بنفي القسيس المدعي حتى سافر من الحبشة.

وكان الملك البرتغالي خوان الثالث قد وعد في رسالته إلى الإمبراطور قلاوديوس أن يرسل له قساوسة ثقات وأرسل له في سنتي 962 و964 عدداً من رهبان السلك اليسوعي المعروفين بالجزويت، وكان الهدف من إرسالهم دراسة إمكانية تحويل النصارى الأحباش ليتخلوا عن كنيستهم الأرثوذكسية الشرقية ويتبعوا الكنيسة الكاثوليكية، ولكن الإمبراطور قلاوديوس لم يتقبل هذه الفكرة على الإطلاق، وإن كان قد تلقاهم بالإكرام، وأصدر إعلاناً حول معتقده أكّد فيه إيمانه بطبيعة واحدة للمسيح واحترام عطلة السبت والمحافظة على الختان وتحريم لحم الخنزير وغيره من الأطعمة غير الطاهرة، ويذهب بعض المؤرخين أن هذا الموقف الصلب كان له أبلغ الأثر في أن حافظ الأحباش على كنيستهم وتقاليدها المتميزة.

واستولى العثمانيون في سنة 964 على ميناء مَصُوع، فكانت ضارة نافعة؛ إذ انقطع الطريق الذي يصل الحبشة بالعالم الخارجي، فأصبحت في عزلة مكنتها إلى حد كبير من أن تعود إلى سابق عهدها في العيش بعيداً عن المؤثرات الخارجية، مع تصارع الأسر الحاكمة فيها على الملك، أما الصومال فبقيت في حكم الأسر المحلية يظلها سلطان الدولة العثمانية.

وبقيت الأمور في الحبشة على ذلك النحو إلى سنة 1862، وكان الإمبراطور تادروس يواجه مشاكل داخلية من أمراء الأقاليم التي لم يتوقفوا عن التآمر عليه، فهداه التفكير إلى أن يقوم بخطوة جريئة على صعيد السياسة الخارجية تعيد له التأييد الشعبي، فكتب تادروس للملكة البريطانية فكتوريا يعرض عليها إقامة تحالف أثيوبي بريطاني للقضاء على الإسلام، ولما تجاهل البريطانيون عرضه، قام تادروس بسجن المبعوث البريطاني وبعض الأوروبيين، وأدى هذا إلى أن أعدت بريطانيا حملة عسكرية، قوامها هنود، قادها السير روبرت نابيير، دفعت المال والسلاح لأمير تجري حتى يسَّهل مرورها إلى الهضبة الحبشية، وهزمت بالقرب من مكدالا قوة صغيرة أعدها الإمبراطور لمواجهتها، فما كان من الإمبراطور إلا أن انتحر خوفاً من الأسر، وخلفه أمير تجري الذي تسمى بالإمبراطور يوحنا الرابع.

وفي سنة 1290=1873 أصدر السلطان العثماني عبد العزيز فرماناً ألحق بموجبه ميناء مصوع بمصر التي كان يحكمها الخديوي إسماعيل، ملك مصر والسودان، والذي قام على إثر ذلك بحملات عسكرية فاشلة باهظة التكاليف في الحبشة سنة 1876، ثم بدأت إيطاليا في سنة 1299=1882 محاولة استعمار المنطقة تعويضاً عن خسارتها استعمار تونس التي احتلتها فرنسا، فوضعت يدها على ميناء عصب، ثم احتلت ثغر مصوع سنة 1885 وهو اليوم في أريتريا، واحتلت سنة 1888 جنوبي الصومال الذي أضحى يعرف بالصومال الإيطالي، وبدأت بعد تفاهمها مع بريطانيا بسط سلطانها في الحبشة.

وواجهت الحملات الإيطالية مقاومة عنيفة من الأحباش بقيادة الإمبراطور يوحنا الرابع، وهزموها موقعة تلو الأخرى، ولما قتل يوحنا سنة 1889 أثناء حملة على المهدية في السودان، أعلن أمير إقليم سهلا ماريام أمير شوا نفسه إمبراطوراً تحت اسم الإمبراطور منليك، وكانت علاقات إيطاليا مع منليك وهو أمير علاقات طيبة، إذ كانت قد منحته آلاف البنادق، وأغرته بخلع يوحنا وتنصيب نفسه، ولكنه لم يفعل ذلك، فلما صار هو الإمبراطور تفاءلت الحكومة الإيطالية بوجوده، ووقعت معه خلال أيام معاهدة صداقة وتجارة في وِشاله بتجري، جاء في النص الإيطالي منها، دون النص الأمهري، منح إيطاليا حكم أريتريا وحق الحماية على الحبشة، ولكن منليك رفض العمل بالنص الإيطالي وألغى الاتفاقية كلها، فقامت إيطاليا بالتضييق عليه متوقعة أن ينضم إليها منافسوه الناقمون، ولكنهم كلهم انضووا تحت راية منليك وانحازوا إلى رغبة الأحباش في الاستقلال.

وحشدت إيطاليا جيشاً من 75.000 جندي، ولكن منليك استعد لهم بالتدريب والسلاح من بريطانيا وفرنسا، ولما بدا أن المعركة قريبة طلب من فرنسا دعمه عارضاً عليها معاهدة تحالف، ولكنها اتفقت مع إيطاليا أن تقايضت تونس بالحبشة، ولم يؤيده من الدول الأوربية غير روسيا القيصرية، ربما لأنه يتبع كنيسة أقرب للكنيسة الأرثوذكسية، فأرسلت بعض عسكريها من المتطوعين، وأعلن ملنيك النفير العام واستطاع في سنة 1313=1896 أن يهزم إيطاليا هزيمة منكرة في معركة عدوة في إقليم تجري، واحتل إقليم أوجادين الذي كان ضمن الأراضي الواقعة تحت النفوذ الإيطالي، ووقع اتفاقية أديس أبابا التي حددت حدود أرتريا واعترفت فيها إيطاليا باستقلال الحبشة.

واستمر منليك الثاني يحكم الحبشة حتى وفاته سنة 1332=1913، وكان أهم إنجاز له على الصعيد الخارجي أن أرغم الدول الأوربية جميعا على احترام استقلال الحبشة، فوقعت في سنة 1324= 1906 بريطانيا وفرنسا وإيطاليا اتفاقاً ينص على وحدة الحبشة واستقلالها، وإن نص أيضا على تفوق المصالح الإيطالية في الحبشة.

وخلف منليك الأكبر حفيده ابن ابنته ليج يسوع بعهد منه، وقد كان أبوه الراس مخائيل مسلماً من امراء أورمو، فتنصر تحقيقاً لأطماعه وتزوج من ابنة منليك، ونشبت الحرب العالمية الأولى في أيامه، وكان ليجي يسوع يرى أن مصلحة الحبشة أثناء الحرب تقضي أن تميل نحو التحالف الألماني التركي، فخشي الحلفاء ولاسيما بريطانيا عاقبة هذا الاتجاه، وأخذت تعمل على إثارة الشعب الحبشي ضده، ووجدت في بطريرك الحبشة خير أداة لحياكة هذه الدسائس حول ليج يسوع؛ واتهم بممالأة المسلمين الذين ينتمي إليهم ثم بالارتداد عن النصرانية، وقاد الحملة ضده الأمير تافري مكنون.

وتم عزل ليج يسوع في سنة 1916 وأُعلنت زوديتو ابنة منليك الكبرى إمبراطورة للحبشة، وعُين تافري مكنون وصياً للعرش وولياً؛ فاستأثر بالسلطة، ولم تمض أعوام قلائل حتى أعلن نفسه إمبراطورا إلى جانب زوديتو، ولما توفيت الإمبراطورة سنة 1930، انفرد بالملك وتلقب باسم هيلا سلاسي، وفي عهده التحقت الحبشة بعصبة الأمم سنة 1923، وزار الإمبراطور إيطاليا سنة 1925 فاستقبل في روما بحفاوة كبيرة، وعقد البَلَدان بعدها معاهدة صداقة، واعتقدت الحبشة أنها في ظل عصبة الأمم، وظل الصداقة الإيطالية الجديدة، قد أمنت مطامع الاستعمار ومشاريعه الغادرة.

وفي سنة 1935 هاجمت إيطاليا موسوليني الفاشية الحبشة، واحتلت إقليم أوجادين، وأعلنت الحبشة والصومال جزءاً من إيطاليا الشرق إفريقية، ولم تحرك فرنسا وبريطانيا ساكناً فقد كانتا تطمعان في أن تنحاز إليهما إيطاليا إن اندلعت الحرب مع ألمانيا، فقاد هيلا سيلاسي المقاومة ضدها، فقصفت طائراتها الأحباش بالغازات السامة، واستطاعت احتلال أديس أبابا، وأعلن موسوليني أن: إيطاليا أخيراً أصبحت إمبراطورية!

وبسبب انضمام إيطاليا لألمانيا في الحرب العالمية الثانية ساعدت بريطانيا هيلا سيلاسي، وأيدته عندما عرض قضية بلاده في عصبة الأمم في جنيف، واستطاعت القوات البريطانية والحبشية استرجاع الحبشة في سنة 1941، ولكن إقليم أوجادين بقي تحت الإدارة البريطانية حتى عام 1948، وبقي هيلا سيلاسي يحكم البلاد حتى الانقلاب العسكري عليه سنة 1974.

أما الصومال فقد أقام البريطانيون في شماله محمية سنة 1884، وعقد السلطان يوسف علي كناديد مع إيطاليا في سنة 1888 اتفاقية حماية على سلطنته في شمالي شرقي الصومال ، فتبعه السلاطين الآخرون، ثم أعلنت إيطاليا حمايتها على منطقة أخرى على ساحله الجنوبي، وسارت فيها على نهج استعماري لربطه بإيطاليا اقتصادياً وثقافياً، وبنت في موقاديشو كاتدرائية كبيرة على نمط كاتدرائية شفالو في صقلية، وأرسلت آلافا من أبنائها للاستقرار في الصومال حتى بلغ عددهم 40% من عدد سكان موقاديشو، واتبعت سياسة تنصير قوية وبخاصة في أرتيريا.

وقاوم الصوماليون الاستعمارين البريطاني والإيطالي، ومن أبرز حركات المقاومة حركة السيد محمد بن عبد الله حسن، المولود سنة 1280=1864، والذي جمع القبائل المختلفة في إطار صوفي تحت راية الإسلام والخلاص من المحتل الكافر، وساعدته ألمانيا والدولة العثمانية، فقاتل المستعمرين قرابة 20 سنة حتى وفاته في سنة 1339=1920، وبعد اندلاع الحرب العالمية الثانية هاجمت إيطالية الفاشية الصومال البريطاني في سنة 1940 واحتلته، واسترجعته بريطانية منها بعد سنة، وبقي الصومال بأكمله تحت الإدارة البريطانية، إلى أن نال استقلاله في أول محرم من سنة 1380=1960 تحت اسم جمهورية الصومال الإسلامية.

أما أجزاء الصومال الأخرى، فهي إقليم عفار وعيسى، وتبلغ مساحته 3% من مساحة الصومال، ويعرف كذلك بالصومال الفرنسي، فاستقل عام 1977 تحت اسم جيبوتي، وبقي إقليم أوجادين في إثيوبيا، وهناك منطقة في غرب كينيا تغلب عليها القبائل الصومالية المسلمة.

تمثال في موقاديشو، عاصمة الصومال، للغازي أحمد جوري                 نُصبٌ جداري في موقاديشو، عاصمة الصومال، للغازي أحمد جوري

أنقاض في زيلع لمباني من عهد الإمام أحمد جوري

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين