رفع إشكال حول تفسير

قالوا: قد أثار ناس تساؤلات وإشكالات حول ما نشرت من تفسير "وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم وطعامكم حل لهم"،

قلت: أو لا تعلمون أني من أبعد الناس عن الجدل العقيم، والمنازعات التي لا يقصد من ورائها إلا التغلب والنيل من عباد الله واغتيابهم، وإني لأمقت الخصام والمماراة مقتا شديدا مشمئزا عن قهر الناس والانتصار عليهم اشمئزازا، وصارفا نفسي عن اللغو وإضاعة الأوقات، وأحمد ربي الذي ألقى في روعي حب كتابه أتدبره تدبرا، وأتبع هداه اتباعا ما استطعت إلى ذلك سبيلا.

قالوا: يلح هؤلاء على أن الطعام في الآية المذكورة معناه الذبيحة،

قلت: دعهم يصروا على الغلط لاجِّين لجًّا، فمن الأنام من يبحث عن الإعجاز العددي في القرآن، ومنهم من ينقب فيه عن الإعجاز العلمي، ومنهم من جعل كتاب الله تعالى متنا فقهيا يتناول الجزئيات والأمور الفرعية وفق المذاهب والآراء البشرية، فهبطوا بكتاب الله تعالى إلى مستواهم الدني، جاعليه كتاب علوم طبيعية وفتاوى وأشياء تجريبية اجتهادية، يدركها البشر بعقولهم، وينتبهون إليها بحواسهم العادية، دون تدبر أو إعمال نظر وفكر، وأنى لهم أن يبذلوا وسعهم في وعي الهدى السماوي متوصلين إلى المعاني الرفيعة التي أودعه الله إياها، وهل تتوقعون من قائسي النظائر على النظائر والمترددين إلى المخابر إدراك سمو الكتاب الإلهي؟

قالوا: لا تشدِّد على السائلين كل هذا التشديد، فلعل فيهم من يرغب في تفهم كلامك مخلصا لله ناصحا لك، ثم إنك تزعم أنك معلِّم، أفلا يجب على المعلِّمين أن يرفقوا بالمستفسرين والسائلين؟

قلت: بلى، وإني شاكر لكم أن استلفتم نظري إلى الرفق وذكّرتموني اللين، ولا شك أن الرفق من الفضائل البشرية التي لا ينالها إلى من أوتي من ربه حظا عظيما.

قالوا: فاذكر لنا ممن أخذت منه قولك هذا في تفسير الآية،

قلت: استفدته من بعض شيوخي، قالوا: لِم لم تعزُه إليه؟ قلت: لأني زدت عليه أشياء، فلم أحب أن أتقول عليه ما لم يقل، قالوا: وهل ذهب إليه غير شيخك؟ قلت: نعم جماعة، قالوا: سمهم لنا، قلت: إذن تطول القائمة، ولكن اعلموا أنهم كلهم عالة في تفسيره على رأس المفسرين في عصرنا الإمام حميد الدين الفراهي رحمه الله تعالى، قالوا: ماذا قال؟ قلت: قال: "وطعامكم حل لهم" لبيان النسخ لما حرم الله عليهم لبغيهم (سورة 6، الآية 146)، لكيلا يزعموا أن حرمة التوراة تبقى عليهم بعد الإسلام" (تعليقات 1/147).

قالوا: وهل سبق الفراهي أحد إلى مثل هذا التفسير؟

قلت: لا بد، فهو التفسير الصحيح، ولم تنقل إلينا التفاسير كلها، ولم يتفق لي البحث عن جميع تفاسير السلف والخلف، قالوا: لو سميت لنا واحدا سبق عصرنا ممن ذهب ذلك المذهب لكان ردا على بعض من اتهمك بالابتداع. قلت: ذهب إليه العلامة المفسر جمال الدين الصفدي (ت 696 هـ) في تفسيره للآية في كتابه (كشف الأسرار وهتك الأستار)، يقول: "فقوله وطعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم: أي كما هو حل لهم، ويريد ما هم الآن يستعملونه لا ما هم الآن يحرمونه مما أحله الله لنا. وقوله وطعامكم حل لهم: يريد به جميع طعامنا إعلاما لنا أنه من حين جاء النبي العربي صلى الله عليه وسلم الذي يحل لهم الطيبات وجب اتباعه فقد عاد طعامنا حلا لهم كله، لكنهم أبوا فحرموا ما أحله لهم، ولهذا قال: وطعامكم حل لهم، ولم يقل: كان حلا لهم، أو حلٌّ عندهم، أي فيما يعتقدون، بل هو الآن حل، فمن حين جاءهم الرسول وأبوا أبقاهم الله على ما حرموه مما أحله لهم عقابا لهم، وهو معنى قوله: فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم ...".

قالوا: فما لك لا تفسر الطعام بالذبائح كما فعل غيرك؟

قلت: لا حاجة إلى ذكر الذبيحة، فهو أمر معلوم، فالله أحل نساء أهل الكتاب، ولا يشك أحد أن ذلك بعد النكاح، ولا حاجة إلى وضع هذا الشرط في الكتاب لأنه معلوم، قالوا: وكيف علم شرط الذبح؟ قلت: قد فصلت ذلك في مقالي السابق إذ حرم الله تعالى الميتة، وهي غير الذبائح.

قالوا: فما لأهل التفسير جمعوا أقوال كثير من السلف حول ذبائح أهل الكتاب في تفسير الآية؟

قلت: من عادة المفسرين أن يجمعوا الأقوال المختلفة لأدنى مناسبة، فكل ما روي عن السلف فيما يتعلق بطعام أهل الكتاب جمعوه تحت الآية، قالوا: أصبت، ولكن قد روي عن مجاهد وغيره أنهم فسروا الطعام بالذبائح، قلت: أرادوا بذلك دفع سوء فهم بعض البسطاء من الناس ممن يظن أنه إذا كان الله قد أحل طعام أهل الكتاب، فما كان من طعامهم من الحيوان مما يأكلونه حلال لنا ذبحوه أم لم يذبحوه، لأن الله تعالى أحله مطلقا، فكشف مجاهد وغيره أن الذبح شرط في طعامهم من الحيوان كما هو شرط في طعام المسلمين، وذلك لعموم قوله تعالى "حرمت عليكم الميتة"، ويجب على أهل العلم دفع مثل هذا السوء في الفهم، وهو ما أخرجه الشيخان عن محمد بن المنكدر، قال: صلى جابر في إزار قد عقده من قبل قفاه وثيابه موضوعة على المشجب، قال له قائل: تصلي في إزار واحد؟، فقال: إنما صنعت ذلك ليراني أحمق مثلك، وأينا كان له ثوبان على عهد النبي صلى الله عليه وسلم؟

قالوا: وهل يجوز أن يكون بعض السلف قد غلط في تفسير الآية؟

قلت: يجوز، فالسلف غير معصومين، ولا عصمة إلا للأنبياء عليهم السلام، ولكن الغلط في السلف أقل بالنسبة إلى من بعدهم، وقد اختلف السلف بعضهم عن بعضهم، كما اختلف من بعدهم عنهم، وأمثلة هذا الاختلاف كثيرة مستفيضة.

قالوا: فما توصينا به؟

قلت: لا تضيعوا أوقاتي بعرض شبهات الذين لا يتدبرون في كتاب الله تعالى، ولا يهمهم إلا التشغيب. قالوا: إنهم يطعنون فيك. قلت: دعهم يطعنوا، فما يزيدني ذلك إلا تقربا إلى ربي إذا تأدبنا بالأدب الذي علَّمه إيانا، وهو أن نقول سلاما وأن نمر باللغو كراما.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين