حدث في الحادي عشر من ذي القعدة

في الحادي عشر من ذي القعدة من عام 1338= 27/7/1920 غادر سورية الملك فيصل بن الحسين بن علي الهاشمي بأمر من الجنرال غورو قائد القوات الفرنسية المحتلة، لتذهب أدراج الرياح وعود الحلفاء للعرب بتأسيس دولة عربية في المشرق إن هم ساعدوهم في القضاء على الحكم التركي في المشرق العربي، وبخروج الملك فيصل بدأ الاحتلال الفرنسي لسوريا الذي سيدوم قرابة 26 سنة إلى جلاء فرنسا عن سورية في 15 جمادى الآخرة من عام 1365= 17 نيسان /أبريل 1946.

وكان فيصل قد نودي به ملكاً على سورية قبل قرابة سنتين، وذلك في إطار اتفاق تم في أوائل سنة 1334=1916 وأبرمته بريطانيا عبر السير هنري مكماهون المعتمد البريطاني في القاهرة مع الشريف الحسين بن علي أمير مكة المكرمة، وقبل الحديث عن الاتفاق لا بد من الحديث عن مقدماته وأسبابه.

اندلعت الحرب العالمية الأولى في منتصف سنة 1332=1914 بين الحلف المركزي الذي تقوده ألمانيا ويضم النمسا وتركيا وبين الحلفاء الذين تقودهم بريطانيا ويشملون روسيا واليابان وإيطاليا، ثم انضمت إليهم الولايات المتحدة الأمريكية في سنة 1917، وكانت تركيا التي تحكمها جمعية الاتحاد والترقي منذ 1909 قد وقَّعت بعد اندلاع الحرب بقليل معاهدة تحالف سرية مع ألمانيا، ثم قامت بعدها بسد المضائق في وجه الأساطيل المعادية لألمانيا وقصفت الموانئ الروسية في البحر الأسود، فأعلنت روسيا الحرب على تركيا، وتلتها بريطانيا، ودخلت تركيا الحرب رسمياً في آخر سنة 1914.

وكان الخطر الأكبر الذي يتهدد روسيا من تركيا هو استطاعتها الاستيلاء على القوقاز ومهاجمة الجيش الروسي من الخلف ثم النفاذ إلى خطوط إمداد جيوشها، وكان الخطر الأكبر الذي يتهدد بريطانيا أن يستطيع الحلف المركزي قطع طريقها البحري إلى مستعمرتها الأكبر: الهند، وكان الأسطول البريطاني هو المهيمن في البحر المتوسط، واحتلت بريطانيا قبل سنوات مصر وقناة السويس ووضعتهما تحت الحماية البريطانية، واستكمالا لحماية الطريق أرسلت بريطانيا من الهند جيشاً احتل البصرة في العراق في المحرم من سنة 1333= نوفمبر 1914، ولكن ذلك لم يكن كافياً فقد بقيت عرضة لهجوم تركي قاده ضباط أتراك وألمان عبر صحراء سيناء للوصول إلى قناة السويس والاستيلاء عليها.

وكان من ضمن المخططات البريطانية السعي لإشغال القوات التركية في حروب جانبية وحرمانها من قواعدها في المنطقة، وبدأت ذلك من خلال استمالة الشعوب الخاضعة للأتراك للقتال معها وإغرائهم بوعود الاستقلال، وعندما تعِدُك أقوى دولة في العالم أنها ستقف إلى جانبك وتساند استقلالك، فمن الصعب على المرء أن يرفض ذلك وبخاصة إذ كان الطامحين الطامعين، كيف لا وقد أساءت حكومة الاتحاد والترقي معاملة الشعوب العربية وانتهجت معها سياسة التتريك والبطش والإرهاب؟!

ذلك إن الاتحاديين بعد انقلابهم على السلطان عبد الحميد وتسلمهم مقاليد الحكم من الدولة العثمانية، كانوا طغاة مستبدين شديدي التأثر بالأنموذج الألماني للدولة والمبني على العرق الجرماني الصافي والمخلص، فقرروا أن حل ما يواجهوه من اضطراب وقلاقل هو في أن يصهروا شعوب الدولة كلها في البوتقة التركية، واتخذوا في أوائل سنة 1332=1914 تدابير متعددة للقضاء على النزعة العربية ولتتريك العرب، وبقيت هذه التدابير سرية محدودة التأثير، ولكن الحال تغير مع دخول الاتحاديين بتركيا في أتون الحرب العالمية، فأعلنت الأحكام العرفية وكشر الإرهاب والظلم عن أنيابه، وأرسل أنور باشا زعيم الاتحاديين المطلق اللواءَ جمال باشا السفاح إلى دمشق في أوائل سنة 1333=1915 وأعطاه الصلاحيات المطلقة لتنفيذ سياساتهم، فأصدر أمره بإلغاء كتيبة للضباط العرب الشباب من خريجي المدارس العليا، كان قد جرى تشكيلها وتدريبها في دمشق لتقاتل في الجيش التركي، وأرسلهم عاجلاً إلى ميادين القتال في شتى الجهات حيث هلك معظمهم، ثم حاكم ثلة كبيرة من شباب العرب النوابغ بتهم لا تثبت على أغلبهم لدى التمحيص والتدقيق، وأرسلهم إلى المشانق، فخلق ذلك هوة كبيرة بين العرب وبين الأتراك، ونَفَرَ من الترك حتى من كان يؤيدهم تديناً واعتقاداً في الخلافة.

وكان خروج الحجاز والأراضي المقدسة من يد الدولة التركية سيشكل ضربة معنوية كبيرة لها، فلم يكن للحجاز أهمية استراتيجية كبيرة في الحرب الدائرة، وإذا استطاعت بريطانيا فتح جبهة ضد الأتراك في بلاد الشام فستشغلهم وتأمن تهديدهم لقناة السويس، وهكذا بعد بضعة أشهر من اندلاع الحرب أرسل المعتمد البريطاني في القاهرة مع تاجر مصري من القاهرة، اسمه علي أفندي أصفر، عدة رسائل إلى أمير مكة الشريف الحسين بن علي بواسطة ولده الأمير عبد الله، وتحدثت الرسائل عن الصداقة العربية البريطانية ممنية الشريف بالاستقلال في دولة عربية تعيد الخلافة لبيت الرسول، وتعده بالعون والتأييد إن هو طرح عنه ربقة النير التركي.

واستشار الشريف حسين إخوانه وأنجاله، وقرروا في أواخر سنة 1333=1915 الوقوف إلى جانب البريطانيين وإعلان الثورة العربية على الأتراك، على أساس ما وعدت به بريطانيا من استقلال العرب وتحريرهم ووحدتهم، وكتب الشريف حسين بذلك لنائب الملك بمصر السير آرثر هنري مكماهون، مبيناً له أنهم سيقومون على الترك وأنهم يحتاجون إلى مزيد من الوقت والاستعداد، فأجابه مكماهون برسالة جاء فيها: ولسنا نريد أن ندفعكم إلى عمل سريع ربما يعرقل نجاح أغراضكم، ولكنَّا في الوقت نفسه نرى من الضروري جدًّا أن تبذلوا كل مجهوداتكم في جمع كلمة الشعوب العربية إلى غايتنا المشتركة، وأن تحثُّوهم على أن لا يمدوا يد المساعدة لأعدائنا بأي وجه كان، فإنه على نجاح هذه المجهودات، وعلى التدابير الفعلية التي يمكن للعرب أن يتخذوها لإسعاف غرضنا عندما يجيء وقت العمل تتوقف قوة الاتفاق بيننا وثباته، وفي هذه الأحوال فإن حكومة بريطانيا العظمى قد فوضت لي أن أبلغ دولتكم أن تكونوا على ثقة من أن بريطانيا العظمى لا تنوي إبرام أي صلح كان إلا إذا كان من ضمن شروطه الأساسية حرية الشعوب العربية وخلاصها من سلطة الألمان والأتراك، هذا، وعربونا على صدق نيتنا، ولأجل مساعدتكم في مجهوداتكم في غايتنا المشتركة فإني مرسل مع رسولكم الأمين مبلغ عشرين ألف جنيه.

وبث الشريف حسين أولاده لترتيب الثورة، فاتجه ابنه الأكبر الأمير علي إلى المدينة ليتفق مع شيوخ القبائل وينظم أمرهم، وتولى ابنه الثاني الأمير عبد الله تنظيم قبائل الطائف والقبائل المجاورة لمكة، واشترك كذلك مع والده في المكاتبات والمفاوضات التي تدور مع البريطانيين، وسار ابنه الثالث الأمير فيصل إلى الشام ليتصل بقبائلها ويرى استعدادهم للانضمام للشريف في ثورته المزمعة.

ولم تقتصر المساعي البريطانية على شريف مكة بل شملت كذلك أقطاب حزب اللامركزية العربي في القاهرة، وهو حزب كان يدعو لأن يكون للولايات العربية من الدولة العثمانية حكم ذاتي، فقد تباحث المعتمد البريطاني معهم وسألهم ماذا يكون موقفهم لو انتصر الحلفاء وانهارت الدولة التركية؟ وهل يرغبون في استقلال البلاد العربية؟ وما المساعدة التي يستطيعون تقديمها في هذا الصدد؟ وبالطبع كان جوابهم بالإيجاب واستعدادهم لتأييد كل ما من شأنه استقلال العرب.

وفي أوائل سنة 1334= كانون الثاني/يناير 1916، تمخضت المراسلات والمباحثات بين الشريف حسين باسم العرب وبين السير هنري مكماهون المعتمد البريطاني بمصر باسم بريطانيا العظمى، عن إعلان الثورة ضد الأتراك، وذلك وفقاً للفقرات الخمس التالية:

أولاً: تتعهد بريطانيا العظمى بتشكيل حكومة عربية مستقلة بكل معاني الاستقلال في داخليتها وخارجيتها، حدودها شرقاً: خليج فارس، وغرباً: البحر الأحمر والحدود المصرية والبحر الأبيض، وشمالاً حدود ولاية حلب والموصل الشمالية إلى نهر الفرات ومجتمعه مع دجلة إلى مصبهما في خليج فارس، ما عدا مستعمرة عدن فإنها خارجة عن هذه الحدود. وتتعهد هذه الحكومة برعاية المعاهدات والمقاولات التي أجرتها بريطانيا العظمى مع أي شخص كان من العرب في داخل هذه الحدود، وذلك بأن تحل محلها في رعاية وصيانة حقوق تلك الاتفاقيات مع أربابها أمراء كانوا أو من الأفراد.

ثانياً: تتعهد بريطانيا العظمى بالمحافظة على هذه الحكومة وصيانتها من أي تدخل كان وبأي صورة كانت في داخليتها، وبسلامة حدودها البرية والبحرية من كل تَعَدٍّ كان أياً كان الشكل، حتى ولو وقعت فتنة داخلية من دسائس الأعداد أو من حسد بعض الأمراء، تساعدُ الحكومةَ المذكورة مادة ومعنى على دفع تلك الفتنة، وهذه المساعدة في الفتن والثورات الداخلية تكون مدتها محدودة أي إلى حين تتم للحكومة العربية تنظيماتها المادية.

ثالثاً: تكون ولاية البصرة تحت حكم بريطانيا العظمى إلى أن تتم للحكومة الجديدة المذكورة تنظيماتها المادية، ويعين من جانب بريطانيا العظمى في مقابل ذلك مبلغ من المال تراعى فيه حالة الحكومة العربية.

رابعاً: تتعهد بريطانيا العظمى بإمداد كل ما تحتاج إليه الحكومة العربية من الأسلحة والذخائر والمال مدة الحرب.

خامساً: تتعهد بريطانيا العظمى بقطع الخط من مرسين أو من نقطة مناسبة في تلك المنطقة لتخفيف وطأة الحرب عن بلاد ليست مستعدة لها.

وينبغي أن نشير أن الحدود المشار إليها تتضمن بعض الاستثناءات التي أوردها مكماهون في خطاب سابق قبل شهرين، كما تتضمن تحفظاً على الإضرار بمصالح فرنسا حليفة بريطانيا، ووافق عليها الشريف حسين، وهي: لما كانت مقاطعة مرسين والإسكندرونة وبعض أجزاء سورية الواقعة إلى الغرب من مقاطعات دمشق وحمص وحماه وحلب لا يمكن تسميتها عربية محضة، فإنه يقتضي إخراجها من الحدود التي بينتموها، وإنه بمقتضى هذا التعديل، ومن غير إخلال بمعاهداتنا السابقة مع بعض زعماء العرب نقبل الحدود على ما ذكرتموه.

ولم يكن ذلك كله إلا فصلاً في مسرحيات ثلاث كانت تمثل في نفس الوقت، وكان الممثل الأول في المسرحية الأولى السير مكماهون في المشرق العربي، يساعده الكولونيل لورانس، يخدع الشريف حسين بوعود معسولة عن قيام الدولة العربية الواحدة بزعامة الشريف حسين، أما المسرحية الثانية فكان بطلاها جورج بيكو الفرنسي، وسير مارك سايكس البريطاني وبموافقة روسيا القيصرية، وتمخضت في 6 رجب عام 1334=9/5/1916 عن اتفاقية سايكس بيكو السرية لتقاسم أراضي الدولة العثمانية التي أوشكت هزيمتها، والتي تمنح روسيا المقاطعات الأرمنية كأرضروم وطرابزون ووان، وتعطي فرنسا لبنان والساحل السوري وأضنة وكيليكيا والمناطق الداخلية المتاخمة للمنطقة الروسية مثل عنتاب وأورفا وماردين ودياربكر والموصل، أما بريطانيا فستأخذ بلاد الرافدين وبغداد وكذلك مينائي حيفا وعكا على البحر المتوسط، أما ميناء الإسكندرونة فسيكون بمثابة منطقة حرة، وختاماً ستكون فلسطين تحت إدارة دولية نظراً لوجود الأماكن المقدسة فيها.

أما ممثلو المسرحية الثالثة فكانا رئيس الوزراء البريطاني لويد جورج في بريطانيا ووزير خارجيته آرثر بلفور يعملان على استمالة اليهود بمنحهم فلسطين وذلك في وعد بلفور الذي صدر في 17 من المحرم عام 1336=2/11/1917؛ والذي قال: إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي، وسنبذل جهدنا لتسهيل تحقيق هذه الغاية، وعلى أن يُفهم جليا أنه لن يؤتى بعمل من شأنه أن يضير الحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الطوائف غير اليهودية المقيمة الآن في فلسطين ولا الحقوق أو الوضع السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى.

وبعد مضي 5 أشهر على الاتفاق السابق بين الشريف حسين وبين مكماهون، وبعد أن أصبح لدى الشريف حسين من الذخائر والرجال ما يكفي، أعلن قيام الثورة العربية الكبرى في 3 من شعبان من عام 1334= 5 حزيران/يونيو 1916، ورغم الدعم البريطاني والتفوق العددي لقوات الشريف حسين، لم تستسلم الحامية التركية المتمركزة في قلعة أجياد في مكة إلا بعد شهر من المقاومة، وقاومت حامية الطائف 4 أشهر، أما الحامية التركية في المدينة المنورة فاستطاعت الصمود لأن فخري باشا قائد حاميتها التركي كان قد حصنَّها وشحنها بالأقوات، فلم تستطع قوات الشريف الاستيلاء عليها، وأجْلت الحكومة العثمانية أكثر أهل المدينة إلى الشام وآسيا الصغرى، وعددهم لا يقل عن أربعين ألفا، ولم تترك سوى بضعة آلاف آثروا البقاء فيها بجانب حاميتها التركية، وكان جنود الأمير علي من البدو يناوشون الحاميات التركية على السكة الحجازية، ويخربون بعض خطوطها، ويعود الجيش العثماني فيصلح ما خربوه، ويستخدمه في الضروريات لتموين الحامية المحاصرة في المدينة المنورة.

وفي غرة المحرم من عام 1335 جرت في مكة المكرمة حفلة بويع فيها الشريف حسين بالملك، ومما ورد في البيعة: وإننا نبايع سيدنا ومولانا الحسين بن علي ملكاً لنا نحن العرب، يعمل بيننا بكتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونقسم له على ذلك يمين الطاعة والإخلاص في السر والعلانية، كما أننا نعتبره مرجعًا دينياً لنا أجمعنا عليه ريثما يقر قرار العالم الإسلامي على رأي يجمعون عليه في شأن الخلافة الإسلامية. نبايعك على هذا يا صاحب الجلالة ونقسم لك بالله العظيم على طاعتك والرضا بك والانقياد إليك في السر والعلانية، ولك علينا في ذلك عهد الله وميثاقه ما أقمت الدين، واجتهدت فيما فيه صلاح العرب والمسلمين ﴿فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً﴾.

وفي الشهر التالي اعترفت بريطانيا وفرنسا بالشريف حسين ملكاً على الحجاز، وجاء أسطولاهما إلى جدة يحملان إليه تهاني تلك الدول، وألقى أمير الأسطول الفرنسي كلمة دعاه بأعظم أمراء العرب.

واتجه الأمير فيصل شمالا على ساحل البحر الأحمر على رأس سرايا من بدو الحجاز، وأرسل البريطانيون إليه أسرى الجيش التركي من العرب ممن أسروهم عند قناة السويس وشبه جزيرة سيناء والعراق، واستولى على بلدتي ينبع البحر والوجه، وبعدها شكل ما سمي بالجيش الشمالي وانضم إليه الشيخ عودة بن حرب الملقب بأبي تايه من مشايخ الحويطات من طيء، المولود سنة 1275= 1858 والمتوفى سنة 1342= 1924، وكان من شجعان البدو المعدودين، وله اليد الطولى في احتلال كثير من المواقع في جنوب بلاد الشام.

وفي رمضان 1335= 7/1917 سقط ميناء العقبة بمعونة جوهرية من مدافع الأسطول البريطاني من البحر، بعد دفاع باسل أبدته حاميته التركية، وبسقوط العقبة تأمنت مؤخرة البريطانيين في سيناء، فقد كان الأتراك يغيرون عليهم من معان إلى بادية سيناء.

وبعد سقوط العقبة استطاع البريطانيون أن يستولوا على غزة ثم رفح وبئر السبع، ثم تابعت قوات الأمير فيصل مناوشاتها مع الأتراك على شكل حرب عصابات، وكمنت لهم في الطفيلة وأوقعت بهم خسارة جسيمة، ثم انضمت إلى قوات الأمير فيصل سرية مدفعية فرنسية كما كانت الطائرات البريطانية تساعدها فتقوم بطلعات استكشافية تبين لها مواقع العدو التركي وتدلها على أفضل سبل التحرك، ولكن نشاط قوات البدو الأكبر كان في الهجوم على محطات وجسور الخط الحديدي الحجازي وتدميرها، لإعاقة الإمداد والتموين للقوات التركية.

ودارت المعارك في شرق الأردن بضعة شهور سجالاً بين البريطانيين والعرب من جهة وبين الأتراك ، وتداول الطرفان الاستيلاء على الصلت ومعان وعمان، وكان في صفوف الأتراك من البدو من خانهم وأبلغ الأمير فيصل بتحركاتهم فأمكنه تجنب عدد من المعارك التي كانت ستعود عليه بالهزيمة الساحقة، فتابع حملته وقد انضم إليه الأمير نوري بن هزاع الشعلان، أمير قبائل الرولة من عنزة، المولود سنة 1263=1847 والمتوفى بدمشق سنة 1361= 1942، أما قبائل بني صخر، وهي أكبر وأمنع عشائر شرقي الأردن، فكانت موالية للأتراك تعضدهم وتذود عنهم.

وفي تلك الأثناء كان الجيش البريطاني بقيادة الجنرال اللنبي يتابع هجومه من الجنوب على فلسطين، فاستولى على القدس في 25 صفر سنة 1336=10/12/1917، ثم دامت المعارك سجالاً إلى أواخر سنة 1918 حيت سقطت نابلس ثم شمال فلسطين، وأسر البريطانيون أعداداً كبيرة من الجنود الأتراك الذين سد في وجهم طريق الانسحاب، وتوالى سقوط مدن شرقي الأردن واحدة تلو الأخرى لأن الأتراك قرروا الانسحاب منها، فعجل الأمير فيصل بالسير شمالاً حتى يدخل إلى أكبر عدد ممكن من المدن، لأن الاتفاق بينه وبين البريطانيين كان يعطي حق إدارة المدينة لمن سبق إلى احتلالها من العرب أو البريطانيين إلى أن يُبتَّ في مصيرها، وحافظ الجيش البريطاني على هذا الترتيب فكان إذا سبق فاستولى على مدينة يريد إعطاءها للعرب يتوقف ريثما يدخل العرب فينسب الفتح إليهم.

واستطاع الجيش العربي بمعاونة الطائرات البريطانية أن يوقع خسائر جسيمة بالأتراك في درعا ويحتلها، وصار على أبواب دمشق التي دخلها مع البريطانيين في 4 ذي الحجة عام 1335=1/10/1918، ولما بدأ الجيش التركي في الانسحاب من دمشق قام الأمير محمد سعيد بن علي بن عبد القادر الجزائري، المولود بدمشق سنة 1168=1881 والمتوفى بالجزائر سنة 1390=1970، بموقف يدل على المروءة والنباهة، يذكره الأستاذ الزركلي في الأعلام ومحمد كرد علي في خطط الشام، وكلاهما مما شاهد هذه الأحداث.

فقد عقد الأتراك مجلسا حربيا حضره قواد الجيش من الترك والألمان والنمساويين والمجريين، فرأى القسم الأعظم من المؤتمرين نسف جميع المواقع الحكومية في دمشق، إلا أن القائد النمساوي أقنع رفاقه بأن هذا عمل غير معقول، لأن الدمشقيين حاربوا مع الدولة العثمانية وقاموا بكل ما يجب عليهم بإخلاص، فليس من العدل وقد خسر الترك الحرب أن يعاملوا دمشق هذه المعاملة القاسية، وكان رأي القائد التركي جمال باشا الصغير، وهو غير السفاح، من رأي القائد النمساوي سرا فعاضده، وانتهى الأمر بأن قرروا الانسحاب من دمشق.

وقام الأمير سعيد الجزائري وأبناء عمه بتنسيق الانسحاب مع جمال باشا الصغير، وأخذوا منه قبل انسحابه 500 بندقية سلحوا بها بعض الدمشقيين والمغاربة، وخرجوا إلى أذرع ومنعوا الدروز والبدو من الانقضاض على الجيش التركي أثناء انسحابه، وفي 30 أيلول أشار جمال باشا الصغير إلى الأمير الجزائري وصحبه أن يعلنوا الاستقلال، فرفعوا العلم العربي على دار الحكومة، فهنأهم جمال باشا الصغير وغادر دمشق ليكون آخر قائد تركي فيها بعد 414 سنة من الحكم التركي. 

وألف الأمير الجزائري حكومة مؤقتة استدعت بعد يومين الأمير فيصل فدخل دمشق في 25 ذي الحجة سنة 1336=1/10/1918، ونزل في دار آل البارودي في القنوات، وشرع بتأسيس حكومة استبعدت الجزائري وصحبه، وجاءت باللواء علي رضا باشا الركابي ليكون الحاكم العسكري على سورية.

وهنا نتوقف للحديث عن أمر قد يفيدنا في معرفة أسباب الغِلِّ الذي يحمله كثير من الأتراك على العرب بسبب هذه الحرب، فعلي رضا باشا الركابي المولود بدمشق سنة 1282=1832 والمتوفى بها سنة 1361= 1942، كان من قواد الجيش التركي، وكان مسؤولاً عن التحصينات حوالي دمشق، ولكنه اتصل بالبريطانيين وأرسل إليهم مخططاتها، وبعثه القائد التركي قبيل سقوط دمشق ببضعة أيام ليجمع شمل المنهزمين من الجيش التركي في القنيطرة، وأعطاه مبلغا من المال، فادعى أن العربان سلبوه ماله وثيابه، وانضم إلى الجيش البريطاني، وهكذا ذهب من دمشق قائدا تركيا وعاد إليها بعد أيام حاكما عربيا بريطانيا.

وفي المقابل ينبغي أن نذكر أن بطش الاتحاديين وظلمهم وتنكيلهم بالعرب لم يترك لهم فيهم صديقاً، وقد أشار لذلك في تقرير له إلى القيادة الألمانية الجنرال ليمان فون ساندرس القائد الألماني المحنك الذي قاد القوات الألمانية والتركية في المشرق بعد أن حقق انتصار جاليبولي الشهير، وألقى التبعة على جمال باشا السفاح وسلوكه، فقال: إن كل ما في سورية من إنسان وجماد وحيوان قد تسمم من سوء إدارة جمال باشا، وإن الصمود فيها أضحى من المستحيلات.

لقد حكم الاتحاديون السلطنة العثمانية من سنة 1326=1908 إلى سنة 1336= 1918، ولم يكن لهم فيه منازع، بل ضربوا بالشورى عرض الحائط، وتصرفوا بما تهوى أنفسهم المريضة، فقضوا على تلك السلطنة العظيمة بسياسة تتريك العناصر التي بالغوا فيها إلى حد الجنون، ولم يراعوا للعرب أدنى الحقوق وهم نصف سكان المملكة، وفي أرضهم البقاع المقدسة التي تشرَّف سلاطين بني عثمان بخدمتها ودانت لهم بذلك الشعوب المسلمة، لقد قامرت عصبة من الضباط المستبدين؛ أنور وطلعت وجمال، بالسلطنة العثمانية فخسروا كل شيء وعادوا بالفشل والاندحار على أنفسهم وأمتهم.

وبعد سقوط دمشق انسحب الألمان من بيروت إلى الشمال دون قتال يذكر، ولكنهم نسفوا مستودعات المؤن والعتاد، وألقوا في البحر الأسلحة والذخائر، فأرسلت الحكومة العربية في دمشق اللواء شكري باشا الأيوبي تحف به شرذمة من الفرسان، فاحتل دار الحكومة ورفع الراية العربية عليها، وبعد أربعة أيام وصل القائد البريطاني وأمره بالعودة إلى دمشق، وأنزلت الراية العربية وعين الكولونيل بياباب الفرنسي حاكما على بيروت، وأنزل الفرنسيون من سفنهم جندا إلى البر بين تصفيق الأهالي ولا سيما كثير من أبناء الطوائف المسيحية.

وأصدر القائد البريطاني الجنرال اللنبي أمره إلى الأمير فيصل بأن يحتل حمص وحماة وحلب، تتقدمه القوات البريطانية والأسترالية، وهكذا دخل الجيش العربي حلب يوم 25/10/1918 بعد مقاومة خفيفة من القوات التركية بغرض إيقاف تقدم الجيش المهاجم ريثما لها يتسنى الانسحاب النظامي من حلب ونقل الموظفين وعيالهم والنقود والأوراق والسجلات، وفي 31/10/1918 أعلنت بريطانيا قبولها الهدنة التي ما فتئ الأتراك يطلبونها منذ هزيمتهم في فلسطين، وكان من شروط الهدنة انسحاب القوات التركية من الحجاز وعسير واليمن والشام وما بين النهرين، ولم تلتزم فرنسا بالهدنة إلا بعد شهر حتى تتمكن قواتها من احتلال ميناء الإسكندرونة في 18/11/1918، أما الفريق فخري باشا قائد الحامية التركية في في المدينة المنورة فلم ينسحب منها هو وخمسة عشر ألف جندي إلا عندما جاءه الأمر من حكومته في استانبول في كانون الأول/ديسمبر من عام 1918، بعد سنتين ونصف من الحصار.

وبينا كان الأمير فيصل في حلب جاءته برقية من وزارة الخارجية البريطانية تطلب حضوره إلى مؤتمر الصلح الذي ستعقده الدول المنتصرة في باريس في أول سنة 1919، لمناقشة الأوضاع التي نجمت عن الحرب العالمية الأولى، وقدم الأمير للمؤتمر مذكرة قال فيها: إننا نعتقد أن سورية بلد صناعي زراعي يقطنه عدد وافر من السكان، وهي متقدمة تقدما كافيا من الوجهة السياسية يمكنها معه أن تقوم بأعباء أمورها الداخلية، ونرى أيضا أن الاستشارة والمعاونة الأجنبية ستكون عاملا ثمينا جدا لنمونا القومي، ونحن مستعدون لصرف ما يلزم من النقود مقابل هذه المعاونة، ولا يسعنا أن نتنازل مقابلها عن جزء من الحرية التي انتزعناها بأنفسنا وبقوة سلاحنا. ولم تـُجْدِ مرافعة الأمير فيصل هذه شيئاً، فقد قرر مؤتمر الصلح والسلم أن يتم انتداب فرنسا على سورية لتأخذ بيدها نحو التطور والاستقلال.

ودعت الحكومة العربية بدمشق إلى مؤتمر عام ضم أبناء بلاد الشام ومنها فلسطين، لوضع القانون الأساسي وتعيين شكل الحكومة، وانعقد المؤتمر وقرر في 16 جمادى الآخرة 1338= 7/3/1919 إعلان الأمير فيصل ملكاً دستورياً على سورية باسم فيصل الأول، ولكن بعد ذلك بعشرة أيام أبلغت فرنسا وبريطانيا الملك فيصل أنهما لا تعترفان بصحة قرار المؤتمر السوري الذي بايعه ملكا، وكان ذلك لتعارض قرارات المؤتمر مع اتفاقية سايكس بيكو.

ولم تكن اتفاقية سايكس بيكو في عالم الأسرار آنذاك، فقد كشفها النظام الشيوعي بعد ثورته على الحكومة القيصرية في روسيا في أواخر سنة 1917، وقام الاتحاديون بنشرها في البلاد برهاناً على خداع الحلفاء للعرب وللشريف حسين بالذات، ولكن الجانب العربي رضي بتطمينات مبهمة عامة من البريطانيين، واستمر في تعاونه معهم فقد صار بقاؤه رهينا بمساعداتهم مما جعل في وضع لا يحسد عليه.

على إثر ذلك سافر الملك فيصل إلى بريطانيا وفرنسا لبحث الموقف مع ساستها، وأحالته بريطانيا على فرنسا الدولة المنتدبة على سوريا، فتباحث في باريس مع رئيس الوزارة الفرنسية المسيو كليمانصو، وانجلت المباحثات بين الضعيف والقوي بأن اعترفت فرنسا للشعب السوري على اختلاف مذاهبه بحقه المحتوم في الاستقلال والحكم الوطني، وتعهد الملك فيصل بالولاء لفرنسا والقبول بانتدابها على سوريا لأن النظام الاجتماعي في سوريا يعاني من الاختلال بسبب الاضطهاد التركي وخسائر الحرب، ولايستطيع السوريون في الوقت الحاضر أن يحققوا وحدتهم ويديروا حكومتهم دون توجيه ومساعدة من أمة متقدمة، وطلب الملك فيصل باسم الشعب السوري هذه المهمة من فرنسا، ووقع الطرفان لائحة طويلة تضمنت تفاصيل تنفيذ الانتداب الفرنسي.

وعاد الملك فيصل إلى سوريا، فاستقبلته السلطتان الفرنسية والبريطانية استقبالا رائعا، وخطب في بيروت خطبة رضي عنها الفرنسيون، ولما جاء دمشق خطب خطبة تخالفها إجمالا وترضي المنادين بالاستقلال التام الناجز، وبدأ التقلقل في سياسته والتناقض في أقواله، لأنه كان بين عاملين العامل الفرنسي والعامل الإنكليزي وهذا أشد وأقوى وإن لم يكن ظاهرا للعيان، ومن أشد العوامل في هذا حالة والده ملك الحجاز، ولأن إنكلترا إذا غضبت تنقطع عنه المعاونة المالية الشهرية، وبدونها يستحيل القيام بشيء من أعمال المقاومة والدعاية.

وفي أيلول/سبتمبر 1919 بدأت بريطانيا وفرنسا في تنفيذ اتفاق سايكس بيكو فانسحب الجيش البريطاني إلى شرقي الأردن وفلسطين مخلياً مدن سورية الأربع؛ دمشق وحلب وحمص وحماة، بعد تعهد فرنسا ألا تحتلها لأن بريطانيا قطعت للعرب عهدا أن تؤلف لهم حكومة عربية، وعينت بريطانيا على فلسطين مفوضا ساميا هو اليهودي الإنكليزي السير هربرت صموئيل، وعينت فرنسا الجنرال غورو مفوضا ساميا على سورية ولبنان، وكان الفرنسيون من قبل يعملون حتى في لبنان بقيادة اللورد اللنبي القائد البريطاني العام.

وقامت فرنسا باحتلال أقضية بعلبك ورياق وحاصبيا وراشيا في لبنان، وطردت منها قوات الحكومة العربية الفيصلية، وطلب الجنرال غورو من الملك فيصل أن يعطيه البقاع لينقل على الخط الحديدي ما يحتاج إليه الجيش الفرنسي في جهات عنتاب فأبى ذلك، وبدأت فرنسا في نشر قواتها في الساحل السوري من جنوبي لبنان حتى أضنة في الشمال، فقامت على الفور بمهاجمة هذه القوات مجموعات سورية وطنية تمدها الحكومة التركية بالسلاح والعتاد، ومنها قوات الشيخ صالح العلي الزعيم النصيري، فهاجم الجيش الفرنسي جبال العلويين للقضاء عليه، ولما واجهوا مقاومة شديدة، تراجع الفرنسيون إلى بانياس وطرطوس، وتوقف الدعم التركي بعد اتفاق فرنسا مع تركيا وتخليها عن اتفاق سايكس بيكو إزاءها.

وبدا أن المواجهة مع الفرنسيين مسألة وقت لا أكثر، فقد كان الجنرال غورو يرسل الاحتجاج تلو الاحتجاج ويتهم حكومة الملك فيصل بتشجيع مقاومة المحتل، وحجته في ذلك أن هذه المقاومة لم تظهر في زمن الوجود البريطاني، وهو أعلم الناس ببطلان مزاعمه، وبدأت الحكومة العربية في دمشق بفرض التجنيد الإجباري وزادت الضرائب لتزيد من الأموال المتوفرة لديها لتمويل المعارك، ولكن الصورة في الواقع كانت كئبية جداً، فكيف يقاوم جيش جديد جيش حكومة كبرى وهو قليل العدد والعدة، وكان تقييم العسكريين العرب للوضع لا لبس فيه أو مواربة، فقد قالوا إن ما لديهم من الذخائر والعتاد يكفي لمدة بين ساعتين إلى يومين في حالة نشوب المعارك بينهم وبين الجيش الفرنسي الزاحف، وأنهم بالقوات الحالية يستطيعون الصمود 6 ساعات إذا اشتد لظى الحرب، ولم يوفقوا لدحر العدو وهزيمته.

ولكن كان هناك من يحمس العامة بالخيالات والأوهام، ويذكر الأستاذ محمد كرد علي حضوره لمجلس قال فيهم أحدهم: إن فرنسا عجزت بعد الحرب العامة أن ترسل إلى الشام بضعة أنفار من جيشها، وليس لديها مال، وما تهددنا به من قوتها لا تستطيع إنفاذه، فالأولى أن نتكل على الله ونبدهها بالحرب. فأجابه كرد علي: لست من أمراء الجيش حتى أعرف ما عنده من القوى المادية، ولكنني أعرف فرنسا وقوتها، ولا أكون مبالغاً كثيرا إذا قلت إن فرنسا تستطيع أن تكتسح الشام من جنوبه إلى شماله إذا أرسلت علينا عوران حربها الأخيرة فقط، فيجب علينا يا سادتي أن لا نغش أنفسنا ونتذرع بالمحال.

وفي 14 تموز/يوليو 1920 أصدر الجنرال غورو إنذاراً إلى الملك فيصل مفاده أن يعطي لفرنسا الخط الحديدي من رياق إلى حلب، وأن تلغي الحكومة العربية التجنيد الإجباري، وتقبل بالوجود الفرنسي والعملة الفرنسية السورية، وأن تضرب على أيدي الأشقياء الذين يقامون الاحتلال الفرنسي.

وما لبث الجيش الفرنسي أن زحف على دمشق من لبنان وكان مؤلفا من عشر كتائب مشاة وست كتائب فرسان وسبع بطاريات مدفعية، وكان جنوده من فرنسا والسنغال ومراكش والجزائر، أما الجيش العربي فعدده بضعة ألوف لكنها مشتتة في حلب وحمص ودمشق، وتردد الملك فيصل ووزارته بين الرضى والإباء، ثم اتفق أكثرهم على التسليم، فأبرقوا إلى الجنرال غورو، وأوعز فيصل بحل الجيش، ولكن بينما كان الجيش العربي المرابط على الحدود يتراجع منفضا، كان الجيش الفرنسي يتقدم بأمر الجنرال غورو، ولما سئل هذا عن الأمر، أجاب بأن برقية فيصل بالموافقة على بنود الإنذار وصلت إليه بعد انتهاء مدة 24 ساعة المضروبة في إنذاره.

ووقعت المواجهة في ميسلون، وكان عدد الجيش العربي 600 جندي يصحبهم من الأهالي والعربان ما يقرب من 4000 شخص، ودام القتال أربع ساعات، ولم تكن القوات الوطنية لتستطيع الصمود أكثر من ذلك أمام قنابل الطائرات والمدفعية، واستشهد في القتال يوسف بك العظمة وزير الحربية، عن 37 سنة، وطائفة من الجنود والأهالي يقدر عددهم ما بين 1200 إلى 1500 شهيد.

ودخل الجيش الفرنسي من الغد إلى دمشق، وأبلغ رئيسُه الملكَ فيصل أن يغادر دمشق، فأذعن وعيَّن قبل رحيله علاء الدين الدروبي رئيس وزارة على أن يختار بنفسه من يشاء من الوزراء دليل الثقة به، فلم يلبث أن ألف وزارته ومن الغد ألقى خطابا في دار الحكومة نافق فيه للفرنسيين وهاجم الملك فيصل.

وبعد معركة ميسلون فصلت فرنسا الأقضية الأربع: البقاع وبعلبك وحاصبيا وراشيا وضمتها إلى لبنان، وأقامت في كل من دمشق وحمص وحماة وحوران دولة ذات وزارة، وأرادت حكومة الاحتلال جمع السلاح من البادية والحاضرة، فوضعت على المدن الأربع غرامة حربية قدرها مئتا ألف ليرة عثمانية ذهبا، ولكن أهل حوران لم يخضعوا للأمر وتمردوا على الحكومة، فرأى رئيس الوزارة علاء الدين الدروبي أن يذهب بنفسه إلبهم مستصحبا معه وزيرين من وزارته أحدهما عبد الرحمن اليوسف الزركلي رئيس مجلس الشورى وأكبر أعيان دمشق، فهاجمهم بعض الحوارنة في محطة خربة غزالة وأنزلوهم من القطار وقتلوا الدروبي واليوسف لأنهم من الخونة الذين سلموا سورية للأجانب.

وفي أول أيلول 1920 أعلن استقلال لبنان بحدوده الجديدة بمباركة الجنرال غورو، وتحت اسم دولة لبنان الكبير، وجعل للدولة حاكم فرنسي، لأن طوائف لبنان لم تتفق على حاكم بعينه، وأدار لبنان موظفون وطنيون لكل مدير منهم مستشار فرنسي، وتمت للموارنة في لبنان أمنيتهم التي طالما نشدوها من حكم فرنسا لهم، وكان بطريركهم قد حضر مؤتمر الصلح ليطالب باستقلال لبنان، فلما ذكره بعض المؤتمرين أن لبنان لا تتوفر فيه بحدوده الحالية مقومات الدولة الاقتصادية، قال: إننا نفضل الموت جوعا في جبالنا على أن نكون تابعين لدمشق!

وما لبثت فرنسا أن قسمت سورية أكثر، فأقامت إلى جانب دولة لبنان الكبير دولة العلويين ودولة حلب ودولة دمشق ودولة جبل الدروز، ثم عادت فجمعتها في دولة واحدة بعد سنوات قليلة إزاء الرفض الشعبي العارم.

أما الملك فيصل فغادر سوريا كما ذكرنا ورحل إلى أوربا، فأقام في إيطاليا مدة ثم غادرها إلى إنجلترا، وكانت الثورة على الإنجليز لا تزال مشتعلة في العراق، فدعته الحكومة البريطانية لحضور مؤتمر عقدته في القاهرة سنة 1921 برئاسة ونستون تشرشل، وتقرر ترشيحه لعرش العراق، فانتقل إلى بغداد، فنودي به ملكا للعراق سنة 1339=1921.

وكانت للملك فيصل في العراق إنجازات لا بأس بها، فقد انصرف إلى الإصلاح الداخلي، بوضع دستور للبلاد، وإنشاء مجلس للأمة، وأقام العلاقات بين العراق وبريطانيا على أسس معاهدات متعددة، وأصلح ما بين العراق وجيرانه: البلاد العربية السعودية، وتركيا، وإيران، وتوفي الملك فيصل في سويسرا بالسكتة القلبية في سنة 1352=1933، وخلفه ابنه غازي.

صفحة مؤلمة من التاريخ العربي الحديث رأينا فيها كيف تقلصت المطالب العربية من الاستقلال التام والوحدة لبلاد الشام والعراق والحجاز، فصارت تطالب ببلاد الشام بحدودها الطبيعية التاريخية، ثم سُكِتَ عن فلسطين لأن البريطانيين لن يتركوها، ثم اكتُفي بالدعوة لاستقلال سورية، ثم تُخلي عن لبنان واكتفي بالدعوة إلى استقلال المدن الأربع.

نفي البريطانيون الملك الحسين بن علي في سنة 1925 إلى قبرص، فأمضى فيها 6 سنين، ثم مرض فأذن البريطانيون بسفره إلى عمان، فعاد إليها بضعة شهور حتى وفاته سنة 1350=1931، قال أحمد شوقي يرثي الملك الحسين بن علي:

قـُم تحــدَّث أبــا عَـلِـيٍّ إِليـنـا ... كيف غامَرتَ في جوارِ الأَراقِم

لَم تُبالِ النُيوبَ في الهامِ خُشـنا ... وَتَعَلَّقَت بِالحَواشــي النَـواعِم

كُلُّـنــا وارِدُ الســَرابِ وَكُلّ ... حَمَلٌ في وليمة الذئبِ طـاعِـم

قد رَجَونا مِنَ المغانِمِ حظّاً ... وَوَرَدنا الوَغى فَكـُنّا الغَنــائـِم

حَبَّذا مَوقِفٌ غُـلِبـتَ عليه... لم يَقِفهُ لِلعُـــربِ قَبلــَكَ خـادِم

ذائِداً عَن مَمالِكٍ وَشُـعوبٍ ... نقِلَت في الأكُفِّ نَقلَ الدَراهِم

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين