مهد لقبرك

يقول مولانا جل في علاه في الآية الرابعة والأربعين من سورة الروم : مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ ۖ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ.

دعونا - أيها القراء الأعزاء - ننعم بما تلقيه إلينا الفقرة الثانية من هذه الآية الكريمة (وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ ) من معان عميقة، ودروس دقيقة، وإيقاظات وتنبيهات رقيقة . 

أيها السادة الأماثل: 

يهرع الواحد منا إن هو أراد فرشَ بيته وتأثيث منزله إلى محلات الأثاث؛ ليختار منها ما يناسب المنزل وقياساته، وما يتواءم مع طبيعة حياته، وما يتفق مع ذوقه وميولاته ... ولربما دفع المبالغ الطائلة وصرف بسخاء ...لِمَ؟ ليرتاح في عيشه، وتطيب حياته، وينعم في سكناه ... فسكناه ليس ليوم فيه أو يومين، ولا شهر أو شهرين، بل ربما يمتد إلى السنوات ذوات العدد... فحريٌّ به أن يحسن الاختيار ويجيد الانتقاء ليسعد.

إن هذا التصرف وتلك المبادرة وذلك الحرص أولى أن يقوم به الإنسان لعمل الآخرة لا للدنيا ... لأن الإقامة هناك ستكون أبدية ... حياة فلا موت ... وبقاء فلا فناء... فأحْرِ بتلك الحياة أن يعمل الإنسان على تشييدها وبناء بيته فيها، واتخاذ مهاد وثير وفراش ناعم يطيب له الجلوس عليه والنوم فوقه ...ولا يتأتى ذلك إلا بالعمل الصالح ( وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ )...يعملون الصالح ويجهدون لمنفعة أنفسهم والله عز وجل غني عنهم، وعن عبادتهم التي ينفعون به ويفيدون منها ... 

أيها الإخوة المؤمنون : 

إن الذين يقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ... فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ.

إن الذين يعملون الخير ويسعون في نفع الناس وتخيف آلامهم ومعاناتهم...فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ.

إن الذين يقومون في جوف الليل يصلون ويسبحون ويدعون الله... فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ.

إن الذين يبرون آباءهم وأمهاتهم... فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ.

إن الذين يؤدون ما عليهم من حق لله تعالى وللناس... فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ.

إن الذين ينهضون بواجباتهم تجاه أزواجهم وأولادهم وأوطانهم وأمتهم... فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ.

إن الذين يخشون ربهم بالغيب والشهادة... فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ.

إن الذين يعدلون في توزيع الوصية والميراث.... فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ.

إن الأوصياء الذين يراقبون الله في رعاية الوصية وأدائها إلى مستحقيها... فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ. 

إن الذين يحكمون بين الناس بالعدل أفراداً كانوا أو قضاة أو مسؤولين... فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ. 

أيها الإخوة المؤمنون : 

إن كلمة يَمْهَدُون في الآية تعني أنهم يهيؤون مكان الجلوس أو النوم الخاص بهم كما يهيئ أحدنا سريره ليرقد عليه أو تُكَأَته ليستند إليها ... وقد ورد أن الآية تعني تمهيد الإنسان نومته في قبره وضرورة أن يهيئ مضجعه ويسنع مكانه هناك، فلا يعمل إلا صالحاً يضمن له إقامة هانئة في القبر حتى يوم يبعثون ... فما أجَلَّه من تفسير . 

لما تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم للهجرة مع صاحبه أبي بكر الصديق رضي الله عنه جهزت بنته أسماء رضي الله عنها سُفرة لهما وزوّادة، ثم بحثت عما تشدها به، فلم تجد غير نطاقها، والنطاق قطعة قماش تشده المرأة على وسطها فوق ثيابها – وكنت أراه على نساء قريتنا يوم كنت صغيراً - فقسمتْه نصفين؛ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أبدلك الله بها نطاقين في الجنة .... فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ.. 

كان من بين أوائل الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة صهيب الرومي رضي الله عنه ... لما هاجر إلى المدينة تبعه رجال من قريش يريدون أن يوقعوا به ، فالتفت إليهم وقال : تعلمون يا معشر قريش أني من أرماكم ... وأحكمكم إصابة ، ووالله لا تصلون إليَّ حتى أقتل بكل سهم معي رجلاً منكم ، ثم أضربكم بسيفي ما بقي في يدي شيء منه .

قالوا له : يا صهيب ... جئتنا صعلوكاً فقيراً فكثُر مالك عندنا، ثم تريد أن تخرج بنفسك ومالك ؟ والله ذلك لا يكون ، فقال : أرأيتم إن دللتكم على الموضع الذي دفنت فيه مالي أتخلون سبيلي ؟ قالوا نعم ، فدلهم، فتركوه ، فلما بلغ الخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال : ربح البيع أبا يحيى ....ربح البيع أبا يحيى ... ربح البيع أبا يحيى .ثم تلا قوله تعالى : وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207) سورة البقرة... نعم .. فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ..

كان أبو طلحة الأنصاري رضي الله عنه من أكثر الأنصار وفرة مال ، وكان من ماله حائط يسمى ( بيرحاء) ، وكان أحب ماله إليه ، وكان قبالة المسجد النبوي ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتيه فيشرب من مائه العذب النمير ويتوضأ منه ، فلما نزل قوله تعالى: لَن تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّىٰ تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ ۚ وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92) سورة آل عمران، قال أبو طلحة: يا رسول الله، إن من أحب مالي إلي بيرحاء، وإني أجعلها صدقة لله، أرجو برها وذخرها عند الله، فضعها حيث شئتَ يا رسول الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ذلك مال رابح... ذلك مال رابح .. قد سمعتُ ما قلتَ يا أبا طلحة ... وإني أرى أن تجعلها في الأقربين، فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه ... فَلِأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ. 

فاحرص أخي المسلم على عمارة تلك الدار الباقية ...

واعمل لدار غداً رضوان خازنها *** والجار أحمد والرحمن مُنشيها

من يشتري الدار في الفردوس يعمرها*** بركعة في ظلام الليل يحييها

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين