فقه السيرة (54) نتائج صلح الحديبية 

أول نتيجة لصلح الحديبية.

وثبت من هناك خزاعة فقالوا: نحن ندخل في عهد محمد وعقده، ونحن على ما وراءنا من قومنا ، ووثبت بنو بكر فقالوا: نحن ندخل في عهد قريش وعقدها، ونحن على ما وراءنا من قومنا .

فقال حويطب لسهيل: بادأنا أخوالك بالعداوة وقد كانوا يستترون منا، قد دخلوا في عهد محمد وعقده! .

قال سهيل: ما هم إلا كغيرهم، هؤلاء أقاربنا ولَحمنا قد دخلوا مع محمد، قوم اختاروا لأنفسهم أمراً فما نصنعُ بهم؟.

قال حويطب: نصنع لهم أن ننصُر عليهم حُلفاءنا بني بكر.

قال سهيل: إياك أن تسمع هذا منك بنو بكر! إنهم أهل شؤم، فيقعوا بخزاعة فيغضب محمد لحلفائه، فينقض العهد بيننا وبينه...

وكانت هذه مقدمة نقض الصلح كما سنرى وانصرف سهيل بن عمرو ومن معه راجعين إلى مكة .

إن مشهد سرعة الفريقين إلى عقود التحالف كان تعبيراً حقيقياً عن النجاح الذي حققه رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي نتعلم منه كيفية التحكم بطبيعة الصراع القائم بين المجتمعات الإنسانية على اختلاف عقائدها ومصالحها بمعرفتنا لنزعات هذه المجتمعات، ودراسة مكوناتها الاستراتيجية والمرحلية.

لقد كشف صلح الحديبية لأول مرة في مسيرة الدعوة الإسلامية أمام العرب والعالم حقائق الإسلام،وأهدافه الأخلاقية والإنسانية، وبيّن للعرب الخاضعين لزعامة قريش زيف مواقفهم وبطلانها، لذلك كله كان صلح الحديبية انعطافاً استراتيجياً للدعوة الإسلامية بدأت معه مرحلة نشر الإسلام وعالمية دعوته.

التحلل من الإحرام

فلما فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكتاب وانطلق سهيل بن عمرو وأصحابه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه: قوموا فانحروا واحلقوا! فلم يُجبه منهم رجلٌ إلى ذلك، فقالها رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات كل ذلك يأمرهم، فلم يفعل واحدٌ منهم ذلك.

فانصرف حتى دخل على أم سلمة زوجته مغضباً شديد الغضب، فقالت: مالك يا رسول الله؟ _مراراً_ لا تجيبني! ثم قال: عجباً يا أم سلمة! إني قلت للناس انحروا واحلقوا وأحِلوّا مراراً فلم يُجبني أحدٌ من الناس إلى ذلك وهم يسمعون كلامي وينظرون في وجهي!.

قالت: يا رسول الله! انطلق أنت إلى هديك فانحره، فإنهم سيقتدون بك.

فاضبطع رسول الله صلى الله عليه وسلم بثوبه، ثم خرج وأخذ الحربة ينهمُ هديه (ينحر) يرفع صوته وهو يقول: بسم الله، الله أكبر، فما هذا، إلا أن رأوه نحر، فتواثبوا إلى الهدي، فازدحموا عليه حتى خشيت أم سلمة أن يَغمّ بعضهم بعضاً

فلما فرغ من نحر البُدن فدخل قبته فيها الحلاق فحلق رأسه، فأخرج رأسه من قبته وهو يقول: رحم الله المحلقين! قيل: يا رسول الله، والمقصرين! قال رحم الله المحلقين، ثلاثاً، ثم قال: والمقصّرين .

مدة الحديبية

كانت إقامة رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية بضعة عشر يوماً، ويقال عشرين ليلة ثم عاد إلى المدينة .

نزول سورة الفتح

وفي طريق العودة نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الفتح وفيها:

( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا ) 

وَصَفت غزوة الحديبية وما جرى فيها، وبيَّنت أن صلح الحديبية كان أعظم حدث في الإسلام .

روي عن ابن مسعود - رضي الله عنه - وغيره أنه قال : إنكم تعدون الفتح فتح مكة ، ونحن نعد الفتح صلح الحديبية .

وقال الْبَرَاءِ – رضي الله عنه – قَالَ: تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الْفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحاً، وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ بَيْعَةَ الرُّضْوَانِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ.

صلح الحديبية فتح مبين ونقلة نوعية.

أولاً: إن الصلح عمل نبوي عظيم قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم في موعده مع مسيرة الدعوة وبناء الإسلام والأمة الإسلامية، تمكن فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم من التأكيد المطلق على إنسانية الإسلام ومصداقيته في هداية الإنسان ونقله من عالم الظلم والظلمة والجهل والفساد إلى عالم العدل والنور والعلم والعمل الصالح، من مجتمع الشرك والوثنية واحتقار العقل والقلب والمشاعر إلى مجتمع التوحيد والانعتاق من الذل والصغار، وتحرير العقل والقلب والمشاعر من جميع القيود والموروثات العقيمة لقد حقق صلح الحديبية منعطفاً مهماً في حجب القوة المسلحة التي يحتكم إليها المستبدون الظالمون المستكبرون، ليحل محلها الكلمة الصادقة الهدافة الحرّة، وبهذاالتحول، تحقق السلام والأمن، وعادت العلاقات الاجتماعية والاقتصادية إلى وضعها الطبيعي، لذلك كله نتبين معاني هذا التحول في الآيات القرآنية، فيما يلي:

1-وصف الله سبحانه صلح الحديبية بالفتح المبين، لما فيه من انتقال نوعي من حالة الدفاع والمواجهة المسلحة إلى حالة الانفتاح أمام جميع القوى، ابتداء باعتراف قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم ودولته، وفتح أبواب الدعوة في مكة والبلاد العربية والعالم، إذ كان الصلح مقدمةً لآفاق جديدة وانتصارات قادمة اجتمع في مطلعها: بعث رسل الله إلى الممالك والدول والزعماء في المحيط الإقليمي يدعو الملوك والقادة إلى الإسلام، وفتح خيبر حيث كان يهودها ومن اجتمع إليهم من بني النضير وقينقاع، يعدّون العدة لغزو المدينة والقضاء على الدين والدولة، والرسول والرسالة، فتحقق لهاتين المقدمتين نجاحات مبهرة أطلت بالإسلام على العالم بثوب الحرية والعدالة والتوجهات الإنسانية، وصفتها هذه الآيات بالفتح المبين والانطلاق للفتوح القادمة، والمغفرة التامة لرسول الله صلى الله عليه وسلم تعظيماً لقدره وتمام النعمة التي وعد الله بها رسوله في سورة الضحى، فقد هداه إلى الصراط المستقيم في مرحلة السلام بعد أن تحققت هدايته في مرحلة الجهد والصبر والمواجهة القاسية التي عاشها في مكة.

2- الصلح فرقان في قيم الأمة وقواها الاجتماعية.

أ ـ ظهرت بوضوح مكانة المسلمين والمؤمنين بالله ورسوله المصدقين لرسالته ونبوته وحكمته وصدقه، مما بث فيهم الطمأنينة والثقة والعزم على المتابعة

ب ـ زادهم الله إيماناً مع إيمانهم وهم يسمعون ويطيعون ويسلمون لله في كل أمورهم

3- لقد تجلّى لجميع الناس عظمة الله وقدرته الفاعلة في تحقيق النصر والصلح الذي جرى بإرادة الله وتوفيقه

4- جزاء المؤمنين والمؤمنات الذين استحقوا وعد الله لهم بالجنة ونوالهم رضوانه وحسن ثوابه .

5- الكشف عن سوء مكانة المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات لما كانوا عليه من سوء الظن بالله ورسوله، وعجزهم عن إدراك حقيقة نبوته ومصداقية رسالته، فاستحقوا بذلك لعنة الله وإعداد جهنم لاستقبالهم

6- لقد كان صلح الحديبية محطة اعتراف، بحقيقة النبوة والمهام الملقاة عليه في عهد الدعوة ومواجهة المصاعب والإعداد الدعوي الرسالي، والانطلاق في بيان التكوين الذي يسعى إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في بنيان العقيدة الصحيحة والإيمان والعمل وتعظيم الله سبحانه :{ لِّتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا} التي كانت دلالة الانطلاق باتجاه البنيان الدعوي الحضاري الإنساني الذي يهدف الرسول والرسالة إلى تحقيقه على مسرح الحياة الإنسانية .

ثالثاً : مفاوضات الحديبية صورة من صور الحوار الاستراتيجي النبوي.

كان الهدف الاستراتيجي النبوي تحويل الصراع بين المسلمين والمشركين من صراع القوة العسكرية التي تعتمد على العدد والعدة والبطش والقتل، إلى صراع العقل والفكر والعلم الذي يعتمد على الحقائق العلمية والحوار والاحترام المتبادل وحرية الرأي وإقرار الفضائل ومكارم الأخلاق. ومثل هذا الهدف الاستراتيجي، يستبعد من المفاوضات (التمسك بالأسماء والألقاب ومظاهر التعصب، والتشدد والتفكير العاطفي والرموز والزعامات الشكلية والنوازع اللفظية والتحمس والانفعال) مع العلم بأن الهدف الاستراتيجي النبوي الذي يسعى إليه لا يمكن أن يتناقض مع مجمل القضايا الجزئية التي يقوم عليها الإسلام عقيدة وعبادة وعملاً. لكنه يحتاج في الوقت نفسه إلى نظر صائب وصبر وحكمة

ففي المفاوضات لم يتشبث النبي صلى الله عليه وسلم بصيغة البدء، فليس يُغير اسم الله لفظةُ سهيل: باسمك اللهم، كما لا يغير قول سهيل: اكتب اسمك واسم أبيك من حقيقة نبوة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أولاً؛ وليس على صاحب الفكر الاستراتيجي أثناء المفاوضات أن يكشف عن أهدافه لأنصاره إذا لم يكن لديهم الفكر الثاقب الذي يعي الهدف الاستراتيجي، لأن كشفهُ لهم قد يؤدي إلى الفشل في الوصول إلى الهدف، وهذا ثانياً؛ لذلك اكتفى بالرد على عمر بن الخطاب بقوله: إنه ربي ولن يضيعني.

وثالثاً: ظهرت مشكلة الفقرة المتعلقة برد النبي صلى الله عليه وسلم من يأتيه مسلماً بغير إذن من وليه، في هذه المحنة: ظهرت شدة الحب والتلاحم الأخوي والوحدة بين المسلمين، مما لا يوجد مثله عند غيرهم مما أدهش وفد قريش وأشعرهم أن المسلمين صائرون إلى النصر على من عادهم، وفي ذات الوقت كشفت لهم: أن المسلم لا يرجع عن دينه ولا يخالف رسول الله صلى الله عليه وسل، وستكون ظاهرة الاسترداد نكبة على قريش سرعان ما بعثت إلى رسول الله لإلغاء شرط الاسترداد، هذا الشرط الذي ظن بعض المسلمين وعلى رأسهم عمر بن الخطاب أنه دنيَّة في الدين، ولكن من المفيد أن نعلم أن التربية الإسلامية التي كان عليها أبو جندل توضح هذه العلاقة الإيمانية التي لا تزعزها المصاعب والأزمات، ولا تغيرها الظروف الصعبة على الرغم من أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي جندل: ارجع، وهو الذي قدِمَ على النبي صلى الله عليه وسلم، فكان موقف أبي جندل تعبيراً حقيقياً عن ارتباطه بالله، وإيمانه بنبوة رسول فقه الموازنات في صلح الحديبية .

الوقفة الأولى: فقه الموازنات في التعامل مع الأشخاص

فليست طريقة التعامل مع الخصوم والأعداء واحدةً، فهناك قليل العداوة الذي يقف موقف التوسط بين المسلمين وعدوهم، وهناك اللئيم الغادر، وهناك الحكيم العاقل، وهناك الذي تؤثر فيه الأمور الشعائرية، لذلك رأينا تعامل النبي مع هؤلاء السفراء بحسب طبيعتهم.

فهذا بديل بن ورقاء زعيم خزاعة – حلفاء الرسول – الذي يقف في المنتصف بين قريش والرسول، وهو أقرب للرسول منه إلى قريش، يظهر له الرسول الشدة والإصرار على الموقف مع بيان القوة ليدرك أن حليفهم قوي فيزدادوا ثقةً به وبالتحالف معه.

وهذا عروة بن مسعود زعيم ثقيف وهو يبهره منظر الزعامة والالتفاف حول القائد، وقد استعمل أشنع أساليب الاستفزاز ليفت من عضد المسلمين ولكنه وجدهم ملتفين حول قائدهم مما كان له أكبر الأثر على نفسيته ليعود إلى قريش ليفت في عزيمتها، ولينصحهم بالخضوع لأمر الرسول، وبالتالي استطاع الرسول قلب المجن على قريش بتحويل عدوه عن صفها إلى صف مطالبه.

وهذا الحلس بن علقمة زعيم الأحابيش عندما يراه الرسول وهو يعرف طبعه وشخصيته لم يحتج الرسول إلى طول مناظرةٍ معه، وإنما أمر بإجراءٍ عمليٍ يعبر عن مقصده، ويدب الرهبة في قلب الطرف الثاني، فقال عليه الصلاة والسلام: « هَذَا فُلاَنٌ، وَهْوَ مِنْ قَوْمٍ يُعَظِّمُونَ الْبُدْنَ فَابْعَثُوهَا لَهُ ». فَبُعِثَتْ لَهُ وَاسْتَقْبَلَهُ النَّاسُ يُلَبُّونَ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ قَالَ سُبْحَانَ اللَّهِ مَا يَنْبَغِى لِهَؤُلاَءِ أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ، فَلَمَّا رَجَعَ إِلَى أَصْحَابِهِ قَالَ رَأَيْتُ الْبُدْنَ قَدْ قُلِّدَتْ وَأُشْعِرَتْ، فَمَا أَرَى أَنْ يُصَدُّوا عَنِ الْبَيْتِ. فانقلب الحلس عن قريش، وهددهم بالحرب إن لم يفتحوا الطريق أمام الرسول والبيت.

ثم كانت سفارة مكرز بن حفص، وقد أخذ الرسول حذره منه لأنه كما قال عنه: « هَذَا مِكْرَزٌ وَهْوَ رَجُلٌ فَاجِرٌ ».

ولم يطل النقاش حتى طلع سهيل بن عمرو وهو الرجل السياسي المحنك الذي يؤثر السلم على الحرب، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: « لَقَدْ سَهُلَ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ »، فكان الصلح كما رأينا.

هذا هو فقه الموازنات في التعامل مع أصناف الناس، نتعلمه من رسول الله، ونتعلم القدرة على توظيف الطاقات وإدارة الحوار والصراع من غير تشنج، ولا ارتخاء.

الوقفة الثانية: مع بنود الاتفاقية وما فيها من موازنات.

تحتوي الاتفاقية على عدة نقاط أهمها: 

1. البدء بعبارة "باسمك اللهم" بدلاً من "بسم الله الرحمن الرحيم".

2. إسقاط لفظ "رسول الله" بعد ذكر اسمه صلى الله عليه وسلم في وثيقة الصلح.

3. واصطلحا على وضع الحرب على الناس عشر سنين، يأمن فيهن الناس ويكف بعضهم عن بعض.

4. على أنه من قدم مكة من أصحاب محمد حاجًّا أو معتمرًا أو يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله، ومن قدم المدينة من قريش مجتازًا إلى مصر أو إلى الشام، يبتغي من فضل الله فهو آمن على دمه وماله.

5. على أنه من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشًا ممن مع محمد لم يردوه عليه.

6. وأنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخله، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه (فتواثبت خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش وعهدهم).

7. وأنت ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثًا معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، ولا تدخلها بغيرها.

بالنظر إلى البند الأول والثاني: نرى أن رسول الله رضي بالعدول عن (بسم الله الرحمن الرحيم) إلى (باسمك اللهم )، وعن (محمد رسول الله) إلى (محمد بن عبد الله )، وقد اعترض الصحابة على ذلك ومنهم علي – رضي الله عنه – الذي رفض أن يمحو اسم رسول الله، ولكن الرسول محاه بيده، (وبذلك رأينا الرسول عليه الصلاة والسلام يغلب المصالح الجوهرية والأساسية والمستقبلية على المصالح والاعتبارات الشكلية التي يتشبث بها بعض الناس، فقبل من الشروط ما قد يظن لأول وهلةٍ أن فيه إجحافاً بالجماعة المسلمة أو رضاً بالدون، ورضي وحذف البسملة المعهودة في وثيقة الصلح ويكتب بدلها (باسمك اللهم) وأن يحذف وصف الرسالة الملاصق لاسمه الكريم (محمد رسول الله) ويكتفي باسم (محمد بن عبد الله) ليكسب من وراء ذلك الهدنة التي يتفرغ فيها لنشر الدعوة، ومخاطبة ملوك العالم ولا غرو أن سماها الله فتحاً قريباً).

وأما البند الثالث والرابع: فقد حققا للمسلمين مصالح كثيرة جداً منها:

1. ضمان حياد قريش وعزلها عن أي صراع يحدث في الجزيرة العربية، سواء كان هذا الصراع مع القبائل العربية الأخرى، أم مع اليهود ذلك العدو اللئيم الغادر الذي يتربص بالمسلمين الدوائر.

2. حرص الرسول صلى الله عليه وسلم على أن يبقى الاتصال مفتوحًا بينه وبين قريش، ليسمع منهم ويسمعوا منه بواسطة الرسل، والسفراء، وفي هذا تقريب للنفوس وتبريد لجو الحرب، وإضعاف لحماسهم نحو القتال.

3. دخلت المهابة في قلوب المشركين والمنافقين، وتيقّن الكثير منهم بغلبة الإسلام، وقد تجلّت بعض مظاهر ذلك في مبادرة كثير من صناديد قريش إلى الإسلام، مثل: خالد بن الوليد وعمرو بن العاص، كما تجلت في مسارعة الأعراب المجاورين للمدينة إلى الاعتذار عن تخلفهم.

4. كما أن دخول المسلمين بالقوة يعني أن تحدث مذابح، وتزهق أرواح كثيرة، وتسفك دماءٌ غزيرةٌ من الطرفين، كما أنه من المحتمل أن ينال الأذى والقتل والتشريد على أيدي المؤمنين بعض المستضعفين من إخوانهم من المسلمين في مكة، وهذا فيه ما فيه من المعرة التي لا يليق بمسلم أن يقع فيها.

قال سبحانه: (وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ ۖ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ ۚ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ( (الفتح: ٢٥).

قال العز بن عبد السلام رحمه الله في ذلك: "فإن قيل: لم التزم ذلك في صلح الحديبية إدخال الضيم على المسلمين وإعطاء الدنية في الدين؟ قلنا: التزم ذلك دفعاً لمفاسد عظيمة، وهي: قتل المؤمنين والمؤمنات الذين كانوا بمكة لا يعرفهم أهل الحديبية، وفي قتلهم معرةٌ عظيمةٌ على المسلمين فاقتضت المصلحة إيقاع الصلح على أن يرد الكفار من جاء منهم إلى المؤمنين، وذلك أهون من قتل المؤمنين الخاملين، مع أن الله عز وجل علم أن في تأخير القتال مصلحةٌ عظيمةٌ وهي إسلام جماعةٍ من الكافرين".

5. اعترفت قريش في هذه المعاهدة بكيان الدولة المسلمة، فالمعاهدة دائمًا لا تكون إلا بين ندين، وكان لهذا الاعتراف أثره في نفوس القبائل المتأثرة بموقف قريش الجحودي، حيث كانوا يرون أنها الإمام والقدوة.

6. أعطت الهدنة فرصة لنشر الإسلام وتعريف الناس به؛ مما أدى إلى دخول كثير من القبائل فيه، يقول الإمام الزهري رحمه الله : "فما فتح في الإسلام فتحٌ قبله كان أعظم منه، إنما كان القتال حيث التقى الناس، فلما كانت الهدنة ووضعت الحرب وأمن الناس بعضهم بعضًا، والتقوا فتفاوضوا في الحديث والمنازعة، فلم يكلم أحد بالإسلام يعقل شيئًا إلا دخل فيه، ولقد دخل في تينك السنتين مثل ما كان في الإسلام قبل ذلك أو أكثر".

وعقب عليه ابن هشام رحمه الله بقوله: والدليل على قول الزهري: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى الحديبية في ألف وأربعمائة في قول جابر بن عبد الله، ثم خرج في عام الفتح بعد ذلك بسنتين في عشرة آلاف.

7. مكن صلح الحديبية النبي صلى الله عليه وسلم من تجهيز غزوة مؤتة، فكانت خطوة جديدة لنقل الدعوة الإسلامية بأسلوب آخر خارج الجزيرة العربية.

8. ساعد صلح الحديبية النبي صلى الله عليه وسلم على إرسال رسائل إلى ملوك الفرس والروم والقبط يدعوهم إلى الإسلام.

وأما البند الخامس وهو: "من أتى محمدًا من قريش بغير إذن وليه رده عليهم، ومن جاء قريشًا ممن مع محمد لم يردوه عليه"، فقد رأى فيه الصحابة الضيم والذل، ولكن الرسول صلى الله عليه وسلم وافق عليه وهو يكسب بذلك مصلحتين:

الأولى: التخلص من المنافقين من صفوف المسلمين ليتنقى الصف المسلم منهم.

الثانية: زيادة العبء على قريش بتحمل الأعداد الكبيرة من المسلمين المستضعفين، الأمر الذي سيولد الانفجار في المجتمع المكي، أو تسرب هؤلاء المستضعفين إلى مكانٍ محايدٍ ليمارسوا الضغط الاقتصادي والسياسي والعسكري على قريش، مع عدم تحمل المسلمين تبعات ذلك، وهذا ما حصل عندما فر أبو بصير وأبو جندل وشكلا عصابة مسلحة مع من فر من المستضعفين، فقطعوا على قريش تجارتها وضيقوا عليها، مما اضطر قريشاً إلى التوسل للرسول أن يسقط هذا البند من الاتفاقية.

وأما البند السادس وهو: "أنه من أحب أن يدخل في عقد محمد وعهده دخله، ومن أحب أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل فيه"، فقد فتح الباب أمام القبائل العربية المتخوفة من قريش إلى المسارعة للدخول في حلف رسول الله، وكانت أولها خزاعة، ثم تتالت القبائل، وهذا ما ساعد في تنامي قوة المسلمين وفرض عزلة كبيرةٍ على قريش وحلفائها.

وأما البند السابع وهو: وأنت ترجع عنا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكة، وأنه إذا كان عام قابل خرجنا عنك فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثًا معك سلاح الراكب، السيوف في القرب، ولا تدخلها بغيرها.

في هذا البند في الظاهر مفسدةٌ للمسلمين تتمثل بالرجوع عن البيت وقد جاؤوه قاصدين متلهفين وعندهم القدرة على الدخول وتحطيم قوة قريش، ولكن الرسول وافق على هذا البند مما أثار عدداً من الصحابة منهم عمر – رضي الله عنه – واعتبروا في ذلك إعطاءً للدنية ورضاً بالهون، ولكن الرسول سارع لتهدئة روعهم وطمأنتهم بأنهم سيأتون البيت ويطوفون به.

ولقد كسب الرسول بموافقته على هذا البند أمرين مهمين:

الأول: دخوله مكة للعمرة في العام المقبل وهو بكامل الراحة والطمأنينة، بل دخلها دخول المنتصر الذي دب في قلب العدو الخور والضعف عندما رأوا عزيمة المسلمين وهمتهم العالية في الطواف والسعي.

الثاني: الدعاية الإعلامية السيئة لقريش حيث إن العقلاء حين يسمعون كلام الرسول صلى الله عليه وسلم وأنه جاء معظمًا للبيت، والمشركون يردونه، وهو يصر على تعظيمه، سيقف هؤلاء بجانبه ويتعاطفون معه فيقوى مركزه، ويضعُف مركز قريش الإعلامي والديني في نفوس الناس.

لقد كان صلح الحديبية بكل المعايير فتحاً للمسلمين حققوا من ورائه مصالح لم يكونوا ليحلموا بها لولا الصلح وقد عرضنا بعضها آنفاً، لذلك سمعنا البراء – رضي الله عنه – يقول: تَعُدُّونَ أَنْتُمُ الْفَتْحَ فَتْحَ مَكَّةَ، وَقَدْ كَانَ فَتْحُ مَكَّةَ فَتْحاً، وَنَحْنُ نَعُدُّ الْفَتْحَ بَيْعَةَ الرُّضْوَانِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ.

كما كان هذا الصلح سببًا ومقدمةً لفتح مكة: يقول ابن قيم الجوزية رحمه الله : "كانت الهدنة مقدمةً بين يدي الفتح الأعظم، الذي أعز الله به رسوله وجنده، ودخل الناس به في دين الله أفواجًا، فكانت هذه الهدنة بابًا له ومفتاحًا ومؤذنًا بين يديه، وهذه عادة الله في الأمور العظام التي يقضيها قدرًا وشرعًا أن يوطئ لها بين يديها بمقدمات وتوطئات تؤذن لها وتدل عليها".

أبو بصير في المدينة وقيادته لحرب العصابات . 

في أعقاب صلح الحديبية مباشرة استطاع أبو بصير عتبة بن أسيد أن يفر بدينه من سجون الشرك في مكة المكرمة، وأن يلتحق برسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة فبعثت قريش في إثره اثنين من رجالها إلى رسول الله، ليرجعا به، تنفيذًا لشرط المعاهدة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بصير: يا أبا بصير، إنا قد أعطينا هؤلاء القوم ما قد علمت، ولا يصلح لنا في ديننا الغدر، وإن الله جاعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا، فانطلق إلى قومك، فقال أبو بصير: يا رسول الله، أتردني إلى المشركين يفتنونني في ديني؟ قال: يا أبا بصير، انطلق فإن الله سيجعل لك ولمن معك من المستضعفين فرجًا ومخرجًا. فانطلق معهما، وقد شق ذلك على المسلمين وهم ينظرون بحزن إلى أخيهم في العقيدة، وهو يعود إلى سجنه بمكة بعد أن استطاع أن يفلت من ظلم قريش، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يهتم بالوفاء بالعهود والمواثيق، ولم يكن عنده مجرد نظرية مكتوبة على الورق، ولكنه كان سلوكًا عمليًّا في حياته وفي علاقته الدولية، فقد أوصى الله سبحانه وتعالى بالوفاء بالعهود، وحذر من نقض الأيمان بعد توكيدها في كثير من الآيات القرآنية, قال تعالى: ( وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللهِ إذا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ) [النحل: 91]. 

وقال جل وعلا: ( وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً ) [الإسراء: 34]. 

وبهذا يكون الوفاء بالعهد عند المسلمين قاعدة أصولية من قواعد الدين الإسلامي التي يجب على كل مسلم أن يلتزم بها. 

لقد التزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعهده مع قريش، وسلَّم أبا بصير إليهما (القرشيين) وانطلق معهما، فلما كانا بذي الحليفة، قال لأحد صاحبيه: أصارم سيفك هذا يا أخا بني عامر؟ فقال: نعم، قال: أنظر إليه؟ قال: انظر إن شئت، فاستله أبو بصير، ثم علاه به حتى قتله، ففر الآخر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: قتل صاحبكم صاحبي، فما لبث أبو بصير أن حضر، متوشحًا السيف، وقال: يا رسول الله وفت ذمتك، وأدى الله عنك، أسلمتني بيد القوم، وقد امتنعت بديني أن أفتن فيه، أو يعبث بي فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «ويل أمه مسعر حرب لو كان له أحد» فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده عليهم فخرج حتى أتى سيف البحر، وقد فهم المستضعفون بمكة من عبارة الرسول صلى الله عليه وسلم أن أبا بصير بحاجة إلى الرجال، فأخذوا يفرون من مكة إلى أبي بصير في سيف البحر، فلحق به أبو جندل بن سهيل بن عمرو وغيره حتى اجتمع عند أبي بصير عصبة قوية، فما يسمعون بعير لقريش خرجت إلى الشام إلا اعترضوا طريقها وقتلوا من فيها، وأخذوا الأموال التي كانوا يتجرون بها، فأرسل المشركون إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه بالله والرحم لما أرسل إلى أبي بصير ومن معه، ومن أتاه منهم فهو آمن، وتخلوا في ذلك عن أقسى شروطهم التي صبوا فيها كؤوس كبريائهم، فذلت قريش من حيث طلبت العز. 

فأرسل إليهم النبي صلى الله عليه وسلم وهم بناحية العيص، فقدموا عليه وكانوا قريبًا من الستين أو السبعين فآوى النبي صلى الله عليه وسلم تلك العصبة المؤمنة التي أقضت مضاجع قريش، وأرغمتها على إسقاط شرطها التعسفي، فزادت بهم قوة المسلمين وقويت بهم شوكتهم، واشتد بأسهم. 

غير أن أبا بصير، رأس تلك العصابة ومؤسسها، لم يقدر له أن يكون معها، فقد وافاه كتاب النبي صلى الله عليه وسلم بالعودة إلى المدينة، وهو على فراش الموت، فلفظ أنفاسه حيث كان في الثغر، وهواه في قلب المجتمع النبوي في المدينة. 

إن قصة أبي جندل وأبي بصير وما احتملاه في سبيل العقيدة، وما أبدياه من الثبات والإخلاص والعزيمة والجهاد حتى مرغوا رؤوس المشركين بالتراب وجعلوهم يتوسلون بالمسلمين لترك ما اشترطوه عليهم في الحديبية، هذه القصة نموذج يقتدى به في الثبات على العقيدة وبذل الجهد في نصرتها، وفيها ما يشير إلى مبدأ (قد يسع الفرد ما لا يسع الجماعة) فقد ألحق أبو بصير وجماعته الضرر بالمشركين في وقت كانت فيه دولة الإسلام لا تستطيع ذلك وفاء بالصلح، لكن أبا بصير وأصحابه خارج سلطة الدولة، ولو في ظاهر الحال، ولم يكن ما قام به أبو بصير والمستضعفون بمكة مجرد اجتهاد فردي لم يحظ بإقرار الرسول صلى الله عليه وسلم أن يأمر أبا بصير بالكف عن قوافل المشركين ابتداء أو بالعودة إلى مكة، لكن ذلك لم يحدث فكان إقرارًا له، إذ كان موقف أبي بصير وأصحابه في غاية الحكمة حيث لم يستكينوا لطغاة مكة يفتنونهم عن دينهم ويمنعونهم من اللحاق بالمدينة، فاختاروا موقفًا فيه خلاصهم وإسناد دولتهم بأعمال تضعف اقتصاد مكة وتزعزع إحساسهم بالأمن في وقت الصلح، بل يمكن القول بأن اتخاذ هذا الموقف كان بإشارة وتشجيع من النبي صلى الله عليه وسلم حين وصف أبا بصير بأنه: «مسعر حرب لو كان معه أحد». 

امتناع النبي صلى الله عليه وسلم عن رد المهاجرات

صممت مجموعة من النساء المستضعفات في مكة على الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام، وفي مقدمة هؤلاء النساء أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط، فقد هاجرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد صلح الحديبية فأراد كفار مكة أن يردوهن فأنزل الله تعالى في حقهن: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إذا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إلى الْكُفَّارِ لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُم مَّا أَنْفَقُوا وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنْكِحُوهُنَّ إذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلاَ تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ) [الممتحنة: 10]. 

قال الأستاذ محمد الغزالي: (وقد أبى المسلمون عقيب صلح الحديبية أن يردوا النسوة المهاجرات بدينهن إلى أوليائهن، إما لأنهم فهموا أن المعاهدة خاصة بالرجال فحسب، أو لأنهم خشوا على النساء اللاتي أسلمن، أن يضعفن أمام التعذيب والإهانة، وهن لا يستطعن ضربًا في الأرض، وردًا للكيد كما فعل أبو جندل وأبو بصير وأضرابهما، وأيا كان الأمر فإن احتجاز من أسلم من النساء تم بتعليم القرآن).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين