الصمت القبيح!

ما يزال هادئاً مبتسماً رغم ارتفاع الأصوات حوله وكثرة اللغط، هو على ما يرام، يقف على مسافةٍ واحدةٍ من الجميع.

تعالت الأصوات من جانب البعض وتجاوزت ألسنتهم حدود اللياقة، لكنه ما يزال محتفظا بابتسامته الهادئة!!

طالبه البعض بقول كلمة فصل في هذا الخلاف الدائر، نظر للأطراف جميعاً وآثر الصمت حتى لا يُغضب طرفاً على حساب طرف، وحتى يظل محبوباً من الجميع.

أغرى صمته بعض من تجاوزوا حدود اللياقة في الكلام فتجاوزوا حدود الأدب وبعدها حدود الشرع، لكنه ما زال صامتاً مبتسماً ينظر للجميع!!

استنطقه بعض من لهم الحق واستحلفوه أن ينطق بكلمة الحق في هذا الموقف العصيب لكنه حاول ترضية الجميع ببعض الألفاظ المحايدة، كل ما يهمه ألا يخسر أحداً لحساب أحد.

انتهى الحديث وافترق القوم وضاعت الحقوق وانتشى الظالمون وشكروه على صمته الرائع الذي لولاه لما فازوا وما انتصروا فقد كان صمته أكبر داعمٍ لهم في موقفهم، انفرجت أساريره أكثر وحياهم مبتسماً ثم عاد إلى بيته مرتاح الضمير !!!

في موقف آخر رأى أحد أولائك الذين اغتصبوا الحقوق في الموقف السابق يعتدي على أحد الضعفاء فلم يحرك ساكناً وتنازعت الأسئلة في رأسه، تُرى أيهما أفضل؛ هل أقف متفرجاً للنهاية أم أواصل سيري في الطريق وأمضي؟؟

قرر في النهاية أن يغادر المكان حتى لا يحرجه البعض لاحقاً ويدعوه للشهادة.

ساد المبطلون وحكموا القرية وعاثوا فيها فسادا، لكنه على ما يرام بعيدا عن كل ذلك القلق يعيش هادئا ويمر على الجميع مبتسماً.

ثم في يوم قريب جاءه بعض من جاملهم ذات موقفٍ بصمته، يطالبونه بالتنازل عن حقله شريطة أن يبادلهم الابتسامات حين تنازله وألا يألو جهدا في كرم ضيافتهم، أخذ يصرخ في بعض جيرانه ويستحلفهم بالله أن يشهدوا بالحق معه فهم يعرفون الحقيقة، نظروا إليه هادئين والابتسامة تعلو وجوههم، أجابوه ببعض العبارات المحايدة التي لا ترد باطلا ولا تظهر حقاً وآثروا أن يقفوا على مسافةٍ واحدةٍ منه ومن خصومه.

صرخ فيهم أنتم بذلك تضيعون حقي بمحاولة إرضاء الجميع، فهناك حق وهناك باطل وفي مثل هذا الموقف يصبح الصمت جريمة !!

وما أن نطق بهذه الكلمات حتى سمع صدى صوته يرتد وكأنه يحاسبه هو !

تذكر حياته ومواقفه السابقة وتزاحمت في رأسه استغاثات المستغيثين به من قبل في مواقف كثيرة مشابهة وكيف كان دائماً يكتفي بابتسامته السامجة ويفضل الحياد ظناً منه أنه بذلك لا يثير عداوةً ضده.. ونسي أنه في كل مرةٍ يؤثر فيها الصمت يثير عداوة السماء ويغضب الله الحق الذي خسف قريةً بأكملها وأمر جبريل أن يبدأ بعابد القرية الذي يكثر الصلاة والصيام والذكر والعبادة لكنه لا يغضب ولا يتمعر وجهه عندما تنتهك الحقوق ويعلو صوت الباطل أمامه على صوت الحق.

وفي سورة الأعراف ذكر الله هلاك قريةٍ ظالمةٍ لم يُنجِّ الله منها إلا من اتسموا بالإيجابية وكان لهم دور في مواجهة الظلم السائد.

يقول تعالى:

"فلما نَسُوا ما ذُكِّروا به أنجَيْنا *الذين ينهَوْن عن السُّوء* وأخذنا الذين ظلموا بعذابٍ بئيسٍ بما كانوا يفسقون" !

ألا لعنة الله على أمثال أولائك الذين أضاعوا الحقوق وأغروا المبطلين بصمتهم القبيح، فبأمثالهم ضاعت الأوطان وساد الظلم وانتشر الفساد وامتلأت السجون بالمخلصين الصادقين.

*فلا نامت أعين الجبناء!*

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين