فقه السيرة (52) بدء مرحلة جهاد الطلب

الآن نغـــــــزوهم ولا يغزوننا

كان صلى الله عليه وسلم يعمل حساب كل القوى المجاورة، ولا يغفل عن أي قوة منها، وقد صرح بعد غزوة الخندق بأن الخطة القادمة هي غزو قريش ، فقد تغيرت موازين القوى، وأصبح المسلمون لهم القدرة على الهجوم أكثر من قبل، فسعى صلى الله عليه وسلم لبسط سيادة الدولة على ما تبقى من قوى حول المدينة؛ لأن ذلك له صلة بالإعداد لغزو قريش في مرحلة لاحقة، فقد قام صلى الله عليه وسلم خلال عام واحد -العام السادس- بغزوتين وأرسل أربع عشرة سرية غير ما قام به في نهاية العام الخامس الهجري، وهذه الأعمال والتحركات قصد منها المزيد من إنهاك قوى قريش وإحكام الحصار، وتقليم أظفارها من خلال اقتطاع كل ما يمدها بالقوة من حلفائها فقد استثمر رسول الله وأصحابه ما حققوه من نجاح في صد الأحزاب وإفشال خططهم، وردهم كيد يهود بني قريظة في نحورهم، فباشروا نشاطًا واسع النطاق ضد خصومهم على جميع الجبهات، فقد ضيقوا الخناق الاقتصادي على قريش من جديد ، كما نفذوا العديد من السرايا لمعاقبة المشركين في الأحزاب من جهة أو للثأر من القبائل التي كانت قد غدرت بالدعاة أو ناصبت الإسلام العداء، وقد تمثل النشاط العسكري الإسلامي خلال هذه الفترة فيما يلي: 

سرية محمد بن مسلمة إلى بني القرطاء.

كانت العشائر النجدية من أجرأ العناصر البدوية الوثنية على المسلمين؛ لأن النجديين أهل قوة وبأس وعدد غامر، وقد رأينا كيف أن العمود الفقري لقوات الأحزاب الضاربة كان من هذه القبائل النجدية، حيث كان رجال هذه القبائل الشرسة يشكلون الأغلبية الساحقة من تلك القوة الضاربة، ستة آلاف مقاتل من غطفان وأشجع وأسلم وفزارة وأسد، كانت ضمن الجيوش التي قادها أبو سفيان لحرب المسلمين فحاصرهم أهل المدينة. 

ولهذا فإن أول حملة عسكرية وجهها النبي صلى الله عليه وسلم لتأديب خصومه بعد غزوة الأحزاب هي تلك الحملة التي جردها على القبائل النجدية من بني بكر بن كلاب الذين كانوا يقطنون القرطاء بناحية ضربة على مسافة سبع ليالٍ من المدينة، ففي أوائل شهر المحرم عام خمس للهجرة وبعد الانتهاء مباشرة من القضاء على يهود بني قريظة وجه صلى الله عليه وسلم سرية من ثلاثين من أصحابه عليهم محمد بن مسلمة لشن الغارة على بني القرطاء من قبيلة بكر بن كلاب، وذلك في العاشر من محرم سنة 6هـ وقد داهموهم على حين غرة فقتلوا منهم عشرة وفر الباقون وغنم المسلمون إبلهم وماشيتهم. 

وفي طريق عودتهم أسروا ثمامة بن أثال الحنفي سيد بني حنيفة، وهم لا يعرفونه فقدموا به المدينة وربطوه بسارية من سواري المسجد، فخرج إليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ماذا عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي خير يا محمد، إن تقتلني تقتل ذا دم، وإن تنعم تنعم على شاكر، وإن كنت تريد المال فسل منه ما شئت، فترك حتى كان الغد فقال: ما عندك يا ثمامة؟ فقال: عندي ما قلت لك.

إن تنعم تنعم على شاكر فتركه حتى كان بعد الغد فقال: ما عندك يا ثمامة؟، فقال عندي ما قلت لك، فقال: أطلقوا ثمامة، فانطلق إلى نخل قريب من المسجد فاغتسل ثم دخل المسجد فقال: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله, يا محمد، والله ما كان على الأرض وجه أبغض إليَّ من وجهك فقد أصبح وجهك أحب الوجوه إليَّ، والله ما كان دين أبغض إليَّ من دينك فأصبح دينك أحب الدين إليَّ والله ما كان بلد أبغض إليَّ من بلدك فأصبحت بلدك أحب البلاد إليَّ، وأن خيلك أخذتني وأنا أريد العمرة، فماذا ترى؟ فبشره رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره أن يعتمر، فلما قدم مكة قال له قائل: صبوت؟ قال: لا والله ولكني أسلمت مع محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا والله لا يأتيكم من اليمامة حبة حنطة حتى يأذن فيها النبي صلى الله عليه وسلم. 

وقد أبر بقسمه مما دفع وجوه مكة إلى أن يكتبوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألونه بأرحامهم أن يكتب إلى ثمامة ليخلي لهم حمل الطعام فاستجاب النبي صلى الله عليه وسلم لرجاء قومه بالرغم أنه في حالة حرب معهم، وكتب إلى سيد بني حنيفة ثمامة: أن خَلِّ بين قومي وبين ميرتهم، فامتثل ثمامة أمر نبيه، وسمح لبني حنيفة باستئناف إرسال المحاصيل إلى مكة, فارتفع عن أهلها كابوس المجاعة.

وفي هذه القصة دروس وعبر منها: 

1- جواز ربط الكافر في المسجد. 

2- جواز المن على الأسير الكافر، وتعظيم أمر العفو عن المسيء, لأن ثمامة أقسم أن بغضه انقلب حبًّا في ساعة واحدة لما أسداه النبي صلى الله عليه وسلم إليه من العفو والمن بغير مقابل. 

3- الاغتسال عند الإسلام كما فعل ثمامة حين أسلم. 

4- الإحسان يزيل البغض وينبت الحب. 

5- يشرع للكافر إذا أراد عمل خير ثم أسلم أن يستمر في عمل ذلك الخير. 

6- الملاطفة لمن يرجى إسلامه من الأسارى إذا كان في ذلك مصلحة للإسلام، ولا سيما من يتبعه على إسلامه العدد الكثير من قومه. 

7- الإسلام يغير سلوك المؤمن حين يضع المسلم قدراته تحت إمرة الإسلام والمسلمين, كما فعل ثمامة بعدم إرساله القمح لأهل مكة إلا بإذن من الرسول عليه السلام. 

8- ينبغي أن يخلع المؤمن على عتبة الإيمان وعند تركه للكفر, كل علاقاته السابقة، والتزامه بأوامر رب العالمين بعد إيمانه. 

سرية أبي عبيدة بن الجراح إلى سيف البحر

تعتبر سرية أبي عبيدة إلى سيف البحر، استمرارًا لسياسية النبي صلى الله عليه وسلم العسكرية لإضعاف قريش ومحاصرتهم اقتصاديًّا على المدى الطويل، فقد بعث صلى الله عليه وسلم أبا عبيدة بن الجراح في ثلاثمائة راكب قبل الساحل ليرصدوا عيرًا لقريش، وعندما كانوا ببعض الطريق فني الزاد، فأمر أبو عبيدة بأزواد الجيش فجمع فكان قدر مزود تمر، يقوتهم منه كل يوم قليلاً قليلاً، حتى كان أخيرًا نصيب الواحد منهم تمرة واحدة، وقد أدرك الجنود صعوبة الموقف فتقبلوا هذا الإجراء بصدور رحبة دون تذمر أو ضجر، بل إنهم ساهموا في خطة قائدهم التقشفية فصاروا يحاولون الإبقاء على التمرة أكبر وقت ممكن. يقول جابر أحد أفراد هذه السرية: (كنا نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل) وقد سأل وهب بن كيسان جابرًا : ما تغني عنكم تمرة؟ فقال: لقد وجدنا فقدها حين فنيت. 

وقد اضطر ذلك الجيش إلى أكل ورق الشجر، قال جابر: وكنا نضرب بعصينا الخبط ثم نبله بالماء فنأكله (فسمى ذلك الجيش جيش الخبط) ، وقد أثر هذا الموقف في قيس بن سعد بن عبادة رضي الله عنهما أحد جنود هذه السرية الشجاعة وهو رجل من أهل بيت اشتهر بالكرم، فنحر للجيش ثلاث جزائر ثم نحر ثلاث جزائر، ثم نحر ثلاث جزائر، ثم إن أبا عبيدة نهاه. 

فبينما هم كذلك من الجوع والجهد الشديدين إذ زفر البحر زفرة أخرج الله فيها حوتًا ضخمًا، فألقاه على الشاطئ، ويصف لنا جابر بن عبد الله رضي الله عنهما مقدار ضخامة هذا الحوت العجيب فيقول: وانطلقنا على ساحل البحر، فرُفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم فأتيناه فإذا هي دابة تدعى العنبر، قال: قال أبو عبيدة: ميتة، ثم قال: لا بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي سبيل الله، وقد اضطررتم فكلوا، قال: فأقمنا عليها شهرًا، ونحن ثلاثمائة حتى سمَّنا، قال: ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينيه بالقلال الدهن، ونقتطع منه الفدر كالثور، أو قدر الثور، فلقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلا فأقعدهم في وقب عينيه، وأخذ ضلعًا من أضلاعه فأقامها، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها وتزودنا من لحمه وشائق، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما حبسكم؟» قلنا: كنا نتبع عيرات قريش، وذكرنا له من أمر الدابة، فقال: «هو رزق أخرجه الله لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا» قال: فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله. 

سرية عبد الرحمن بن عوف إلى دومة الجندل

كانت هذه السرية قد وجهت إلى أبعد مدى وصلت إليه الجيوش النبوية في الجزيرة العربية، ودومة الجندل قريبة من تخوم الشام، فهي أبعد ثلاثة أضعاف عن المدينة بعدها عن دمشق، وهي تقوم في قلب الصحراء العربية واسطة الصلة بين الروم في أرض الشام والعرب في الجزيرة، وسكانها من قبيلة كلب الكبرى، وقد دخلوا في النصرانية نتيجة جوارهم وتأثرهم بجوار الروم النصارى، وهذه السرية تدخل ضمن مخطط النبي صلى الله عليه وسلم في احتكاكه مع الإمبراطورية الرومانية. 

وأما أمير السرية فهو عبد الرحمن بن عوف أحد العشرة المبشرين بالجنة، ومن رجال الرعيل الأول، فقد كان إحدى الدعائم الكبرى للدعوة الإسلامية منذ دخوله فيها على يد الصديق. 

ومهمة هذه السرية ذات جانبين: مهمة دعوية، ومهمة حربية؛ لذلك انتدب لها عبد الرحمن بن عوف الذي تربى على محض الإسلام منذ أيامه الأولى. 

وعن هذه السرية حدثنا عبد الله بن عمر فقال: دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الرحمن بن عوف فقال: تجهز فإني باعثك في سرية في يومك هذا، أو من غد إن شاء الله، قال ابن عمر: فسمعت ذلك فقلت: لأدخلن فلأصلين مع النبي الغداة، فلأسمعن وصيته لعبد الرحمن بن عوف. 

قال: فغدوت فصليت فإذا أبو بكر وعمر، وناس من المهاجرين فيهم عبد الرحمن بن عوف، وإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قد كان أمره أن يسير من الليل إلى دومة الجندل فيدعوهم إلى الإسلام، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الرحمن: ما خلفك عن أصحابك؟ قال ابن عمر: وقد مضى أصحابه في السحر، فهم معسكرون بالجرف وكانوا سبعمائة رجل، فقال: أحببت يا رسول الله أن يكون آخر عهدي بك وعليّ ثياب سفري. 

قال: وعلى عبد الرحمن بن عوف عمامة قد لفها على رأسه قال ابن عمر: فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فأقعده بين يديه فنقض عمامته بيده، ثم عممه بعمامة سوداء فأرخى بين كتفيه منها، ثم قال: هكذا فاعتم يا ابن عوف.

قال: وعلى ابن عوف السيف متوشحه، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اغزُ باسم الله وفي سبيل الله فقاتل من كفر بالله، لا تغل ولا تغدر ولا تقتل وليدًا، قال ابن عمر: ثم بسط يده، فقال: يا أيها الناس، اتقوا خمسًا قبل أن يحل بكم: ما نقص مكيال قوم إلا أخذهم الله بالسنين ونقص من الثمرات لعلهم يرجعون، وما نكث قوم عهدهم إلا سلط الله عليهم عدوهم، وما منع قوم الزكاة إلا أمسك الله عليهم قطر السماء، ولولا البهائم لم يسقطوا، وما ظهرت الفاحشة في قوم إلا سلط الله عليهم الطاعون، وما حكم قوم بغير آي القرآن إلا ألبسهم الله شيعًا، وأذاق بعضهم بأس بعض. 

قال: فخرج عبد الرحمن حتى لحق أصحابه فسار حتى قدم دومة الجندل، فلما حل بها دعاهم إلى الإسلام فمكث بها ثلاثة أيام يدعوهم إلى الإسلام، وقد كانوا أول ما قدم يعطونه إلا السيف، فلما كان اليوم الثالث أسلم الأصبغ بن عمرو الكلبي، وكان نصرانيًّا وكان رأسهم، فكتب عبد الرحمن إلى النبي صلى الله عليه وسلم يخبره بذلك وبعث رجلاً من جهينة يقال له رافع بن مكيث، وكتب يخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه قد أراد أن يتزوج فيهم، فكتب إليه النبي صلى الله عليه وسلم أن يتزوج بنت الأصبغ تماضر، فتزوجها عبد الرحمن وبنى بها، ثم أقبل بها وهي أم أبي سلمة بن عبد الرحمن بن عوف.

وذكر الواقدي أن هذه السرية في شعبان سنة ست.

إن إسلام سيد بني كلب في دومة الجندل الأصبغ بن عمرو على يد عبد الرحمن بن عوف، يذكرنا بجعفر بن أبي طالب الذي أسلم على يديه النجاشي ملك الحبشة، ومصعب بن عمير بالمدينة حيث استجاب له سادات الأوس والخزرج وزعامتهم للإسلام, وهذه الشخصيات العظمى الثلاثة هم من الرواد الأوائل، ومن المؤسسين في المدرسة الإسلامية الأولى بمكة المكرمة. 

هذا عبد الرحمن بن عوف الذي أصيب بأحد عشر جرحًا أدت بعضها إلى أن يكون عنده عرج من شدتها، يصنع ركائز العقيدة الإسلامية بجيشه المظفر شمال الجزيرة العربية وينضم الكثيرون إلى الإسلام، لتغدو دومة الجندل موقعًا جديدًا من المواقع الإسلامية، في هذه الأطراف المتنامية، فلا غنى للمسلمين عن هذه القلعة، وعن هذه الموقعة للمستقبل القريب في المواجهة مع العرب والروم المناوئين للإسلام. 

وهذه أول مرة يحكم الإسلام خارج حدوده ويتعايش المسلمون والنصارى في دولة واحدة، فالذين أسلموا تطبق عليهم أحكام الإسلام، والذين بقوا على نصرانيتهم تؤخذ منهم الجزية، وكان هذا الانفتاح تدريبًا جديدًا للصحابة على المجتمعات الجديدة التي سينتقلون إليها فيما بعد، وينساحون في العراق والشام وفي قلب فارس والروم، ليعلموا الناس أن العقيدة تنبني من خلال الحوار لا من خلال السيف، وأن مبادئ الإسلام لها قوتها الذاتية التي تشع أنوارها على المجتمعات التي قد انغمست في الظلام البهيم. 

إن زواج عبد الرحمن بن عوف من ابنة سيد بني كلب زعيم دومة الجندل يقوي الروابط بين الزعيم المسلم الجديد بدومة الجندل وبين دولة الإسلام في المدينة، ويربط مصيره بمصير دولة الإسلام، ومصير الإسلام نفسه حين يشعر أن فلذة كبده مقيمة في العرين الإسلامي الذي أصبح يحن له حنينه لأرضه وبلده. 

وقد كان صلى الله عليه وسلم يحرص على أن يتزوج هو وقادته ببنات سادة القبائل؛ لأن ذلك كسبًا كبيرًا لدعوة الإسلام، حيث تكون المصاهرة سببًا في القرب وامتصاص أسباب العداء ثم الدخول في الإسلام. 

إن حركة السرايا والبعوث التي كان يقودها رسول الله صلى الله عليه وسلم ترشد المسلمين إلى أهمية متابعة أخبار الأعداء وجمع المعلومات عنهم، فقد كانت المعلومات تتجمع عند رسول الله صلى الله عليه وسلم من مصادر متعددة عن طريق سراياه الاستطلاعية والمسلمين المتخفين، والمتعاطفين مع المسلمين، المعاهدين، الفراسة واستكشاف ما وراء السطور، المهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يفاجأ بتآمر داخلي أو تهديد خارجي وهذا يجعل المسلمين في عصرنا أمام قضية يجب أن يعطوها كامل الاعتبار، مع ملاحظة الضوابط الشرعية. 

تصفية المحرضين على الدولة

سرية عبد الله بن عتيك لقتل سلام بن أبي الحقيق

كان أبو رافع سلام بن أبي الحقيق من يهود بني النضير كثير التحريض على الدولة الإسلامية حتى إنه جعل لغطفان ومن حولها من قبائل مشركي العرب الجعل العظيم إن هي قامت لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشاع أمر أبي رافع وانتشر، وكان ممن ألب الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأصبح تحريضه على دولة الإسلام من الأخطار التي يجب أن يوضع لها الحد. 

فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أبي رافع اليهودي رجالا من الأنصار فأمر عليهم عبد الله بن عتيك.. وكان أبو رافع في حصن له فلما دنوا منه وقد غربت الشمس وراح الناس بسرحهم. 

قال عبد الله بن عتيك لأصحابه: اجلسوا مكانكم فإني منطلق ومتلطف للبواب لعلي أن أدخل، فأقبل حتى دنا من الباب ثم تقنع بثوبه كأنه يقضي حاجة، وقد دخل الناس، فهتف به البواب: يا عبد الله، إن كنت تريد أن تدخل فادخل فإني أريد أن أغلق الباب، فدخلت، فكمنت فلما دخل الناس أغلق الباب، ثم غلق الأغاليق على وتد. قال ابن عتيك: فقمت إلى الأقاليد فأخذتها ففتحت الباب. 

ولما دخل ابن عتيك ومن معه من أفراد سريته إلى داخل الحصن، وأخذوا ينتظرون الفرصة المناسبة لقتل هذا اليهودي الخبيث أبي رافع. 

وقد جاء في البخاري: أن عبد الله بن عتيك أدرك نفرًا من أصحاب أبي رافع يسمرون عنده، وكان في علالي له فكمن حتى ذهب عنه أهل سمره ثم صعد إليه، وكلما دخل بابًا أغلقه عليه، من الداخل حتى لا يحول أحد بينه وبين تنفيذ العقوبة، بحق أبي رافع، فانتهى إلى أبي رافع فإذا هو في بيت مظلم وسط عياله لا يدري أين هو من البيت، قال ابن عتيك: فقلت: يا أبا رافع. قال: من هذا؟ قال ابن عتيك: فأهويت نحو الصوت فأضربه ضربة بالسيف، وأنا دهش ما أغنيت شيئا. وصاح، فخرجت من البيت، فمكثت غير بعيد ثم دخلت إليه. فقلت: ما هذا الصوت يا أبا رافع؟ قال: لأمك الويل إن رجلاً في البيت ضربني قبل بالسيف. قلت: فأضربه ضربة أثخنته ولم أقتله، ثم وضعت ظبة السيف في بطنه حتى أخذ في ظهره فعرفت أني قتلته. فجعلت أفتح الأبواب بابًا بابًا حتى انتهيت إلى درجة له، فوضعت رجلي وأنا أرى أني قد انتهيت إلى الأرض، فوقعت في ليلة مقمرة فانكسرت ساقي فعصبتها بعمامة، ثم انطلقت حتى جلست على الباب فقلت: لا أخرج الليلة حتى أعلم أقتلته؟ فلما صاح الديك قام الناعي على السور فقال: أنعي أبا رافع تاجر أهل الحجاز، فانطلقت إلى أصحابي فقلت: النجاء، فقد قتل الله أبا رافع, فانتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فحدثته فقال: ابسط رجلك، فبسطت رجلي فمسحها فكأنها لم أشتكها قط.

وقد ذكرت كتب السيرة أن امرأة أبي رافع حينما ضُرب بالسيف صاحت فأراد قتلها ثم كف عن ذلك؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نهاهم عن قتل النساء والصبيان، وأن ابن عتيك كان يرطن بلغة اليهود، وأنه استخدمها مع زوجة أبي رافع اليهودي وأهل بيته. 

ويذكر كتاب السيرة أن سرية ابن عتيك كلها شاركت في ضرب أبي رافع، وأن كل واحد منهم ادَّعى أن ضربته كانت هي القاضية على أبي رافع، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «عجلوا بأسيافكم» فأتوا بأسيافهم فنظروا إليها، ثم قال: «هذا قتله» وهو سيف عبد الله بن أنيس، هذا أثر الطعام في سيف عبد الله بن أنيس. 

فائدة لغة العدو: فقد استطاع عبد الله بن عتيك أن يصعد إلى حصن أبي رافع وأن يخاطب امرأته وأن يدخل بيته مطمئنًا؛ لأنه خاطبه بلغته لغة اليهود في ذلك الوقت، ويؤخذ من ذلك استحباب تعلم لغة غير المسلمين لا سيما الأعداء منهم خاصة لأولئك العسكريين الذين يذهبون لمهمات استطلاعية تجمع أخبار العدو وتزود القيادة بها، والقيادة ترسم. 

شهد العام السادس من الهجرة تصعيدًا عنيفًا في عمليات المواجهة مع العدو، ولا يكاد يمر شهر دون سرية أو سريتين تضرب في الصحراء، وتفض جمعًا أو تحطم عدوًا أو تغتال طاغوتًا، فقد كان شعار المرحلة: الآن نغزوهم ولا يغزوننا، فقد كان حزب الله ينطلق في الآفاق باسم الله، يحمل المبادئ الخالدة، والقيم العليا يقدمها للخلق كافة، ويزيح كل طاغوت يحول دون وصول هذه المبادئ، ونشهد حزب الله في أفراده جميعًا، والذين تلقوا أعلى مستويات التربية الخلقية، والفكرية، والعسكرية، والسياسية، كيف ينفذون هذا المنهج وكيف يكون واقعهم ترجمة عملية وحية لمبادئهم، وكيف يتقدمون ليتصدروا مرحلة جديدة تبدأ معالمها وملامحها مع صلح الحديبية.

 

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين