أسس المدنيَّة في الرسالة المحمديَّة التسامح وعدم التعصُّب

من الأسس التي جاءت بها الرسالة المحمديَّة: التسامح وعدم التعصُّب على المخالفين في الدين والعقيدة، والإسلام دينٌ قام على الطواعية والاختيار، ولم يُرغم النبي صلى الله عليه وسلم ولا خلفاؤه الراشدون أحداً على الدخول في الإسلام، ولم يُضارُّوا أحداً من أهل الكتاب وأشباههم لأنَّه لم يدخل في الإسلام، وكيف يكرهون أحداً على الإسلام؟ وهذا الوحي يصدح بقول الله سبحانه:{لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ} [البقرة:256]. 

وإليك ما ذكره ثقات المفسرين في سبب نزول هذه الآية: 

رُوي أنَّه كان لرجل من الأنصار من بني سالم بن عوف ابنان مُتنصِّران قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم ثم قدما المدينة في نفرٍ من النصارى يحملون الزيت فلزمهما أبوهما وقال: لا أدعكما حتى تسلما، فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وقال: يا رسول الله أيدخل بعضي النار وأنا أنظر، فأنزل الله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ....} فخلى سبيلَهما.

وقال الزهري: سألت زيد بن أسلم عن قوله تعالى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ} قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عشر سنين لا يُكره أحداً في الدين، فأبى المشركون إلا أن يُقاتلوه فاستأذن اللهَ في قتالهم فأذن له، ومعنى: {لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ}أي: دين الإسلام ليس فيه إكراه عليه.

وقال سبحانه: {أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} [يونس:99]، {فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف:29]. وهي نصوص صريحة في عدم الإكراه على الإسلام.

وقد كانت سيرة رسول الله صلى الله عليه وسلم تأييداً لهذا المبدأ الخالد ولهذه السماحة الفائقة، ذكر الثقات من كتاب السيرة أنَّ المسلمين أَسروا في سَريَّة من السرايا سيدَ بني حنيفة وهو ثمامة بن أثال الحنفي، وهم لا يعرفونه فأتَوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فعرفه وأكرمه، وأبقاه عنده ثلاثة أيام، وكان في كل يوم يَعرض عليه الإسلام عرضاً كريماً، فيأبى ويقول: إن تَسأل مالاً تُعْطَه، وإن تَقتلْ تقتلْ ذا دمٍ، وإن تُنعم تنعم على شاكر، فما كان من النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن أطلق سراحه، ولقد استرقَّت قلبُ ثمامة رضي الله عنه هذه السماحة الفائقة، وهذه المعاملة الكريمة فذهب واغتسل، ثم عاد إلى النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً مختاراً وقال له: يا محمد والله ما كان على الأرض من وجه أبغض إليَّ من وجهك، فقد أصبح وجهك أحبَّ الوجوه إليَّ، والله ما كان على الأرض من دين أبغض إليَّ من دينك، فقد أصبح دينك أحبَّ الدين كله إليَّ، والله ما كان من بلد أبغض إليَّ من بلدك فقد أصبح أحب البلاد إليَّ. وقد سُرَّ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بإسلامه سروراً عظيماً، فقد أسلم بإسلامه قوم كثير.

ولم يقفْ أثر هذا التسامح في المعاملة عند إسلام ثمامة رضي الله عنه، بل كان له آثار بعيدة المدى في تاريخ الدعوة الإسلامية، فقد ذهب إلى مكة مُعتمراً فهمَّ أهلها أن يؤذوه، ولكنهم ذكروا حاجتهم إلى حبوب اليمامة، فآلى على نفسه أن لا يُرسل لقريش شيئاً من حبوب اليمامة حتى يؤمنوا، فجهدوا جهداً شديداً، فلم يَروا بداً من الاستغاثة برسول الله صلى الله عليه وسلم. 

ترى ماذا كان من أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم معهم؟ أيدع ثمامة حتى يلجئهم بسبب منع الحبوب عنهم إلى الإيمان؟ لا... لقد عاملهم صلى الله عليه وسلم بما عُرف عنه من التسامح والرحمة بالخلق، فكتب إلى ثمامة أن يخلي بينهم وبين حبوب اليمامة ففعل، فأي سماحة تداني هذه السماحة؟ 

بل امتدَّ أثر دخوله في الإسلام على أساس من الاختيار والرغبة إلى ما بعد حياة النبي صلى الله عليه وسلم ذلك أنه لما ارتدَّ أهل اليمامة ثبت ثمامة ومن اتبعه من قومه على الإسلام، وصار يحذر المرتدين من أتباع مسيلمة ويقول لهم: أتاكم بأمر مظلمٍ لا نور فيه، وإنَّه لشقاء كتبه الله عزَّ وجل على من أخذ به منكم، وبلاء على من لم يأخذ به منكم، ولما لم يجد معهم النصح خرج هو ومن معه من المسلمين وانضموا للعلاء بن الحضرمي مدداً له، فكان ذلك مما فتَّ في عضد المرتدين وألحق بهم الهزيمة. [الإصابة في تاريخ الصحابة، والاستيعاب على هامش الإصابة ج1ص203].

ولما فتح النبي صلى الله عليه وسلم مكَّة ودخلها ظافراً مُنتصراً كان صفوان بن أمية ممن أهدرت دماؤهم لشدة عداوتهم للإسلام والتأليف عليه، فاختفى وأراد أن يذهب ويُلقي نفسه في البحر، فجاء ابن عمه عمير بن وهب الجمحي وقال: يا نبي الله: إنَّ صفوان سيد قومه، وقد هرب ليقذفَ نفسه في البحرِ فأمِّنه فإنك أمَّنت الأحمر والأسود. فقال عليه الصلاة والسلام: أدرك ابنَ عمِّك فهو آمن، فقال: أعطني علامةً فأعطاه عمامته، فأخذها عمير حتى إذا لقي صفوان قال له: فداك أبي وأمي، جئتك من عند أفضل الناس، وأبر الناس، وأحلم الناس، وخير الناس، وهو ابن عمك، وعزُّه عِزُّك، وشرفه شرفك، وملكه ملكك، قال صفوان: إني أخافه على نفسي، قال عمير: هو أحلم من ذلك وأكرم من ذلك، وأراه علامة الأمان وهي العمامة، وقيل بردة. 

فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنَّ هذا يزعم أنَّك أمَّنتني؟ قال: صدق. قال صفوان: أمهلني بالخيار شهرين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أربعة أشهر، وحضر مع النبي صلى الله عليه وسلم حُنيناً، وذلك قبل أن يسلم واستعاره رسول الله سلاحاً، فقال: طوعاً أو كرهاً، فقال صلى الله عليه وسلم: بل طوعاً عاريةٌ مضمونة، فأعاره وأعطاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغنائم يوم حُنين فأكثر، فقال صفوان: أشهد بالله ما طابت بهذا إلا نفسُ نبي، فأسلم وحَسُن إسلامه.

فهل بعد هذه الحجج البيِّنات من القرآن والسنة يتقوَّل مُتقول على الإسلام فيزعم أنه قام على السيف وإلجاء الناس وإكراههم عليه؟! لقد كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذباً، لو أنَّ الإسلام قام على الإكراه كما يزعمون فكيف ترك رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمامة بن أثال الحنفي، ولم يُكرهه على الإسلام، وكان أَسيراً عنده وفي قبضته، بل كيف يطلب منه صفوان بن أمية مهلة شهرين فيعطيه أربعاً، ألا إنها سماحة الإسلام وسماحة رسوله صلى الله عليه وسلم مكَّنت لهذا الدين في قلوب الناس فدخلوه عن طواعية واختيار، وأُشرب حبُّه في قلوبهم فضحَّوا في سبيله بالنفس والأهل والمال والوطن.

وقصة أخرى تدل على غاية التسامح والنبل في معاملة المخالفين في الدين واحترام مُقدَّساتهم، وعدم إيذاء شعورهم: ذلك أنَّ المسلمين قد غنموا في غزوة خيبر عدة صحائف من التوراة فطلب اليهود ردَّها، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بتسليمها إليهم، فأين من هذه السماحة الفائقة، والسمو الإنساني الأصيل ما صنعه الرومان حينما فتحوا (أورشليم) وأحرقوا الكتب المقدسة وداسوها بأرجلهم؟

وما صنعه النصارى في اضطهاد اليهود في الأندلس حينما حرَّقوا صحف التوراة؟!، وما فعله ويفعله المستعمرون في أقطار الإسلام من اضطهاد ديني ممقوت، ومن استهانة بشعور المسلمين، ومحاولاتهم النيل من كتابهم ومقدسات دينهم؟!، بل وما يفعله الصهاينة اليوم من محالات فاشلة لتحريف القرآن الكريم، كتاب الإسلام، وكتاب العربية الأكبر؟!

ثم ماذا يقول المغرضون الأفاكون في وصاة الإسلام بأهل الذمَّة والمعاهَدين وكل من يعيش في بلاد الإسلام من غير المسلمين ؟!

فهذا هو نبي الإسلام صلوات الله وسلامه عليه يقول فيما صحَّ عنه: (إنكم ستفتحون أرضاً يذكر فيها القيراط – يريد إقليم مصر – فاستوصوا بأهلها خيراً، فإنَّ لهم ذمَّةً ورَحِماً، أو قال: ذمَّةً وصِهْرا) رواه مسلم في صحيحه.

ويقول صلى الله عليه وسلم: (من قتل مُعاهداً – يعني بغير حق – لم يرحْ رائحةَ الجنَّة وإن ريحها توجد من مسيرة أربعين عاماً) رواه البخاري في صحيحه.

ويقول صلى الله عليه وسلم: (ألا من ظلم مُعاهداً أو تنقَّصَه، أو كلَّفه فوق طاقته، أو أخذ منه شيئاً بغير طِيب نفس فأنا خصمُه يومَ القيامة) رواه أبو داود والبيهقي في سننهما.

فهذه النصوص تدل دلالة صريحة على وصاة الإسلام بأهل الذمة والمعاهدين وأنَّ الإسلام كفل لكل من يستظلُّ بظله وينطوي تحت لوائه أماناً في نفسه وفي عِرْضه وفي ماله، وأنَّ لهم ما لنا وعليهم ما علينا، وهذا غاية البرِّ والعدل والإحسان.

ويسوقنا هذا الحديث إلى أن نَعرض لتزييف الفرية الكبرى وهي: أنَّ الإسلام قام على السيف والإكراه بأوسع مما ذكرنا وأوفى مما أشرنا، فإلى المقال الآتي إن شاء الله.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.

(مجلة منبر الإسلام، السنة الواحدة والعشرون، صفر 1383 -العدد 2).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين