مختارات من تفسير

السؤال الأول:

لِمَ قدَّمَ مفعولي الفعلين (نعبد) و(نستعين) ؟

الجواب:

قدّم هنا في الآية المفعولين لنعبد ونستعين, وهذا التقديم هو للاختصاص لأنه سبحانه وتعالى وحده له العبادة , لذا لم يقل : نعبدك ونستعينك؛ لأنها لا تدل على التخصيص بالعبادة لله تعالى , أمّا قوله {إِيَّاكَ نَعْبُدُ} فتعني تخصيص العبادة لله تعالى وحده، وكذلك في الاستعانة {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}تكون بالله حصراً وكما في الآية {رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المَصِيرُ} [الممتحنة:4] فكلها مخصوصة لله وحده حصـراً، فالتوكل والإنابة والمرجع كله إليه سبحانه {وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المُؤْمِنُونَ} [إبراهيم:11] .

أمّا قوله تعالى :{قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آَمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [المُلك:29] فإن تقديم الإيمان على الجار والمجرور هنا لأن الإيمان ليس محصوراً بالله وحده فقط، بل علينا الإيمان بالله ورسله وكتبه وملائكته واليوم الآخر والقضاء والقدر, لذا لم تأت (به آمنا) ، أمّا في التوكل فجاءت {وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [المُلك:29] لا (توكلنا عليه) لأنّ التوكل محصور بالله تعالى وحده.

السؤال الثاني:

لماذا كُرِّرت: {إيَّاكَ} مع فعل الاستعانة ولم يقل (إياك نعبد ونستعين)؟ 

الجواب:

التكرار يفيد التنصيص على حصر المستعان به, ولو اقتصرنا على ضمير واحد (إياك نعبد ونستعين) لم يعن المستعان إنما عنى المعبود فقط , ولو اقتصرنا على ضمير واحد لفهم من ذلك أنه لا يتقرب إليه إلا بالجمع بين العبادة والاستعانة, بمعنى أنه لا يعبد بدون استعانة ولا يستعان به بدون عبادة. ويفهم من الاستعانة مع العبادة مجموعة ربط الاستعانة بالعبادة , وهذا غير وارد، وإنما هو سبحانه نعبده على وجه الاستقلال , ونستعين به على وجه الاستقلال . وقد يجتمعان , لذا وجب التكرار في الضمير: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:5] .

والتكرار توكيد في اللغة، وفي التكرار من القوة والتوكيد للاستعانة فيما ليس في الحذف.

السؤال الثالث:

ما دلالة إطلاق فعل الاستعانة وعدم تقييده بشيء معين ؟

الجواب:

أطلق سبحانه فعل الاستعانة ولم يحدد بأن نستعين على شيء معين، أو نستعين على طاعة معينة، أو غيره، إنما أطلقها لتشمل كل شيء، فهي ليست محددة بأمر واحد من أمور الدنيا بل وتشمل كل شيء يريد الإنسان أن يستعين بربه؛ لأن الاستعانة غير مقيدة بأمر محدد.

السؤال الرابع:

ما دلالة استعمال ضمير الجمع: { نَعْبُدُ } { نَسْتَعِينُ}ولم يستعمل ضمير المفرد ؟

الجواب:

لقد عبّر سبحانه عن الاستعانة والعبادة بلفظ ضمير الجمع{نَعْبُدُ} و {نَسْتَعِينُ}وليس بالتعبير المفرد (أعبد) و(أستعين) ، وفي هذا إشارة إلى أهمية الجماعة في الاسلام ,لذا تلزم قراءة هذه السورة في الصلاة , وتلزم أنّ صلاة الجماعة أفضل من صلاة الفرد بسبع وعشرين مرة ,وفيها دليل على أهمية الجماعة عامة في الإسلام مثل الحج وصلاة الجماعة، الزكاة، الجهاد،الأعياد، والصيام, إضافة إلى أنّ المؤمنين إخوة، فلو قال : إياك أعبد؛ لأغفل عبادة إخوته المؤمنين ,ولذلك عندما نقول : إياك نعبد، نذكر كل المؤمنين ويدخل القائل في زمرة المؤمنين أيضاً.

السؤال الخامس:

لماذا قرن العبادة بالاستعانة؟ 

الجواب:

1ـ ليدل على أنّ الإنسان لا يستطيع أن يقوم بعبادة الله إلا بإعانة الله له وتوفيقه، فهو إذن شعار وإعلان أنّ الإنسان لا يستطيع أن يعمل شيئاً إلا بعون الله .

2ـ وهو إقرار بعجز الإنسان عن القيام بالعبادات وعن حمل الأمانة الثقيلة إذا لم يعنه الله تعالى على ذلك، فالاستعانة بالله علاج لغرور الإنسان وكبريائه واعتراف الإنسان بضعفه.

السؤال السادس:

لماذا قدم العبادة على الاستعانة؟

الجواب:

1ـ العبادة هي علة خلق الإنس والجن: {وَمَا خَلَقْتُ الجِنَّ وَالإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات:56] والاستعانة إنما هي وسيلة للعبادة، فالعبادة أولى بالتقديم.

2ـ العبادة هي حق الله، والاستعانة هي مطلب من مطالبه، وحق الله أولى من مطالبه.

السؤال السابع:

تبدأ السورة بـ: [الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ(2) الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ(3) مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ(4) ]. {الفاتحة}.وهذه كلها من أسلوب الغَيبَةِ، أي كلها للغائب، ثم انتقل إلى الخطاب المباشر بقوله: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فلو قسنا على سياق الآيات الأولى لكان أولى القول : (إياه نعبد وإياه نستعين) فلماذا لم يقل سبحانه هذا؟ 

الجواب:

في البلاغة يسمى هذا الانتقال من الغائب للمخاطب أو العكس : الالتفات. وللالتفات فائدة عامة وفائدة في المقام، أمّا الفائدة العامة فهي تطرية لنشاط السامع وتحريك الذهن للإصغاء والانتباه. 

وأمّا الفائدة التي يقتضيها المقام فهي إذا التفت المتكلم البليغ يكون لهذه الالتفاتة فائدة غير العامة نحو قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ} [يونس:22] فيها التفات فلم يقل : وجرين بكم , لأنهم عندما ركبوا في البحر وجرت بهم الفلك أصبحوا غائبين وليسوا مخاطبين.

وعندما قال سبحانه : {الحَمْدُ للهِ رَبِّ العَالَمِينَ} [الفاتحة:2] فهو حاضر دائماً، فنودي بنداء الحاضر المخاطب.

والكلام من أول الفاتحة إلى:{مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} [الفاتحة:4] كله ثناء على الله تعالى، والثناء يكون في الحضور والغيبة , والثناء في الغيبة أصدق وأولى أمّا {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} فهو دعاء , والدعاء في الحضور أولى وأجدى ، إذن الثناء في الغيبة أولى والدعاء في الحضور أولى والعبادة تؤدى في الحاضر وهي أولى.

السؤال الثامن:

هل بالإمكان أن يقال في غير القرآن (وبك نستعين)؟

الجواب:

قوله تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}: الفعل يتعدّى بنفسه (اِستَعَانَهُ) أو يتعدى بحرف الجر (استعانَ به) وهو متعدٍّ في الحالتين استعنتَهُ أو استعنتَ به. وإذا تقدَّمَت (بك نستعين) سيكون معنى الحصر أيضاً في (إياك) وفي (بك) , لكن لماذا فُضّلت (إياك) على (بك)؟ وما الفائدة؟

نلاحظ أنّ الآيات السابقة هي نوع من التربية والتوجيه وليس فيها موضع شَكٍّ، والتأكيد يكون في مواضع الشك، أنت تقول : نجح زيد، إذا كان السامع خالي الذهن، لكن إذا كنت تعلم أنّ لديه بعض الشك في نجاح زيد فتقول له: لقد نجح زيد، فتستعمل مؤكِّدات مثل : إنّ زيداً ناجح، أو إنّ زيداً لناجح , بحسب ما تعتقده من شك في نفسه، فلمّا كان الفعل يتعدّى بنفسه فهذه الباء لم تزده معنى , يعني هي ليست مثلاً للمصاحبة أو الوسيلة كما تقول : كتبت بالقلم، فلما لم تأتِ لزيادةِ معنى فهي للتأكيد. تقول: ليس زيدٌ مسافراً , نفيتَ السفر عن زيد , فإذا أردت التأكيد تقول: ليس زيد بمسافرٍ، وكما في قوله تعالى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } [الزُّمر:36] فهنا فيها تأكيد.

والموضع في آية الفاتحة ليس موضعَ تأكيد , يعني ليس هناك شك في أنّ الله سبحانه وتعالى يعلِّمُ المؤمنين أن يقصروا الاستعانة عليه سبحانه، فلما كان ليس فيها شك لا يستعمل الباء (بك نستعين) فجاءت: {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} لأنه لو جاءت (إياك نعبد وبك نستعين) كأنه يريد أنْ يزيل شكاً بهذا التأكيد والشك هنا غير وارد، بينما قوله تعالى {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ } كان هناك شك وإلا كان يقول: (أليس الله كافياً عبده) فلمّا أكد معناه أراد أن يزيل شكاً في نفوس المتلقِّين وهذه لغة العرب.

هذا شيءٌ، والشيء الثاني لو قال: (إياك نعبد وبك نستعين) تفوتُ هذه المناسبة والملاءمة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} [الفاتحة:] إياك وإياك. وهذه مسألة ثانويةٌ لكنّ المسألة الأساسية ترتبط بالمعنى {وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين