لذة العفو

يقول مولانا جل في علاه في الآية الأربعين من سورة الشورى : وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)، هذه الآية تؤسس لأمرين في حياة المسلمين ، الأمر الأول : إعطاء الحق لمن ظُلم أن ينتصف لنفسه ويأخذ لها بحقها من الناس، الأمر الثاني : العفو عمن ظلمك ، وتلك منزلة عليا ، وذلك مقام عظيم ،قَالوا: ثَلَاثَةٌ مِنْ أَخْلَاقِ أَهْلِ الْجَنَّةِ وَلَا تُوجَدُ إِلَّا فِي الْكَرِيمِ: الْعَفْوُ عَمَّنْ ظَلَمَكَ، وَالْبَذْلُ لِمَنْ حَرَمَكَ، وَالْإِحْسَانُ إِلَى مَنْ أَسَاءَ إِلَيْكَ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف: 199] .

كثيرون أيها الإخوة يقفون في علاقاتهم اليوم عند الفقرة الأولى من الآية : وجزاء سيئة سيئة مثلها ، فيقول لك: هذا حق كفله لي الشرع ، وردي على إساءة غيري لي أحله لي القرآن بنص هذه الآية ، ويتغاضى عن الفقرة الثانية منها : فمن عفا وأصلح ..

نعم هو حق لك ...  أجازه تعالى لمن أسيء إليه أن يرد الإساءة بمثلها، وأن يدفع الشر عن نفسه بما يناسبه من أفعال وأدوات ، ولكن مما يفعل عنه البعض أن هذا  مجرد جواز لا أكثر ، أي أن الأمر ليس واجباً وليس مندوباً، بل هو جائز ، والحالة الأمثل ... والحالة الأكمل ... والحالة الأفضل ... أن تقابل الإساءة بالإحسان ... وتواجه الشر بالخير ... وذاك ما كان ديدن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه والسلف الصالح ... أليس هو القائل يوم فتح مكة لمن حاربوه سنوات طوالاً وآذوه في نفسه وجسده ودعوته : اذهبوا فأنتم الطلقاء ... أليس هو القائل لجبريل وملك الجبال يوم انتظرا منه إشارة إصبع ليطبقا جبلي مكة على أهلها الكفرة الفجرة : اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون .

بل كان يربي أصحابه على خلق التجاوز عن إساءات الناس ، والعفو عمن ظلمهم ، والإحسان إلى من أخطأ في حقهم ، روى الإمام أحمد  عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ : أَنَّ رَجُلاً قَالَ : يَا رَسُولَ اللهِ ، إِنَّ لِي قَرَابَةً أَصِلُهُمْ وَيَقْطَعُونِي ، وَأُحْسِنُ إِلَيْهِمْ وَيُسِيئُونَ إِلَيَّ ، وَأَحْلُمُ عَنْهُمْ وَيَجْهَلُونَ عَلَيَّ . قَالَ : لَئِنْ كُنْتَ كَمَا تَقُولُ ، فَكَأَنَّمَا تُسِفُّهُمْ الْمَلَّ ، وَلاَ يَزَالُ مَعَكَ مِنَ اللهِ ظَهِيرٌ عَلَيْهِمْ ، مَا دُمْتَ عَلَى ذَلِكَ.

كلنا يعاني من أقربائه وذوي رحمه ... ويشتكي من إساءاتهم المتكررة إليه ... ولديه من ذلك ملفات كثيرة ومجلدات ضخام ... لكن كيف تكون أفضل منهم ... وكيف تسمو عليهم وتسبقهم إلى الجنة والمكرمات ؟ بإساءتك مثلهم ؟ لا ... بالعكس تماماً ... على ما يقول المقنع الكندي:

وَإِن الَّذي بَيني وَبَين بَني أَبي=وَبَينَ بَني عَمّي لَمُختَلِفُ جِدّا

أَراهُم إِلى نَصري بِطاءً وَإِن هُمُ=دَعَوني إِلى نَصرٍ أَتيتُهُم شَدّا

فَإِن يَأكُلوا لَحمي وَفَرتُ لحومَهُم=وَإِن يَهدِموا مَجدي بنيتُ لَهُم مَجدا

وَإِن ضَيَّعوا غيبي حَفظتُ غيوبَهُم=وَإِن هُم هَوَوا غَييِّ هَوَيتُ لَهُم رُشدا

وَإِن زَجَروا طَيراً بِنَحسٍ تَمرُّ بي=زَجَرتُ لَهُم طَيراً تَمُرُّ بِهِم سَعدا

وَإِن هَبطوا غوراً لِأَمرٍ يَسؤني=طَلَعتُ لَهُم ما يَسُرُّهُمُ نَجدا

فَإِن قَدحوا لي نارَ زندٍ يَشينُني=قَدَحتُ لَهُم في نار مكرُمةٍ زَندا

وَإِن بادَهوني بِالعَداوَةِ لَم أَكُن=أَبادُهُم إِلّا بِما يَنعَت الرُشدا

وَإِن قَطَعوا مِنّي الأَواصِر ضَلَّةً=وَصَلتُ لَهُم مُنّي المَحَبَّةِ وَالوُدّا

لَهُم جُلُّ مالي إِن تَتابَعَ لي غَنّى=وَإِن قَلَّ مالي لَم أُكَلِّفهُم رِفدا

وَلا أَحمِلُ الحِقدَ القَديمَ عَلَيهِم=وَلَيسَ كَريمُ القَومِ مَن يَحمِلُ الحِقدا

فَذلِكَ دَأبي في الحَياةِ وَدَأبُهُم=سَجيسَ اللَيالي أَو يُزيرونَني اللَحدا

إنها قصيدة تقطر سماحة نفس ، وتزخر بكريم الأخلاق تجاه كل مسيء ، قريباً كان أو غريباً... وعلى هذا ينبغي أن يكون المرء ... متسامحاً ... كريماً ... ذا فضل ... فيغنم في الدنيا ثناء من الناس ... وفي الآخرة جنة ونعيماً .

روى البيهقي والحاكم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسٌ إِذْ رَأَيْنَاهُ ضَحِكَ حَتَّى بَدَتْ ثَنَايَاهُ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي؟ قَالَ: " رَجُلَانِ مِنْ أُمَّتِي جَثَيَا بَيْنَ يَدَيْ رَبِّ الْعِزَّةِ، فَقَالَ أَحَدُهُمَا: يَا رَبِّ خُذْ لِي مَظْلِمَتِي مِنْ أَخِي، فَقَالَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِلطَّالِبِ: فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِأَخِيكِ وَلَمْ يَبْقَ مِنْ حَسَنَاتِهِ شَيْءٌ؟ قَالَ: يَا رَبِّ فَلْيَحْمِلْ مِنْ أَوْزَارِي " قَالَ: وَفَاضَتْ عَيْنَا رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبُكَاءِ، ثُمَّ قَالَ: " إِنَّ ذَاكَ الْيَوْمَ عَظِيمٌ يَحْتَاجُ النَّاسُ أَنْ يُحْمَلَ عَنْهُمْ مِنْ أَوْزَارِهِمْ، فَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِلطَّالِبِ: " ارْفَعْ بَصَرَكَ فَانْظُرْ فِي الْجِنَّانِ فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: يَا رَبِّ أَرَى مَدَائِنَ مِنْ ذَهَبٍ وَقُصُورًا مِنْ ذَهَبً مُكَلَّلَةً بِالُّلؤْلُؤِ لِأَيِّ نَبِيٍّ هَذَا أَوْ لِأَيِّ صِدِّيقٍ هَذَا أَوْ لِأَيِّ شَهِيدٍ هَذَا؟ قَالَ: هَذَا لِمَنْ أَعْطَى الثَّمَنَ، قَالَ: يَا رَبِّ وَمَنْ يَمْلِكُ ذَلِكَ؟ قَالَ: أَنْتَ تَمْلِكُهُ، قَالَ: بِمَاذَا؟ قَالَ: بِعَفْوِكَ عَنْ أَخِيكَ، قَالَ: يَا رَبِّ فَإِنِّي قَدْ عَفَوْتُ عَنْهُ، قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: فَخُذْ بِيَدِ أَخِيكَ فَأَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ " فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عِنْدَ ذَلِكَ: «اتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُصْلِحُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ» قال الحاكم : هَذَا حَدِيثٌ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ ".

فاربأ بنفسك أيها المسلم أن تُسْبق إلى العلا ... أو تُغْلب على الندى ... أو يفضلك أحد في هذا في الورى .

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين