إحضار الصغار في المساجد

قالوا: نرى أئمة ومسؤولين في المساجد يمنعون إحضار الصغار والصغيرات في المساجد صادين إياهم عنها وزاجرين إياهم زجرا شديدا.

قلت: بئسما يصنعون، ففي منعهم منع آبائهم وأمهاتهم من المسجد وقطعهم عن عبادة ربهم في بيت من بيوته، وقد قال تعالى حاضا على الاهتمام بشؤون الأهل والأولاد الدينية: "قوا أنفسكم وأهليكم نارا"، وقال عن إسماعيل عليه السلام: "كان يأمر أهله بالصلاة والزكاة"، وأدخلت مريم عليها السلام في بيت المقدس وهي صغيرة، "وتقبلها ربها بقبول حسن وأنبتها نباتا حسنا وكفلها زكريا".

وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يشجع على حضور الأطفال في المسجد،

قالوا: هل هناك أحاديث في الباب؟

قلت: نعم، وهي كثيرة، قالوا: ائتنا ببعض منها، قلت:

أخرج الإمامان الجليلان البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي قتادة رضي الله عنه، قال: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمامة بنت العاص ابنة زينب بنت الرسول صلى الله عليه وسلم على عاتقه، فإذا ركع وضعها وإذا رفع من السجود أعادها، وفي رواية أخرى عن أبي قتادة رضي الله عنه قال: بينما نحن جلوس في المسجد إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يحمل أمامة بنت أبي العاص بن الربيع، وأمها زينب بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي صبية يحملها، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي على عاتقه يضعها إذا ركع ويعيدها إذا قام، حتى قضى صلاته يفعل ذلك بها (رواه النسائي).

وروى الشيخان البخاري ومسلم أيضا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "إني لأدخل في الصلاة وأنا أريد إطالتها فأسمع بكاء الصبي فأتجوز في صلاتي مما أعلم من شدة وجد أمه من بكائه". وفي رواية لمسلم: قال أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة فيقرأ بالسورة الخفيفة أو بالسورة القصيرة. وفي حديث آخر أن النبي صلى الله عليه وسلم جوز ذات يوم في الفجر -أي خفف- فقيل: يا رسول الله، لم جوزت؟! قال: "سمعت بكاء صبي فظننت أن أمه معنا تصلي فأردت أن أفرغ له أمه". (رواه أحمد بإسناد صحيح).

وعن شداد رضي الله عنه قال: خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشي الظهر أو العصر وهو حامل حسنا أو حسينا، فتقدم النبي صلى الله عليه وسلم فوضعه عند قدمه ثم كبر للصلاة، فصلى، فسجد سجدة أطالها!! قال: فرفعت رأسي من بين الناس، فإذا الصبي على ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد! فرجعت إلى سجودي، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصلاة، قال الناس: يا رسول الله إنك سجدت سجدة أطلتها حتى ظننا أنه قد حدث أمر أو أنه يوحى إليك؟ قال: "كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ارتحلني، فكرهت أن أعجله حتى يقضي حاجته". (رواه النسائي والحاكم وصححه). 

وعن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال: خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأقبل الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما قميصان أحمران يعثران ويقومان، فنزل فأخذهما فصعد بهما المنبر، ثم قال: "صدق الله، إنما أموالكم وأولادكم فتنة، رأيت هذين فلم أصبر"، ثم أخذ في الخطبة (رواه أبو داود)، وفي حديث آخر: كان الرسول صلى الله عليه وسلم يصلي، فإذا سجد وثب الحسن والحسين على ظهره، فإذا منعوهما أشار إليهم أن دعوهما، فلما قضى الصلاة وضعهما في حجره (رواه ابن خزيمة في صحيحه).

وأخرج مسلم عن الربيع بنت معوذ رضي الله عنها قالت: أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قرى الأنصار التي حول المدينة: "من كان أصبح صائما فليتم صومه، ومن كان أصبح مفطرا فليتم بقية يومه" فكنا بعد ذلك نصومه ونصوم صبياننا الصغار منهم إن شاء الله، ونذهب إلى المسجد فنجعل لهم اللعبة من العهن، فإذا بكى أحدهم على الطعام أعطيناها إياه عند الإفطار.

وأخرج الشيخان عن عائشة رضي الله عنها قالت: أعتم رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة من الليالي بصلاة العشاء وهى التي تدعى العتمة، فلم يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قال عمر بن الخطاب: نام النساء والصبيان، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال لأهل المسجد حين خرج عليهم: "ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم "، وذلك قبل أن يفشو الإسلام في الناس.

قالوا: أكد بعض الأئمة والشيوخ عندنا في مساجدنا أن الأطفال لم يكونوا يحضرون المساجد، بل كانت أمهاتم يتركنهم في البيوت، فيبكون ويصرخون، ويبلغ عويلهم النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد فكان يخفف صلاته.

قلت: لم أسمع كلاما أسخف من هذا، فيا له من تأويل بارد ركيك! ويا له من تسفيه للأحلام وتجهيل للعقول! ألم يروا أن الحسن والحسن وأمامة أسباط النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يحضرون المسجد؟ أو لم يقرأوا حديث أم المؤمنين رضي الله عنها إذ ذكرت نوم الصبيان والنساء في المساجد انتظارا لصلاة العشاء.

قالوا: فلعل هذه السنة انقطعت في القرون المتأخرة؟

قلت: لا، بل استمرت، وأكبر شاهد على ذلك تقييد السماعات على الكتب، ففيها ذكر إحضار الصغار والصغيرات إلى مجالس السماع، وقد كانت المجالس تعقد في كثير من المساجد، ويحضرها الأئمة والفقهاء والقضاة، فلو كان حضور الطفل في المسجد منكرا لمنعوا منه.

قالوا: يحتج بعضهم على طرد الأطفال من المساجد بما روي: "جنبوا مساجدكم صبيانكم ومجانينكم".

قلت: هو حديث ضعيف عند العلماء، بل هو منكر، ولا يصح الاستدلال به، قال البزار: لا أصل له، وكذلك قال عبد الحق الإشبيلي، وممن ضعفه الحافظ ابن حجر وابن الجوزي والمنذري والهيثمي وغيرهم.

قالوا: يعتذر بعض الأئمة والمسؤولين بأن الأطفال يشوشون عليهم صلاتهم.

قلت: الأطفال أطفال في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وفي يومنا هذا، كانوا يبكون فلم يحظرهم، بل كان يخفف صلاته من أجلهم، فإذا شوش الأطفال سُنَّ للأئمة أن يخففوا صلاتهم اقتداء بهدي الرسول صلى الله عليه وسلم في تعامله مع الأطفال في المسجد، ولا يجوز لأحد أن يطرد الأطفال من المساجد، قال الله تعالى: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر). وعلينا أن نقتدي برسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن نعوِّد أطفالنا على ارتياد المساجد بدلا من أن ندعهم يضيعون في الأزقة والحارات عرضة لفساد الأخلاق وسوء الرفاق، ويتيهون في المتاهات.

قالوا: ويتعلقون بأن الصغار قد يبولون في المساجد.

قلت: فإذا بالوا فصُبُّوا على البول دلوا من الماء، أخرج الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قام أعرابي فبال في المسجد!! فتناوله الناس، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم: "دعوه، وهريقوا على بوله سجلا من ماء أو ذنوبا من ماء فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين"، وأخرج مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: بينما نحن في المسجد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاء أعرابي فقام يبول في المسجد، فقال: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم مه مه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تزرموه دعوه"، فتركوه حتى بال، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعاه فقال له: "إن هذه المساجد لا تصلح لشيء من هذا البول ولا القذر، إنما هي لذكر الله عز وجل والصلاة وقراءة القرآن" أو كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فأمر رجلا من القوم فجاء بدلو من ماء فشنه عليه.

وقلت: اعتبروا بالمدارس العلمانية، فإنها تشجع الصغار على الالتحاق بها، وتقوم بالتدبيرات اللازمة، واعتبروا أيضا بأصحاب المحلات والمجمعات التجارية والترفيهية إذ يقدمون الهدايا للصغار والصغيرات لجذب آبائهم وأمهاتهم إلى محالهم ومجمعاتهم.

قالوا: فما توصينا؟

قلت: إن المساجد هي المعاهد التي نربي فيها أولادنا على العبادة وصلتهم بربهم، ونعلمهم قراءة القرآن وأحكام الدين والسنن والآداب، فيجب علينا أن نيسِّر حضورهم إليها، ونحببها إليهم بتقديم الحلويات والأطعمة والأشربة والهدايا لهم، ونعلمهم برفق آداب المساجد، أخرج مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إن الرفق لا يكون في شيء إلا زانه ولا ينزع من شيء إلا شانه". وينبغي للمصلين أن يتوددوا للأطفال، ويستحسن للجان العاملة في المساجد والمهتمة بشۆونها أن توفر التسهيلات اللازمة لحضورهم وتعليمهم برفق ولين، وإن رحابة صدورنا هي أفضل طريقة للتعامل مع الصغار بالمحبة والمودة، وأخشى أننا إذا شددنا على الأطفال وطردناهم من المساجد نفَّرناهم منها وكرهناها إليهم أن يغادروها بدون رجعة، فيسروا ولا تعسروا، وبشروا ولا تنفروا.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين