كلمات بلون الثلج: (من لا يرحم لا يُرحم)

يوما بعد يوم تكشف الحضارة المادية عن زيفها ، وفقدانها لأهم شروط الاستمرار والبقاء ، بعد أن جردت أبناءها من المشاعر الإنسانية وأوهنت الروابط الاجتماعية ، و جعلت المادة والربح والخسارة مقاييسها [ فقد جاء في تحقيق استغرق ست سنوات قامت به لجنة فرعية بمجلس النواب الأمريكي ، أن أكثر من مليون مسن ومسنة تتجاوز أعمارهم الخامسة و الستين يتعرضون لإساءات خطيرة! !فيضربون ويعذبون عذابا جسديا و نفسيا ، و تسرق أموالهم من قبل أهلهم ؟!

كما أن هذه الإساءات ليست مقتصرة على طبقة اجتماعية معينة ، بل تحدث في كل طبقات المجتمع الغنية والفقيرة على حد سواء ، وفي المدن الكبيرة والصغيرة والقرى !].

ومن المدهش حقا أن هذه الإساءات لها جذور عميقة في تلك المجتمعات فالذي يساء إليهم – اليوم – لم يكونوا أحسن معاملة لغيرهم! تقول الدكتورة (سوزان ستايمنتر)أستاذة الدراسات الفردية و العائلية بجامعة (ديلاوير) : [ اعتدنا طوال تاريخنا على الإساءة للمسنين ، ويمكن للمرء أن يجد حالات كثيرة في سجلات المحاكم في القرنين السابع عشر و الثامن عشر . إننا نميل للعنف البدني ، و قد أصبح هذا جزءا ثابتا من طبيعة عائلات كثيرة تسيء بالعنف للمسنين و الأطفال].

ويقول ربنا عز وجل في كتابه الحكيم ، دالا ومربيا ومرشدا (وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه و بالوالدين إحسانا ، إما يبلغن عندك الكبر أحدهما أو كلاهما ، فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما ، وقل لهما قولا كريما ، واخفض لهما جناح الذل من الرحمة ، وقل رب ارحمهما كما ربياني صغيرا ).

وقال عليه الصلاة والسلام فيما رواه الإمام مسلم : رغم أنف ، ثم رغم أنف ، ثم رغم أنف من أدرك أبويه عند الكبر ، أحدهما أو كليهما ، ولم يدخل الجنة ). و هذا الإحسان إليهما في حياتهما ، و هو إحسان لا ينقطع بموتهما ، فقد روى أبو داود أن رجلا من بني سلمة قال : يا رسول الله هل بقي من بر أبوي شيء أبرهما به بعد موتهما؟ فقال : (نعم ، الصلاة عليهما ، والاستغفار لهما ، وإنفاذ عهدهما من بعدهما ، وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما ، وإكرام صديقهما ) ، وهو إحسان يتعدى إلى كل من تقد مت به السن فقد رغب رسول الله صلى الله عليه وسلم – الشباب بإكرام الشيوخ وأنهم سيلقون في شيخوختهم من يكرمهم ، جزاء لما قدموه في شبابهم !! وهذه الرحمة تتجاوز الطاعنين من المسلمين لتشمل كل من أقعده العجز وبلغ الشيخوخة ، فقد رأى عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – في السوق شيخا كبيرا يسأل الصدقة فقال له : ما أنت يا شيخ ؟ قال أنا شيخ كبير ، أسأل الجزية والنفقة وكان يهوديا من سكان المدينة . فقال عمر : ما أنصفناك ، يا شيخ . أخذنا منك الجزية شابا ، ثم ضيعناك شيخا ! فمضى به إلى بيته ليعطيه طعاما ، ثم أرسل إلى خازن بيت المال يقول: افرض لهذا وأمثاله ما يغنيه ، ويغني عياله !..

في حضارة الإسلام لا تشمل الرحمة الأقارب فحسب ، و لكنها تشمل الأبعدين أيضا ، وتعم حتى المخالفين في الدين ، لأنها حضارة تحترم إنسانية الإنسان .

وفي حضارة الزيف والطين جفت ينابيع الرحمة ، فلم تعد القسوة مقتصرة على المخالفين في الدين فحسب ، و لا على الأبعدين فحسب . ولكنها امتدت لتشمل الأبوين والأقربين ، وهم في سن أكثر ما يكونون حاجة إلى الرحمة ! وشتان ما بين حضارتين !!

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين