قراءة معاصرة لفروض الكفاية

من المباحث الهامَّة في أصول الفقه مبحث فرض العين وفرض الكفاية (ضمن مباحث الحكم التكليفي).

وفرض العين: هو ما يُطلب فعلُه شرعاً من كل فردٍ من المكلَّفين بعينه، ولا يكتفى فيه بقيام الآخرين به، وذلك كأركان الإسلام الخمس، وبر الوالدين، وصلة الرحم، وإنما سمي عَينياً؛ لأنَّ كل مكلف يتوجَّه إليه بعينه الخطاب، ولا تبرأ ذمَّتُه إلا بفعله، فلو أدته الأمَّةُ كلُّها دونه لما سقط عنه التكليف به.

أما فرض الكفاية: فهو ما يُطلب فعله شرعاً من مجموع المكلفين لا من كل فرد على حدة، وذلك كإنقاذ الغريق، وكسوة العريان، وإطعام الجيعان، والصلاة على الموتى، والإفتاء، وما إلى ذلك من كل واجب يتحقق الغرض منه بقيام بعض المكلفين به، وإنما سمي كفائياً؛ لأنَّه يكفي في حصول المطلوب به قيام بعض المكلفين بفعله دون البعض، ولهذا فإنَّ ذمَّة من لم يفعل هذا الواجب تبرأ بفعل غيره، وإن لم يقم به أحد مُطلقاً فإنَّ الإثم واقعٌ على الجميع.

والقيام بفرض الكفاية قيام بمصلحة عامَّة، والجميع مُطالبون بسدِّها على الجملة، فبعضهم قادر عليها مُباشرة وذلك من كان أهلاً لها، والباقون وإن لم يقدروا عليها فهم قادرون على إقامة القادرين.

وفروض الكفاية منها ما هو ديني ومنها ما هو دنيوي، ونضرب أمثلة لكل من النوعين بألفاظ الفقهاء الأقدمين، ثم نحاول صياغتها صياغة عصرية دون تزيد فيها، رغم أنَّ الأمثلة التي أوردوها ليست إلا على سبيل المثال، وهي ما كان يناسب مجتمعات عصورهم، وبالإمكان أن نضيف إليها قائمة أخرى مما سنجد من حاجات في عصرنا، ولكنه لا يفتح هذا الباب في هذا المقال نظراً لما قد يُثيره من اعتراضات التقليديين الذين ما زالوا يَظنُّون أنَّ الأقدمين كفوا الأجيال المقبلة مؤونة التفكير، نقتصر على مجرد الصياغة العصريَّة، لما ذكره الزركشي والسيوطي وغيرهما:

أ – فمن فروض الكفاية الدينيَّة:

1 – القيام بإقامة الحجج والبراهين القاطعة على إثبات الصانع وما يجب له من الصفات، وما يستحيل عليه، وإثبات النبوات، ودفع الشبه والمشكلات، وتطبيق ذلك في عصرنا يكون مع التجديد في وسائل إقامة الحجج والبراهين وفقاً لمنطق العصر وعلومه – بالتركيز على دفع الشبهات التي تثيرها المذاهب الفكريَّة المعاصرة.

2 – (الاشتغال بعلوم الشرع من تفسير وحديث وفقه والتبحُّر في ذلك) وتطبيق ذلك في عصرنا يكون من مُنطلق تطبيق علوم الشرع على مشكلات الحياة المعاصرة.

3 – (تصنيف الكتب من منحه الله فهماً واطلاعاً) والتطبيق المعاصر لذلك يكون بتصنيف الكتب وفقاً لمخطط يسد الثغرات الناشئة عن توقف الحياة الفكريَّة بسدِّ باب الاجتهاد لعدَّة قرون.

4 – (حفظ القرآن والحديث ونقل السند) وتطبيق ذلك يكون باستخدام مختلف الوسائل العصريَّة في تيسير وصول القرآن والحديث والعلوم الشرعية إلى الناس، بواسطة الموسوعات والمعاجم والفهارس والكشافات والأدمغة الالكترونية ووسائل الاتصال الأخرى.

5 – (الاجتهاد فلو اشتغل بتحصيله واحدٌ سقط الفرض عن الجميع، وإن قصَّر فيه أهل عصر عصرٍ عصَوا بتركه وأشرفوا على خطرٍ عظيم) هذه عبارة الأقدمين، ووضعها موضع التنفيذ يقتضي إقامة مؤسسات الاجتهاد الجماعي، ومؤسسات إعداد المجتهدين مما يكفل ازدهارَ الاجتهاد وأداءه وظيفته.

6 – (تولي الإمامة العظمى) ويكون ذلك بإقامة مؤسسة الإمامة بما يكفل وحدة المسلمين وتعاونهم وتطبيق الشورى.

7 – (الجهاد حيث الكفار مُستقرون في بلادهم، إما إذا ديست أرض الإسلام ففرض عين)، وأرض الإسلام قد ديست في فلسطين وأفغانستان والهند والفلبين وزنجبار والحبشة وغيرها، مما يجعل الجهاد اليوم فرض عين، وعلى الحالين ففرض الجهاد يَقتضي تعميم الإعداد له والتعبئة الشاملة للأمة بما يكفل دفع العدوان عنها، وحماية السلام العادل، والاكتفاء الذاتي في الصناعات الحربية مما يكفل القيام بواجب الإعداد دون اعتماد على غير المسلمين.

8 – (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا يختص بأرباب الولايات) ويعني هذا إقامة مؤسسات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ضمن أنظمة مُتخصصة مُتطوِّرة تكفل تحقيق الوظيفة دون تعسف في الفهم أو إساءة في الممارسة، ومع بقاء دور الأفراد كاملاً غير منقوص، وكفالة وتنظيم قيامهم بهذا الواجب.

9 – (دفع ضرر المحاويج (المحتاجين) من المسلمين من كسوة وطعام إذا لم تندفع بزكاة أو بيت مال، ومثله محاويج أهل الذمَّة، وإغاثة المستغيثين في النائبات)، ويكون ذلك بوضع النظم وإقامة المؤسسات الكفيلة بتأمين ضرورات المعيشة من غذاء وكساء ومسكن وصحة وتعليم مجاناً لغير القادرين، وتنظيم التأمينات الاجتماعيَّة بصورها كافَّة لجميع المواطنين.

- هذه أمثلة لما اعتبروه داخلاً في القسم الديني، وهو كما نرى يشمل الكثير مما نعتبره اليوم من شؤون الدنيا، ولكن هكذا فهم الأقدمون الإسلام نظام حياة شامل ليس قاصراً على مجال العقائد والعبادات وحدَهما كما يُريد أعداء الإسلام أن يمسخوه ويشوِّهوه.

ب – أما القسم الدنيوي من فروض الكفاية:

فمثَّلوا لها (بالحِرَف والصناعات وما به قَوام المعاش كالبيع والشراء والحراثة، وما لابدَّ منه حتى الحجامة والكنس، والاشتغال بالطبِّ والحساب، ولو فرض امتناع الخلق منها أثموا).

والترجمة المعاصرة لذلك تكون:

1 – بتحقيق الاكتفاء الذاتي في جميع المجالات الاقتصاديَّة بدءاً بالضروريات من زراعة وصناعات لمتطلبات الغذاء والملبس والمسكن والصحة والتعليم، بما يكفل الاستقلال الاقتصادي للأمَّة الإسلاميَّة، وتيسير هذه الضروريات مجاناً لغير القادرين وبأسعار مَعقولة للقادرين.

2 – وبإقامة المعاهد التعليميَّة ومؤسسات البحث العلمي، والنظم التدريبيَّة الكفيلة بتقدُّم الأمَّة في جميع المجالات، وتكوين العناصر المتخصِّصة المدرَّبة اللازمة لتغطية هذه المجالات.

3 – وبوضع النظم الكفيلة بتعبئة المدَّخرات والفوائض وتوجهها للاستثمار في هذه المجالات ووضع الحوافز الربحيَّة والضريبيَّة المعينة على ذلك.

4 – وبإقامة المؤسسات الاقتصاديَّة والماليَّة والمصرفية في إطار الشريعة ووفق مبادئها.

إنَّ ضعف الشعور بفرضية فروض الكفاية، وما يظنُّه البعض من أنَّها أقرب إلى النوافل منها إلى الفرائض، أو أنَّ الغير أو الحكومة مُطالبون بها، هو الذي أدَّى إلى إهمالها من الجميع، وضعف الشعور بالإثم العام الذي يقع على الجميع بإهمالها، ولو استيقظ الوعي الفردي والجماعي بأبعاد هذه المسؤولية ومضمونها لأدَّى ذلك إلى وضع المخططات العمليَّة للقيام بأعبائها مع مراعاة الأولويات والضوابط الشرعيَّة.

كتب الإمام الشاطبي - وهو بصدد وضع التصور العملي لممارسة فروض الكفاية - : إنَّ مواهب الناس مختلفة، وقدراتهم في الأمور مُتباينة ومتفاوتة فهذا قد تهيَّأ للعلم، وهذا للإدارة والرئاسة، وذلك للصناعة والزراعة، وهذا للصراع، والواجب أن يُربَّى كل امرئ على ما تهيَّأ له، حتى يبرز كلُّ واحد فيما غلب عليه ومال إليه، وبذلك يربَّى لكلِّ فعل هو فرضُ كفايةٍ قومٌ، ويتبين أنَّ تحقيق الفروض الكفائية واجب على الجميع، وكلٌّ بقدر ما تهيئه له قدرتُه، فللقادر عليه أن يقوم بالعمل بالفعل، وغير القادر عليه أن يُمكِّن القادر، وبذلك يكون تحقق العمل قد وقع من الجميع في الجملة.

إنَّ مثل هذا التخطيط الجماعي، لتحقيق غرض جماعي، ولرفع إثم جماعي، لا يمكن تصوُّره إلا في جماعة موحَّدة الفكر والشعور، وهذا ما نَفتقده في عالمِ الإسلام اليوم، وما يَنبغي أن نحرص عليه كبداية للطريق.

فإيجاد الجماعة الموحَّدة الفكر والشعور والتي يمكن أن تتسع مع الأيام لتصبح تياراً اجتماعياً مُؤثِّراً، هو في حدِّ ذاته واجب كفائي من باب أن (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب).

أما انتظار الحلول الجاهزة من الآخرين أفراداً كانوا أو جماعات أو حكومات، وأما انتظار تعطُّف الآخرين علينا بالمعونات والدعم والقروض والصدقات، فليس من شيمة المسلم قبول الدنيَّة في دينه أو دنياه، كما أننا – من ناحية أخرى – لا يَنبغي أن نغفل أو نتغافل عن الشروط الصريحة أو الضمنيَّة التي تصاحب هذه المعونات، والتي أدَّت إلى ما صار إليه أمر المسلمين من الدوران في فلك الآخرين الذين يعملون أصلاً لمصالحهم، ويسهرون عليها ليل نهار، والله لا يقبل منا إلا أن نكون قوَّامين بالحق في أنفسنا، وشهداء على الناس بالبلاغ والقدوة والريادة، وهو سبحانه لا يُغيِّر ما بقومٍ حتى يغيِّروا ما بأنفسهم.

وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم. 

المصدر: (مجلة المسلم المعاصر، أعداد محرم، صفر وربيع الأول 1408 - العدد 49).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين