حدث في الثالث من شوال وفاة الشاعر ابن قلاقس

في الثالث من شوال عام 567 توفي في ميناء عَيْذَاب على شاطئ البحر الأحمر الغربي، شمالي حدود السودان مع مصر، عن 35 عاماً، الشاعر الكبير المدّاح ابن قَلاقِس، أبو الفتح نصر بن عبد الله، اللخمي الأزهري الإسكندري، الملقب بالقاضي الأعز. وقلاقس نسبة إلى القلقاس نبات مثل البصل الكبير، ولا ندري سبب هذه النسبة ولعله لقب نبز به أحد أجداده.

ولد ابن قلاقس سنة 532 ونشأ بالإسكندرية، وقال الشعر وهو شاب، وكان فيها من تلاميذ مدرسة الحافظ السِلفي؛ الإمام المحدث أبا طاهر السِلفي، أحمد بن محمد ابن سِلفة الأصفهاني، المتوفى بالإسكندرية سنة 576 وقد ناهز أو تجاوز المئة، وسمع منه الحديث الشريف، وكان الحافظ السِّلفي كثيراً ما يثني عليه، ومدحه ابن قلاقس بغرر المدائح:

ومن كان صدرُ الدين أحمدُ شيخَه ... أطال بها باعَيّ يمينٍ ومِقوَلِ

أقام به الله الشريعة فاعتلَت ... دعائمُها فوق السِّماك وتعتلي

يفسر من ألفاظها كل مُبْهَمٍ ... ويفتح من أغلاقها كل مقفل

وما كان لولا أحمدٌ دين أحمدٍ ... ليُدرى صحيحٌ سالمٌ من مُعلَّل

ثم انتقل ابن قلاقس إلى القاهرة، وعمل في ديوان الدولة الفاطمية، وعاشر أمراءها وله فيهم مدائح، ومن مديحه في الوزير شاور:

يا آل شاور أنتمو دون الورى ... للمُلك كالأرواح في أشباحه

وإلى معاليكم إشارة خرسه ... والى أياديكم ثناء فصاحه

ولما تغلب شاور على خصمه رُزَّيك وانتزع منه الوزارة، مدحه ابن قلاقس بقصيدة عصماء منها:

بك الاسلام قد لبس الشبابا ... وكان سناه قد ولى فآبا

وهز الملك عطفيه بملك ... تقلد فهمه، وكفى، ونابا

وقد لبست به الدنيا حلاها ... جلاها حسنُها خودا كعابا

وقالوا: أطول الاملاك باعا ... فقلت: نعم، وأنداهم جنابا

سلوا عنه بني رزيك لما ... أفاد الحرب منهم والحرابا

فان جعلوا الظلام لهم مطيا ... فكم جعل النجوم لهم ركابا

ليهن الملك أن أمسى مصوناً ... عشية راح غيرهم مصابا

وذهب ابن قلاقس إلى بلاد المغرب ومدح صاحبها عبد المؤمن بن علي الكومي مؤسس دولة الموحدين، المولود سنة 487 والمتوفى سنة 558، بقصيدة قوية الأسلوب، قوية المعاني:

عظُمت قيمتُها مذ علقت ... بأمير المؤمنين الأعظم

كعبة المن التي من زارها ... بات في أمن حمام الحرم

قبلة الدين التي حج لها ... خلقه: من كافر أو مسلم

قائد الجيش الذي من راعه ... باسمه قبل التلاقي يُهزم

يا إماما خضع الدهر له ... فأطاعته رقاب الأمم

ولما أوفد نور الدين زنكي جيوشه إلى مصر سنة 558 يقودها أسد الدين شيركوه ثم صلاحُ الدين الأيوبي، مدحَ ابنُ قلاقس صلاح الدين ووزيره القاضي الفاضل عبد الرحيم بن علي العسقلاني، ومما قاله فيه:

بلاغة جرَّت جريرا، ولم ... تدع حطاما بيد ابن الحطيم

رأى به الديوان ديوانه ... مطرزا باسم شريف وسيم

وقال يا عبد الحميد ادَّرع ... من بعد هذا اليوم ثوبَ الذميم

علامةُ السؤدد معروفة ... جسم نحيف وعلاء جسيم

وكعادة الشعراء المحترفين في تلك الأيام، سافر ابن قلاقس شرقاً وغرباً يمدح الأمراء والملوك والوجهاء رغبة في صِلاتهم وعطاياهم، وزار ابن قلاقس صقلية سنة 563، وكان ملكها آنذاك غُلْيلْم الثاني Guglielmo II من سلالة الملوك النورمانديين، وكان أغلب سكانها من المسلمين، فمدح وجهاءهم مثل القائد أبو القاسم ابن الحجر، وصنف فيه ديواناً أسماه الزهر الباسم في أوصاف أبي القاسم، ومدحه بقصائد رنانة يقول في إحداها عن قصيدته:

خَصَّت بني حَجَرِ الياقوت واعتزَلتْ ... قوماً هم الحجَر المرِمىُّ في الطُّرُق

وذكر ابن قلاقس في شعره مدن صقلية، مثل عاصمتها بَلَرم Palermo، ومسيني Messina، وجفلُوذ Cefalu، وسرقوسة Siracusa، وثرمة Termini، فقال يصف مركباً سار به إلى صقلية في ريح هوجاء مخيفة:

وأظل أُنشدُ حين أنشدُ صاحبي ... من ذا يُمسيني على مَسّيني

ثم استقلت بي على عِلاّتِها ... مجنونةٌ سحبت على مجنون

هوجاءُ تُقسِمُ والرياحُ تقودها ... بالنون إنا من طعام النون

حتى إذا ما البحر أبدته الصَبا ... ذا وَجنة بالموج ذات غضون

ألقت به النكباءُ راحة عائثٍ ... قَلبت ظهورَ مُشاهد لبطون

وتكلفت سرقوسة بأماننا ... في ملجأ للخائفين أمين

ومدح مَلِكَها الإفرنجي غُليلم، وليم الثاني، بقصيدة أولها:

يُقِرُّ لغُلْيلْم المليك ابن غليلم ... سليمانُ في مُلك وداودُ في حُكمِ

وتخدمه الأفلاكُ بالسعد في العِدى ... فيسطو بسيف البرق أو حِربة النجم

وما النصر إلا جنده حيث ما مضى ... على جبهات البر أو صفحة اليَمِ

ويقال إن من جملة ما أعطاه على هذه القصيدة مركباً مَملوءاً جُبناً، ولما قدم ابن قلاقس إلى الإسكندرية خرج الناس للسلام عليه، فلما نزل من المركب رآه أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي الصَّلاح فشهق له وقال:

أطلَّ هلال الفاسقين فلا أهلا ... ولا مَرحباً بالقادمين ولا سهلا

ولكن هذا الملك الممدوح، الذي شملت دولته سواحل تونس والجزائر، تآمر مع بعض أنصار الدولة الفاطمية ضد صلاح الدين الأيوبي، وهاجم بأسطوله الإسكندرية بعد بضع سنوات في سنة 569 فدحره السلطان صلاح الدين الأيوبي.

وقد يبالغ ابن قلاقس في الاستجداء وطلب المكافأة، حتى يتجاوز الدرهم والدينار إلى العليق والدقيق!:

يا من رأيتُ انفراجي ... لديه بعد مضيقي

انظر فإني جواد ... أمسى بغير عليق

وقد غلا السعر والشعر حلَّ أكسدَ سوق

فاحمل عليه مغيراً ... بحملة من دقيق

ومع هذا فإنه في بعض قصائده يتظاهر بأنه ما يمدح إلا لصفات الممدوح التي استجلبت المدح، وأن همته فوق التكسب بالشعر، قال يمدح أحد شيوخ العرب:

فيا معالي زِد علاً ... على ممر الحقب

واستمع المدح الذي ... ماصغتُه للسبب

تأبى لي الهمة أن ... أجعل شعري مكسبي

ورحل ابن قلاقس إلى اليمن، ومدح وزيرها أبا الفرج ياسر بن بلال، ورجع من اليمن مثرياً من جوائزه، فغرق المركب بقرب جزيرة دَهْلَك جنوبي غرب البحر الأحمر، وغرقت كتب ابن قلاقس، وقال يصف ذلك: كانت معي كتبٌ كَتَبَ البحرُ عليها المحو، فلا شعر ولا لغة ولا نحو! لم يسلم سوى ديوان شعر ابن الهبارية، بعد أخذه من البلل. ضاع شعري كُلُّه، وانحطَّ عن متن نظري فيه كَلُّه - أي ثقله - فقد كنت لا أخلو من إصلاح فاسد، ومداراة حاسد.

وأسعفه سلطان دهلك مالك بن أبي السداد، وأنزله عنده، ووعده بأن يرسله إلى البر، ويبدو أنه ماطل وسوَّف في ذلك، أو أن ابن قلاقس كان يتعجل السفر، فقد أورد الأستاذ الزركلي في ترجمته المطولة له رسالة كتبها ابن قلاقس إلى أبي بكر العيدي الوزير بعدن، يشكو طول الإقامة بدهلك، ويقول: ولولا أن يعثر القلمُ لجرى وجرّ، وسرى وما سرّ، فقد امتلأت المسامع بسوف، وعلمت المطامع أنها بوادي عوف! وكنت أمنع بيع الشعر في زمن أقل ما يتشارى فيه بالذهب، فصرت أصرفه بالبخس!

وبلغ من كرهه لدهلك وملكها أن فقال فيها:

وأقبح بدهلك من بلدة ... فكل امرىء حَلَّها هالكُ

كفاك دليلاً على أنها ... جحيم وخازنُها مالك

وإزاء هذا الترحال وكثرة الأسفار قال:

الناس كُثرٌ ولكن لا يُقدَّرُ لي ... إلا مصاحبةُ الملاّح والحادي

وهذا البيت من قصيدة كتبها من صقلية لأصحابه بالإسكندرية، يصف فيها عاصفة ألمت بالسفينة التي ركبها فعاد الركاب إلى الله إذ لا ملجأ إلا هو:

لو لم يحرَّم على الأيام إنجادي ... ما واصلَتْ بين اتهامي وانجادي

طوراً أطير مع الحيتان في لجج ... وتارة في الفيافي بين آساد

والناس كُثر ولكن لا يقدر لي ... إلا مصاحبة الملاح والحادي

وما أسيرُ إلى رومٍ ولا عربٍ ... لكنْ لريحٍ وإِبراقٍ وإِرعاد

أقلعتُ والبحر قد لانت شكائمه ... جداً، وأقلع عن موج وإزباد

فعاد لا عاد ذا ريح مدمرة ... كأنها أخت تلك الريح في عاد

وقد رأيت به الأشراط قائمة ... لأن أمواجه تجري كأطواد

ونحن في منزل يسري بساكنه ... فاسمع حديث مقيم بيته غادي

أبيتُ إن بت منه في مصورة ... من ضيق لحج ومن إظلام إلحاد

لا يستقر لنا جنب بمضجعه ... كأن حالاتنا حالات عبَّاد

فكم يُعفر خد غير منعفر ... وكم يخر جبين غير سجاد

حتى كأنَّا وكف النوء يقلقنا ... دراهمٌ قلبتها كفُّ نقاد

فلا تعدُّوا لنا يوم السلامة إن كان السلامة إلا يوم ميلاد

وكان لا بد أن يمدح ابن قلاقس السفر فقال:

سافر إذا حاولت قدرا... سار الهلال فصار بدرا

والماء يكسب ما جرى... طِيباً ويخبُث ما استقرا

وبنقلة الدرر النفيسة ... بُدِّلت بالبحر نحرا

وقال أيضاً:

إن كنت تبغي وَطَرا ... من العُلى فاغتربِ

فالسُمر في غاباتها ... معدودة في القصب

والشمس لا تُرقَبُ في ... المشرق لو لم تغرب

وقال:

إنَّ مُقام المرء في بيته ... مثل مُقام الميت في لحده

فواصِلِ الرحلة نحو الغِنى ... فالسيف لا يقطع في غمده

والنار لا يحرِقُ مشبوبُها ... إلاّ إذا ما طار عن زنده

ومع هذا نظم ابن قلاقس أبياتاً في القناعة منها:

الفكر في الرزق كيف يأتي ... همٌّ به تتعب القلوبُ

وحامل الهم ذو ادعاء ... في علم ما تحجب الغيوب

فإن ألمت بك الرزايا ... أو قرعت نابك الخطوب

فجانب الناس وادْعُ من لا ... تُكشف إلا به الكروب

من يسأل الناس يحرموه ... وسائل الله لا يخيب

وللطبيعة في شعر ابن قلاقس حظ جيد وهو إذا ابتعد عن المحسنات اللفظية يأتي بصور جميلة، ومن بديع شعره في غروب الشمس وظهور الهلال:

لا تظن الظلام قد أخذ الشمسَ وأعطى النهار هذا الهلالا

إنما الشرق اقرض الغربَ دينارا فأعطاه رهنه خلخالا

وله في غياب الشمس في النيل:

أنظر إلى الشمس فوق النيل غاربة ... واعجب لما بعدها من حمرة الشفق

غابت وأبدت شعاعاً منه يخلفها ... كأنما احترقت بالماء في الغرق

وكان ابن قلاقس معجباً بكتاب يتيمة الدهر في محاسن أهل العصر للإمام العلامة أبي منصور عبد الملك بن محمد النيسابوري الثعالبي، وهو أكبر كتبه وأحسنها، فمدحه في عدة مقطوعات منها:

أبياتُ أشعار اليتيمة ... أبكارُ أفكار قديمةْ

ماتوا وعاشت بعدهم ... فلذاك سُميتِ اليتيمة

ولابن قلاقس هجاء شديد نورد عليه مثالاً واحداً يفي بالغرض:

زامُرنا لو شاء إكرامنا ... كان ولو قطِّعَ لم يزمر

باكر بالناي فيا ليته ... باكر بالنأي فلم يحضر

لم ينس ابن قلاقس مصر والإسكندرية أينما حلَّ وحيثما رحل، لا يفتر إليهما حنينه وشوقه، وإلى صحبه وخلانه:

يا إخوتي، ولنا من ودنا نسب ... على تباين آباء وأجداد

متى تنور آفاق المنارة لي ... بكوكب في ظلام الليل وقاد

متى تقر ديار الظاعنين بهم ... والدهر يسعفهم بالماء والزاد

ولم يُجْدِ ما لقيه من إكرام في صقلية في أن ينسيه أهله ودياره، ولذا قال عندما ودع أبا القاسم ابن حجر:

وعليك السلام مني، فاني ... عنك غاد أو رائح أو ساري

شاقني الأهل والديار وذو البعد مُعنَّىً بأهله والديار

وغادر ابنَ قلاقس شبابُه قبل الأوان، وأدركه الشيب في شرخ الشباب، فصار في شعره عجوزاً يتأسف على الماضي، ويشتكي من تصاريف الأيام:

مدت إلى الأربعون يداً وقد قهقرت عشرا

واستحدثت في لمتي ... نقطاً فهلا كنَّ حبرا

كان الشباب الغض ليلا فاستنار الشيب فجرا

ولئن تقلب بي الزمان كما اشتهى: بطنا وظهرا

فبما قتلت صروفه ... وقتلته جَلَداً وخُبراً

غاض الوفاء، وفاض ماء الغدر أنهاراً وغُدراً

فانظر بعينك هل ترى عُرفا، ولست تراه نكراً

خُلُق جرى من آدم ... في نسله، وهلم جرا

ومروعي بالبحر يحـسب أنني أرتاع بحرا

أو ما درى أني بتسهيل المصاعب منه أدرى؟!

وأدركت المنون الشاعر الـمُجيد وهو دون الكهولة ومات بعيداً عن أهله ووطنه في عيذاب، الميناء القفر الحار، معبر أهل مصر إلى الحجاز الذي اندثر اليوم فلا أثر له، ولكن شعره ما زال حياً لم يندثر، يقدم لنا صورة عن شاعر كبير من ذلك العصر وجوانب شخصيته المتعبة التي استراحت عندما ألقت عصا ترحالها الأخير على شاطئ البحر الأحمر.

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين