الساروت أيقونة توحيد للثورة فلا تتفرقوا فيه

كان عبدالباسط الساروت رمزا ثوريا له بصمته التي حاكت الثورة، من عهد السلمية للتسلّح للهجرة القسرية واللجوء للعودة للاعتدال، وحاكتها الثورة من مطالب الحرية لشعارات الهوية للأدلجة الفاقعة فالتهديد بالتطرّف، لكن نفحات الشام المبارك تتداركتها بعليل هوائها وعذب مائها وخصيب ثمارها وزهي أزهارها، لتصفو بعد كدر، وتزكو بعد عارض!

لم يتطرّف الساروت تطرف المناهجة ولا تطرّف الضفادع، وبقي وفيا لثورته، يحمل همّ شعبه حتى في السنة التي اضطر فيها لمغادرة سورية، فكان من خيرة الله له أن جمع له الجهاد بشتى أنواعه، جاهد بكلمته، وبنفسه وبماله وبرباطه وبهجرته وبتحريضه المؤمنين على القتال، وبحضوره الثوري والإعلامي، وكان سليل أسرة عظيمة، سبقه فيها والده وإخوانه الخمسة وأخواله الخمسة إلى طريق الشهادة في سبيل الله، تقبلهم الله، وصبّر ذويهم، وأخلف سورية بهم خيرا.. 

الوفاء للشهداء حق، ونسبة الفضل لأهله وتعريف الناس بهذه الكوكبة المصطفاة واجب، وشهيدنا بما عرفناه عنه مؤمن صادق تليق به الشهادة والاصطفاء، (ويتخذ منكم شهداء)، فلتهنه شهادة شهداء الله في الأرض.. 

نعم وجبت وربّ الشهادة ويستحقها، ولا نزكّيه على الله، فما شهد له اثنان ولا أربعة، بل شهد ملايين السوريين وغيرهم، ومن كل الفئات.. وأثنوا عليه خيرا، وغدا اسمه (ترندا) في مواقع التواصل عابرا للأقطار..

لكن بعضنا تنجرف به هذه العاطفة حدّا متجاوزا! فيخيّل له أنه من ولاء هذه النماذج النادرة التسليم بأنها كانت بصدقها وثباتها تصلح ربّانا لسفينة الثورة في ظلمات بحر لجّي يغشاه موج من فوقه موج من فوقه سحاب! 

أمواج متلاطمة هادرة، وأعاصير تآمر غادرة، ومعركة سياسية وعسكرية واجتماعية وثفافية طويلة بلا أخلاق ولا رادع ولا وازع.. حدّ اليأس والاستسلام، وهيهات!

في هذا الخضم علينا أن نميٌز بين ثابت صادق كأبي ذر الغفاري رضي الله عنه، ما أظلّت السماء، ولا أقلّت الغبراء أصدق لهجة منه، فكان أمة وحده، يعيش وحيدا، ويموت وحيدا، ويبعث يوم القيامة وحيدا، لكنه في الإمارة امرؤ ضعيف، لا يصلح لها، ولا تصلح إلا لمن يأخذها بحقها حزما وعزما وذكاء وعلما وبصيرة وفهما..حتى وإن كان دون أبي ذر صدقا وزهدا وورعا وتقوى!

لا زال فينا من يطربه عذب الألحان، ودويّ الرصاص، ويرقصه شجيّ الكلمات التي تدغدع مشاعره الجياشة، فيفيض أحلاما تنتفخ بخيالاته تصورات غير واقعية! ويقابلهم صنف متطرف آخر، يقعد في برج عاجي لينظّر على المجاهدين العاملين القائمين، لماذا صرّحوا، وفيم انجرفوا!

ومأثورنا الشعبي يقول: من كانت يده في النار ليس كمن يده في الماء.. 

نعم انطلى فكر التطرّف على شعبنا حين خذله العالم له، وهمّ بأن يستعين بمن يحسب أنه يقرّب خلاصه من بشار، لا حبا في داعش والمناهجة، ولكن كراهية ببشار وإيران والروس، وربما همّ الساروت يوما كما صرّح بأن يبحث عن فك لحصار حمص بهذا السبيل، ولكنه بفطرته الإبراهيمية صحٌح وتمايز وفاصل، (فلما تبين له أنه عدو لله تبرأ منه)، وجلس في تركيا بعيدا عن فتنة المناهجة وإكراههم، ثم عاد لجبش الثورة الحرّ.. لم يكن أبو جعفر متطرفا في المقدمة ولا في الخاتمة، وهمّ بغلوّ ثم عصمه الله منه فلم يبايع داعشا، وفي الحديث: (ومن همّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله له عنده حسنة كاملة). فهذه له إن شاء الله لا عليه، فكيف يحكمون؟!

أزمتنا منذ نصبت في طريقنا العوائق هي أزمة تعقّل وواقعية وتخطيط وأناة وتعاون، وسلوك التشبيح والزعرنة الذي اندفع له بعض المندفعين في صلاة الغائب على الشهيد مع الدكتور نصر الحريري يدلّ دلالة واضحة على غوغائية وتطرّف عاطفي، لايخدم وصية الساروت تقبّله الله، في ألا ننسى دم الشهداء!

إشغال الثورة بفساد ذات البين الثورية تهوّر وضياع للبوصلة يسيء للساروت الذي لم يكن متطرّفا يوما، ولم يتوان عن الوقوف في صفّ الثورة مع علوية محترمة كفدوى سليمان، ولا امتنع عن الحضور في قناة تثير الزوابع على الثورة وتسيء لها كأورينت، فهل سيرضى رحمه الله أن تكون جنازته مثارا لهذه الفتنة القميئة في الصف الثوري؟! هلا اختاروا مناسبة أخرى لتشبيحهم إجلالا للمقام والشهيد؟!

وآخرون اندفعوا بعاطفة نحو زاوية الشخصية القيادية التي كان يمكن للثورة أن تلتفّ حولها وتقتحم بها عقبة الشرذمة المزمنة! 

وبالغ الطيبون في عاطفتهم مشحونين بهذا التفاعل الواسع مع حادثة الشهادة المشرّفة، لكن العاطفة المجردة ليست دليلا كافيا لصحة الموقف.. 

فما كل من صلح للحراك الثوري أو القتال العسكري يصلح للتخطيط السياسي أو الإدارة المدنية، وبعض تصورات وأطروحات الشهيد تقبّله الله -على نضجه ورشده- لا تختلف عن تصورات غيره، فهو لا يتفوّق على غيره ببصيرة رؤية ووضوح أهداف، خلا عزيمة وإصرار وصدق، صدق بهم الله فصدقه، وأخلص لقضية الحرية، فكان وفاء الأحرار له حقه..

كان رحمه الله وسيظل بإذن الله أحد النماذج المضيئة في العمل الثوري والعسكري، غير أن هذا لا يعني أنه قائد سياسي، ولا ينقصه، فقد كان الذي تمثّل به وغنى له، و دافع عن ضريحه: خالد بن الوليد رضي الله عنه سيفا لله مسلولا لم يكسر في معركة، ومع هذا لم يتولّ إمارة سياسية قط، والساروت في واحدة من أواخر مقابلاته كان يدرك هذا تماما، ويصرّح بأن جهاده ليس لغرض سياسي..لكن بعضنا لا يستوعب هذا النقاء والتجرّد، ويندب حظّ الثورة أنها لم تولّ مثله سنامها! وهذا من فضل ربي.

لازلنا باندفاعنا العاطفي نحاكم الأمور ونحكم، فنخوّن بعضنا ونندب حظّنا، ونكسّر مجاديفنا ونخرب بيوتنا الثورية بأيدينا، ونحرّق مراكبنا في بحر متلاطم بأنواع التآمر، وما مؤامرة كتآمر بعضنا على بعض، وخذلاننا أنفسنا، وما قوّى عدونا كضعفنا! ولا جمّعه كتبعثرنا!

طريق الثورة طويل وشاق وباتجاه واحد هو سبيل الله في تحقيق الحرية والعدالة التي تجيئ بالحقّ وتزهق الباطل.. (ويومئذ يفرح المؤمنون * بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم * وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون).

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين