ذم علماء السوء

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى..وبعد:

فقد كتب فاضل مقالاً ظريفاً ماتعاً في بيان الحاجة إلى شيخ عالم، وأن كافة الطغاة وولاة الجور يعمدون إلى تأييد ظلمهم بفتاوى من باع دينه بدنيا الطغاة من الشيوخ المنتسبين للعلم، ولا يعدمون على مر الزمان منهم مخذولاً يقرر لهم ما هم عليه من الجور والطغيان. 

وساق الكاتب الفاضل على ذلك من الشواهد والوقائع ما هو كاف في صحة دعواه وتثبيت مبتغاه، عند من رُزق الفهم والإنصاف، ولا يدفعه إلا مكابر ابتلاه الله بالعصبية والاعتساف.

فاعترضه أكاديمي لا يحسن صناعة الكلام، يروم وقد أخطأ نَوْؤُه المحاماة عن الطغاة في ثوب الذب عن أهل العلم، فخلط حقاً بباطل على حد قول العرب: (أطرقي ومِيشي) مصداق ما قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الباطل لا يُنفق إلا بشوب من الحق) فكان كما قيل:

إن الفَزاريَّ لا ينفكُّ مُغتلِما ... من النواكةِ دُهْداراً بدُهدارِ

وقد قال هذا الأكاديمي في جملة ما قال: إن العلماء أشرف مما ذكر الكاتب من أن منهم من شرى دنيا غيره بدينه، فجوّز للطغاة الظلمَ والجورَ بدعوى طاعة ولاة الأمر، لأن الله زكّاهم في كتابه واستأمنهم على دينه، إلى آخر ما قال.

فيقال له: الذي زكّاهم هو الذي ذمّهم في كتابه إذا لم يعملوا بالعلم وخانوا أمانته فلم يقوموا بما أخذه الله عليهم من الميثاق لتبيننه للناس ولا تكتمونه، فضرب لهم مثلاً بالكلب إن تحمل عليه يلهث أو تتركه يلهث، وهو بلعام بن باعورا، وضرب لهم مثلاً آخر بالحمار يحمل العلم ولا يعمل به.

قال الحافظ أبو المظفر السمعاني في (تفسيره): (وهذه أشد آية في حق العلماء، وقلما يخلوا عن أحد هذين عالم من الركون إلى الدنيا ومتابعة الهوى).

وقال تعالى: (لولا ينهاهمُ الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت) قال الفقيه أبو الليث السمرقندي: (وإنما شكا من علماء السوء الذين لا يأمرون بالمعروف ويجالسونـهم ويؤاكلونـهم، وكل عالم لم يأمر بالمعروف ويجالس أهل الظلم والمعصية، فإنه يدخل في هذه الآية). 

وسبب هذا على ما قرره الحافظ ابن رجب في (فضل علم السلف) أن الحامل لهؤلاء العلماء على انتحال مذاهب السوء، شدة محبتهم للدنيا والركون إليها، مع مزيد كبر يتولد عندهم من هذا الحب، حتى أن بعض علماء السوء كان لا يشهد الصلاة في جماعة خشية أن تزاحمه المساكين في الصف، وذكر الشاطبي أن علماء السوء إنما يلحقهم الذم لأجل ما يحدث لهم بعَرَض الدنيا من الكِبر والعُجب وغيرهما.

وقال العلماء والمفسرون في قوله تعالى: (ولو يؤاخذ الله الناس بما كسبوا ما ترك على ظهرها من دابة) قالوا: هي الحشرات والدواب والبهائم يصيبها الجدب بذنوب علماء السوء فيلعنونـهم، حكاه القرطبي وغيره.

قال الطيبي: من تفكر في هذا المثل المضروب في قصة بلعام تحقق له أن حال علماء السوء أسوأ وأقبح من ذلك، وقد قال ابن المبارك:

وهل أفسد الدينَ إلا الملوك ... وأحبارُ سوء ورهبانـُها

وباعوا النفوسَ ولم يربحوا ... ولم تغْلُ في البيع أثمانـُها

لقد رتع القومُ في جيفة ... يبين لذي العقل إنتانـُها

ونقل العلامة ابن الـمبرد في (محض الصواب) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (إن الرجف من كثرة الزنا، وإن قحوط المطر من قضاة السوء، وأئمة الجور).

وذكر أبو عمر الحافظ في (العلم) عن الأوزاعي قال: شكت النواويس ما تجد من نتن جيف الكفار، فأوحى الله إليها: بطون علماء السوء أنتن مما أنتم فيه، وقال مالك بن دينار: بلغني أن ريحاً تكون في آخر الزمان، وظلم، فيفزع الناس إلى علمائهم، فيجدونـهم قد مسخوا، قال ابن القيم: (فالمسخ على صورة القردة والخنازير واقع في هذه الأمة ولا بد، وهو في طائفتين: علماء السوء الكاذبين على الله ورسوله، الذين قلبوا دين الله تعالى وشرعه، فقلب الله تعالى صورهم كما قلبوا دينه، والمجاهرين المتهتكين بالفسق والمحارم، ومن لم يمسخ منهم في الدنيا مسخ في قبره أو يوم القيامة).

وقد كان بعض السلف كمغيرة بن مقسم يتخوف من علماء السوء أشد مما يتخوف من الفساق، 

قال القاضي ابن أبي العز الحنفي رحمه الله: (وأحبار السوء وهم العلماء الخارجون عن الشريعة، يعترضون بآرائهم وأقيستهم الفاسدة، المتضمنة تحليل ما حرّم الله ورسوله، وتحريم ما أباحه، واعتبار ما ألغاه، وإلغاء ما اعتبره، وإطلاق ما قيده، وتقييد ما أطلقه، ونحو ذلك).

ولو كان العلماء ممدوحين بإطلاق كما يوهمه كلام هذا الأكاديمي، لما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن مما يُسأل عنه المرء يوم القيامة قبل أن تزول قدمه، العلم ماذا عمل به؟ وقد قال سفيان بن عيينة: (من فسد من علمائنا ففيه شبه من اليهود، ومن شبه من عبادنا ففيه من النصارى).

وفي أمثال العلماء: (علماء السوء جسور جهنم) قيل إنـهم أخذوه مما رواه ابن المبارك في (الزهد) عن ابن عمر أنه سئل عن شيء فقال: لا أدري، ثم أتبعها فقال: (أتريدون أن تجعلوا ظهورنا لكم جسوراً إلى جهنم أن تقولوا أنبأنا بـهذا ابن عمر).؟

وقال الفضيل بن عياض: (لو كان دخولي على الخليفة كل يوم لكلّمته في علماء السوء، أقول: يا أمير المؤمنين: لا بد للناس من راع، ولا بد للراعي من عالم يشاوره، ولا بد له من قاضٍ ينظر في أحكام المسلمين، وإذا كان لا بد من هذين فلا يأتيك عالم ولا قاضٍ إلا على حمار بأَكافٍ، فبالحري أن يؤدوا إلى الراعي النصيحة، يا أمير المؤمنين: متى تطمع العلماء والقضاة أن يؤدوا إليك النصيحة، ومركب أحدهم بكذا وكذا).

وقال الحافظ الذهبي في (النبلاء): (كان عبد الله بن علي ملكاً جباراً سفّاكا للدماء صعب المراس، ومع هذا فالإمام الأوزاعي يصدعه بـمُرّ الحق كما ترى لا كخلق من علماء السوء الذين يُحسِّنون للأمراء ما يقتحمون به من الظلم والعسف، ويقلبون لهم الباطل حقاً قاتلهم الله أو يسكتون مع القدرة على بيانِ الحق).

وقد كان بعض السلف يشتد في التورع من إعانة السلطان ما لم يعلم أن عونه في حق، لأن الله يقول (ولا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار وما لكم من ناصرين) وحكى أبو طالب في (قوت القلوب) أن سفيان الثوري كان مع المهدي، فكان بيد المهدي درج أبيض وقد أدخل عليه الثوري، فقال له: يا أبا عبد الله أعطني الدواة حتى أكتب، فقال: (أخبرني بأيّ شيء تكتب، فإن كان حقاً أعطيتك وإلا كنتُ عوناً على الظلم).

وقال ابن المسيب: (إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء فهو لص) ويروى مرفوعا بسند ضعيف، وقال بعض الشعراء:

يا معشرَ القراء يا ملحَ البلدْ ... ما يُصلح الملحَ إذا الملحُ فسدْ

وقال آخر:

وراعي الشاة يحمي الذئبَ عنها ... فكيف إذا الرعاةُ لها ذئابُ

ولا ريب أن هذا ليس على إطلاقه وإنما هو في العلماء الذين يزينون الباطل لولاة الجور، ومن كره من السلف الدخول عليهم مطلقا فهو عندهم محمول على أنه حيث لا يأمن على نفسه الميل والركون إليهم فيندفع في محاباتـهم ويسترسل في مجاراة أهوائهم، كما قال ابن مسعود قال: (إن على أبواب السلطان فتنا كمبارك الإبل، والذي نفسي بيده لا تُصيبون من دنياهم شيئا إلا أصابوا من دينكم مثله) أسنده الخطابي في (العزلة).

وإلا فإن الدخول عليهم للإصلاح وإنكار باطلهم وجورهم والسعي في مصالح العامة مطلوب واقع للسف والأئمة، بل لعله من عزائم الأمور كما كان عليه الزهري ورجاء بن حيوة وأبو يوسف القاضي وغيرهم، وصنف العلامة جمال الدين الريمي الشافعي فيه رسالة مفردة أسماها (بـهجة اللطفاء في الرد على من منع دخول العلماء على الأمراء). 

وقد أخبر عليه الصلاة والسلام أن أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه، وأنه من الثلاثة الذين هم أول من تُسعّر بـهم النار يوم القيامة، وأخبر أن العالم الذي يُعلّم الناس الخير وينسى نفسه، كمثل السراج يُضيء للناس ويُحرق نفسه، وأن في جهنم رحى تطحن علماء السوء، وأن من أشراط الساعة فساد العلماء، في أخبار كثيرة يطول باستقصائها المقام، وقد جمعها الحافظ أبو القاسم بن عساكر في جزء مفرد، وللحافظ الرحال أبي الفتيان عمر بن عبد الكريم بن سعدويه الدهستاني المتوفى (503) جزء: (التحذير من علماء السوء).

وأخرج أبو إسماعيل الهروي في (ذم الكلام) عن أبي حفص في قوله {ولا تقولوا لما تصف ألسنتكم الكذب هذا حلال وهذا حرام} قال: نزلت في علماء السوء يفتون الناس برأيهم.

وعند الدارمي مرسلا مرفوعا بسند ضعيف: (ألا إن شر الشر شرارُ العلماء، وإن خير الخير خيار العلماء) والوجه في ذم علماء السوء أنـهم بتأييد الجور والظلم قد انحدروا في درك أسفل من درك الجهال، فإن الجهال لا لوم عليهم في ذلك، وأما العالم فإن معه الآلة التي تحجزه عن الباطل ولم يستعملها أو لم ينتفع بـها، فاستوجب الذم.

وقال الله تعالى: {فخلف من بعدهم خَلْفٌ ورثوا الكتابَ يأخذون عَرَضَ هذا الأدنى} قال ابن المبرد في (حسن التنبه): (هذه الآية في علماء السوء خاصة من أهل الكتاب وهذه الأمة، بدليل قوله: {ألم يؤخذ عليهم ميثاقُ الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون}.

وفي تاريخ ابن عساكر عن سفيان بن عيينة قال: قال المسيح عليه السلام: (ويلكم يا علماء السوء لا تكونوا كالمنخل يخرج منه الدقيق الطيب فيمر ويمسك النخالة، وكذلك أنتم تخرجون الحكمة من أفواهكم ويبقى الغل في صدوركم، ويحكم إن الذي يخوض النهر لا بد أن يصيب ثوبه الماء وإن جهد أن لا يصيبه، كذلك من يحب الدنيا لا ينجو من الخطايا).

وفيه عنه قال: قال عيسى عليه السلام: (يا علماء السوء جعلتم الدنيا على رؤوسكم والآخرة تحت أقدامكم، قولكم شفاء وعملكم داء، مثلكم مثل شجرة الدفلى تعجب من رآها وتقتل من أكلها).

وفي (الإحياء): قال عيسى عليه السلام: (مثل علماء السوء كمثل صخرة وقعت على فم النهر، لا هي تشرب الماء، ولا هي تترك الماء يخلص إلى الزرع، ومثل علماء السوء مثل قناة الحش، ظاهرها جص، وباطنها نتن، ومثل القبور ظاهرها عامر، وباطنها عظام الموتى).

وقال الأوزاعي رحمه الله: شكت النواويس ما تجد من نتن جيف الكفار، فأوحى الله إليها: بطون علماء السوء أنتن مما أنتم فيه.!

ومن كلام الحارث المحاسبي: (علماء السوء شياطين الإنس، وفتنه على الناس، رغبوا في عرض الدنيا ورفعتها وآثروها على الآخرة، وأوّلوا الدينَ للدنيا، فهم في العاجل عار وشين، وفي الآخرة هم الخاسرون، أو يعفو الكريمُ بفضله).

ومن كلام سهل التستري: (علماء السوء أضرُّ على الناس من إبليس، يلبسون الحق بالباطل، ويزيدون الأحكام على وفق الأغراض والأهواء بزيغهم وجدالهم، فمن أطاعهم ضلّ سعيه وهو يحسب أنه يحسن صنعا، فاستعذ بالله منهم واجتنبهم، وكن مع العلماء الصادقين).

وقال السيد ابن الوزير اليماني في (إيثار الحق): (ومما زاد الحق غموضاً وخفاءً، خوف العارفين مع قلتهم من علماء السوء وسلاطين الجور وشياطين الخلق، مع جواز التقيّة عند ذلك بنص القرآن وإجماع أهل الإسلام، وما زال الخوف مانعاً من إظهار الحق، وما برح المحق عدواً لأكثر الخلق).

وكلام العلماء والعارفين كثير في ذم علماء السوء لا تتسع له هذه العجالة، وقد قال بعض الشراح في حديث مسلم: (غير الدجال أخوفني عليكم) أراد به علماء السوء.

وقول الأكاديمي إن ذم علماء السوء وشيوخ ولاة الجور من فعل الخوارج وأهل الأهواء، ينادي عليه بفرط الجهالة بسير السلف والأئمة وأخبارهم التي تواترت عنهم في ذم علماء السوء وشيوخ ولاة الجور، حتى ذموا الدخول في عمل السلطان وقبول جوائزهم، لأنه يحمل العالم على كتمان الحق والسكوت عما يكون من ولاة الجور من الظلم والمنكر، كما تقدم.

ومن عجب انتساب هذا الرجل الأكاديمي لمذهب الإمام أحمد رضي الله عنه الذي هو من أشد الناس في اعتزال ولاة الجور والإنكار عليهم، حتى على المتوكل الذي يقال إنه قمع المعتزلة ونصر السنة، وامتنع من قبول جوائزه، بل كان أحمد يسمي ابن نصر الخزاعي الذي خرج على المأمون فقتله بــ(الشهيد).

وذم أحمد فعل ابن المديني الذي زل بسبب حاجته وفاقته فغيّر حرفاً في حديث لابن أبي دؤاد كي يحتج به على أحمد في خلق القران، حرّفه من قوله: (فكلوه إلى عالمه) فقال: (كلوه إلى خالقه) أي: القران، فلما احتج ابن أبي دؤاد عليه عرف أحمد أنه من عمل ابن المديني فقال:

يا ابن المديني الذي عُرضت له...دنيا فباع دينه لينالها

ماذا دعاكَ إلى انتحال مقالة...قد كنتَ تزعم كافراً من قالها

أمرٌ بدا لكَ رُشدَهُ فتبعتَهُ...أم زهرةَ الدنيا أردتَ نوالها

فلقد عهدتُكَ لا أبا لكَ مرةً...صعبَ المقادةِ للتي تُدعى لها

إِن الحريبَ لـمَنْ يُصاب بدينه...لا من يُرزَّى ناقةً وفِصالها

والحريب: من سُلب مالُهُ، والخبر ثابت وكلام ابن السبكي في دفعه لا موقع له، وقد كان ابن المديني رحمه الله يبكي إذا ذكر فعله ويقول: (من ذا يصبر على ما صبر عليه أحمد، يريدون منا أن نقوم مقام الصديقين) ويذكر أنه إنما زل به من أجل عياله وحاجته، وقد جزم بصحة الخبر السفاريني وغيره.

وقد أنشد الحافظ إسماعيل الترمذي قصيدة بديعة في مدح الإمام أحمد وذم علماء السوء الذين ركنوا إلى ولاة الجور، فقال فيها:

وقُل للأُلى حادوا معاً عن طريقه.. ولم يمكثوا حتى أجابوا وغيَّروا

فلا تأمنوا عُقبى الذي قد أتيتُمُ...فإنّ الذي جئتُم ضلالٌ مُزوَّرُ

فيا علماءَ السوء أينَ عُقولُكُم...وأينَ الحديثُ المسنَد المتَخيَّرُ

ألا إنني أرجو النجاةَ ببُغضِكم...وكل امرئٍ يَشْني الضلالةَ يُؤجرُ

تأسّى بكم قومٌ كثير فأصبحوا...لكم ولهم في كل مصرٍ مُعيّرُ

ويا تسعةً كانوا تسعة صالحٍ...نبيِّ الهدى إذْ ناقةُ اللهِ تُعقَرُ

نَكصتُم على الأعقابِ حينَ امتُحنتُمُ...ولم يكُ فيكُم مَنْ لذلك منكِرُ

كتبتمْ بأيديكمْ حُتوفَ نُفوسكم...فيا سوءَتا مما يخطُّ الـمُقدِّرُ

وأشمتمُ أعداءَ دين محمد...ولم تُضرب الأعناقُ منكمْ وتُنشَرُ

وحكاية ابن المبارك في الإنكار على ابن علية دخوله في عمل السلطان بالبصرة، مشهورة معلومة، حتى إنه قطع عنه ما كان يرسله إليه من الصلة، وكتب له كما حكاه ابن حبان في (روضة العقلاء):

يا جاعلَ العلم له بازياً...يصطاد أموالَ المساكينِ

احتلتَ للدنيا ولذَّاتـها...بحيلة تذهبُ بالدينِ

وصرتَ مجنوناً بـها بعدما ... كنتَ دواءً للمجانينِ

أين رواياتُكَ فيما مضى...عن ابن عونٍ وابن سيرينِ

أين رواياتُكَ في سردها ... في ترك أبواب السلاطينِ

إنْ قلتَ أُكرِهتُ فما كان ذا...زلَّ حمارُ العلم في الطينِ

فلما بلغت هذه الأبياتُ ابنَ عليةَ بكى واستعفى وأنشأ يقول:

أُفٍّ لدنيا أبت تواتيني.....إلا بنقضي لها عرى ديني

عيني لحيني ضمير مقلتها...تطلب ما ساءها لتُرضيني

ومن عجائب الأخبار في تعجيل الله عقوبة علماء السوء بضرب الذلة والهوان عليهم من حيث ابتغوا العزة عند ولاة الجور، ما ذكره العليمي في (تاريخ القدس) أن اليهود سعوا لإِعادة بناء كنيس قديم، لهم فيه اعتقاد بـمرسوم سلطاني، فانتدب قاضيان للسعي معهم في ذلك وأفتيا به لهم، وهما ابن جبيلات والميموني، فأما الأول فإنه تاب ورجع حين سمع وهو في خلوة بالمدرسة الجوهرية، اليهودَ وقد حضروا وجلسوا على باب الخلوة التي هو بـها، وتكلّموا في عودة الكَنيس إليهم، فقال بعضهم لبعض: هذا عيدٌ مباركٌ فما نسمي هذا العيد؟ فقالوا نُسمِّيه (عيد النصر) فوقع هذا في قلب القاضي ابن جبيلات واستغفر من فتياه هذه ورجع عنها.

وأما القاضي الميمونِي فإنه أفتى لليهود بإعادة الكنيس بآلآته القديمة، فشرعوا فِي بنائه في يوم الخميس حادي عشر ربيع الآخر سنة (880ه) فامتنع شهود بيت المقدس من كتابة مُستندٍ بذلك، فكتب الميموني بخطّه ورقةً بالإذن لليهود في ذلك، وأمر بضرب شهود القدس لامتناعهم.! 

وكان بالقدس رجل اسمه إسماعيل البناء تعيّن لبناء الكنيس، فباتَ تلك الليلة فرأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم فقال له: يا إسماعيل أنتَ تُصلي عليّ في كل يوم وليلة، وتبني مكاناً أُسبُّ فيه! فامتنع إسماعيل من بنائها، فوُعِد بِمال فلم يلتفت اليه، وتولّى بناءها من كُتبت عليه الشقاوة. 

وأما الميموني فقد أسكن اللهُ مقته في قلوب العباد، وصار يدعى بـ(قاضي الكنيس) ولم يزل أمره يضمحلُّ وأحواله تتناقص، حتى وقعتْ له محنةٌ في شهر ربيع الآخر سنة (883) بسبب حُكمٍ حكم به في أيام قاضي القضاة الديري من مدة تقرب من عشرين سنة قبل هذه الواقعة، فأحضرهُ السلطان بين يديه وضربه ضرباً مؤلماً في الموضع الذي ضرب هو فيه شهود القدس، ووضعه في زنجير وسلمه للوالي الذي كان تسلم أهل بيت المقدس، وأمر بإخراجه إلى حلب بعد أن كتب عليه أنه لا يعمل قاضياً ولا شاهداً، وعزله عزلاً مُؤبّداً.

ومن عجائب الوقائع الدالة على تعجيل الرب جل جلاله بعقوبة علماء السوء المتقربين إلى ولاة الجور بما يرضيهم ويسخط الله، ما حكاه الشيخ أحمد محمد شاكر في (كلمة الحق): كان الشيخ طه حسين طالبا بالجامعة المصرية القديمة حين كانت متشرفة برياسة سمو الأمير فؤاد حضرة صاحب الجلالة الملك فؤاد رحمه الله، وتقرّر إرساله في بعثة إلى أوربا، فأراد صاحب العظمة السلطان حسين رحمه الله أن يُكرمه بعطفه ورعايته، فاستقبله في قصره استقبالا كريما، وحباه هدية قيمة المغزى والمعنى، وكان من خطباء المساجد التابعين لوزارة الأوقاف، خطيب فصيح متكلم مقتدر، هو الشيخ محمد المهدي خطيب مسجد غربان، وكان السلطان حسين رحمه الله مواظبا على صلاة الجمعة في حفل فخم جليل، يحضره العلماء والوزراء والكبراء، فصلى الجمعه يوما ما، بمسجد المدبولي القريب من قصر عابدين العامر، وندبت وزارة الأوقاف ذلك الخطيب لذلك اليوم، وأراد الخطيبُ أن يمدح عظمة السلطان، وأن يُنوّه بما أكرم الشيخ طه حسين وحُق له أن يفعل، ولكن خانته فصاحته، وغلبه حب التغالي في المدح، فزلَ زَلّةً لم تقم له قائمةٌ من بعدها، إذ قال أثناء خطبته: جاءه الأعمى، فما عبس في وجهه وما تولى.

فمدحه بما يُوهم السامع أنه يريد إظهارَ منقبة لعظمته، بالقياس إلى ما عاتب الله عليه رسوله، واستغفر من حكاية هذا، فكان صُنع الخطيب المسكين تعريضا برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرضى به مسلم، وفي مقدمة من ينكره السلطان نفسه.

ثم ذهب الوالد رحمه الله فوراً إلى قصر عابدين العامر، وقابل محمود شكري باشا، وهو صديق له حميم، وكان رئيسَ الديوان إذ ذاك، وطلب منه أن يرفع الأمرَ إلى عظمة السلطان، وأن يُبلغه حكمَ الشرع في هذا بوجوب إعادة الصلاة التي بطلتْ بكُفر الخطيب، ولم يتردد شكري باشا في قبول ما حُمِّل من الأمانة، واعتقد أن عظمة السلطان لم يتردد في قبول حكم الشرع بإعادة الصلاة.

ولكن الله لم يدع لهذا المجرم جُرمه في الدنيا، قبل أن يجزيه جزاءه في الأخرى، فأُقسمُ بالله، لقد رأيته بعيني رأسي، بعد بضع سنين، وبعد أن كان عاليا متنفخا، مستعزاً بمن لاذَ بـهم من العظماء والكبراء، رأيته مهينا خادما على باب مسجد من مساجد القاهرة يتلقى نعال المصلين يحفظها في ذلة وصَغار.

ونظير هذا المقام الجليل الذي قامه العلامة شاكر رحمه الله، ما وقع للفقيه الشيخ عمر مولود الديبكي البغدادي الحنفي، فإنه كان جالسا عند وزير الأوقاف عبد الله فاضل، فاتصل بالوزير بعض أعيان الدولة يطلب منه نسخة من المصحف الذي طبع على نفقة الرئيس صدام حسين، فقال فاضل له: غالي والطلب رخيص.!

فانتفض العلامة الديبكي وجهر بوجه الوزير فاضل منكراً كلامه، ومما قاله له: إن كتاب الله ليس برخيص فالله يقول: (وإنه لكتاب عزيز) ويقول: (إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا) ولولا أنا نعذرك بالغفلة والجهل لقضينا بكفرك، فاعتذر له الوزير والحاضرون وما زالوا به حتى سكن.

ثم سلك الأكاديمي مسلك التعمية فزعم أنه يتبرأ من علماء السوء وأن اعتراضه إنما هو على التعميم والوقت الذي لا ينبغي في مثله هذا الكلام في العلماء، وهو اعتذار قبيح للغاية، فأما التعميم فإنه يرى بعينه قصر صاحب المقال الذمَّ على علماء السوء من شيوخ ولاة الجور، فدعواه التعميم كذب ظاهر.

وأما الوقت فلا يخلو علماء السوء عنده أن يكونوا مذمومين أو ممدوحين؟ فعلى الثاني فهو شريكهم في الإثم فهنيئاً له، وعلى الأول فقد ذمهم الله مطلقاً ولم يستثنِ وقتاً دون وقت، فتخصيصه الكلامَ في ذم علماء السوء في وقت دون آخر، باطل لأنه تحكّم لا دليل عليه إلا الهوى وتزيين الباطل، ثم متى بالله يُجهر بذم علماء السوء والتنفير عنهم إن لم يُجهر به في هذا الوقت الذي اجتهدوا فيه وانتدبوا لتأييد الظلم والباطل.؟!

ثم ذكر كلاماً يُنبئ عن هوى في قلبه بموالاة الطغاة وولاة الجور، فزعم أن هذا الكلام الذي هو ذم علماء وشيوخ ولاة الجور من وظائف الدول الداعمة للإرهاب، فلم يكتف المسكين بالذب عن الطغاة وشيوخهم شيوخ السوء، حتى انتدب للمحاماة عن دول الكفر والجور كأمريكا وحلفائها اللاهجين بمصطلح الإرهاب الذي لم يتفقوا إلى الساعة على تعريفه وحدِّه، وتركوه مصطلحاً عاماً موهماً بغرض إلصاقة بمن يريدون من أهل الخير والحق من الدعاة والعلماء.!

فاستعماله إياه بـهذا المعنى الذي يرومه جهل وتقليد قبيح منه لهؤلاء الساسة والطغاة، وقد علم الناس أنه حق أريد به باطل، ولهذا دخل الأكاديمي المردود عليه نفس جحرهم الذي سلكوه فألصق تـهمةَ الإرهاب بالجماعات الإسلامية الداعية إلى الخير، فتأمل كيف سلم منه الكفار والروافض والطغاة، ولم يسلم منه إخوانه المسلمون.!

وقد ذكر العماد ابن كثير عن القاضي إياس الذكي أن رجلاً نال في مجلسه من آخر، فقال له إياس: أغزوتَ الرومَ والتركَ والديلمَ؟ فقال: لا، فقال إياس: فيسلم منك الرومُ والتركُ والديلمُ، ولا يسلم منك أخوك المسلم.؟!

ثم زعم أن من يكتب أو ينشر مثل هذا المقال الذي يفتضح به علماء السوء فقد عرّض نفسه وعِرضه للّمز والقدح، وأنه يجب منعه من النشر للدفاع عمن سماهم (علماؤنا) وهذا جهل أو تجاهل منه لإقرار الباطل، فأين هو عن إنكار طوائف من علماء السلف على بعضهم في الدخول على الأمراء ومخالطتهم، مثل كتاب أبي سلمة حازم بن دينار للزهري، وكتاب الأوزاعي لابن ثوبان، وكتاب العمري الزاهد وابن أبي ذئب لمالك، وكتاب ابن المبارك لابن علية، وكلام حاتم الأصم مع ابن مقاتل والطنافسي، وغير ذلك وهو كثير عن السلف، فإن كان يجهله فقد تكلم فيما لا علم له به، وإن كان يعلمه فقد رام تغطية الشمس بغربال، والتعمية على وجه الحق بالاحتيال، فكل هؤلاء السلف عندك ممن عرّض عِرضه للقدح.؟! 

وقد البيهقي في (الدلائل) عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أحبار يهود كانت لهم مآكل تطعمهم إياها السفلة لقيامهم على التوراة، فخافوا أن تؤمن السفلة بمحمد صلى الله عليه وسلم فتنقطع تلك المآكل عنهم، فغيّروا صفته في كتابـهم.

وفي رواية ابن جرير أنـهم كتبوا كتاباً بأيديهم ثم قالوا: هذا من عند الله، قال ابن المبرد: وفيه إشارة إلى أن زيف علماء السوء إنما يروج على رعاع الناس وضعفاء العقول دون ذوي العقول وأولي الألباب، فتأمل.

ولو أن العلماء استقاموا فقاموا بواجبهم في ردع ولاة الجور وإرشادهم إلى ما به قيام العدل والانتصاف للمظلومين، ما استأخر النصر وعدم الرخاء، ومن عجب تكلف طلب النصر والرخاء والجور بباب الولاة فاش بتأييد علماء السوء، وما أجود ما قال العلامة الحريري:

تروم ولاةُ الجور نصراً على العِدى...وهيهاتَ يلقى النصرَ غير مُصِيبِ

وكيف يروم النصرَ من كان خَلْفَهُ ..... سِهامُ دُعٍاء عن قِسيِّ قلوبِ

ومن عجيب حال نظراء هذا الأكاديمي الذي انتدب للمحاماة عن العلماء الذين يقرون جور الولاة ويغضون عنه ولا ينكرونه بل يجادلون عنه، ازدراؤهم لأهل العلم القائمين برد الجور والباطل، بحيث يرونـهم بلا عقل ويرمونـهم بالجهالة بالواقع، من حيث يخلعون العقل والكياسة على أنفسهم، والأمر كما قال الكميت:

أبَتْ أمُّ دينارٍ فأصبحَ فَرْجُها ........ حَصاناً وقُلّدتمْ قلائدَ قَوْزعَا

خذوا العقلَ إنْ أعطاكم العقلَ قومُكُمْ...وكونوا كمن سِيمَ الهوانَ فأَرْتعَا

ولا تُكثروا فيه الضَّجَاجَ فإنهُ ... مَـحَا السيفُ ما قال ابنُ دَارةَ أجمعَا

والواقع أن هذا نوع غرور ركب هؤلاء دون شعور منهم، فلَجَّ بـهم وأحرضهم حتى كان الواحد منهم عن الحق أتيه من فقيد ثقيف، فإن مظاهرة الجور وأهله تستوجب الحرمان بحيث يلحق صاحبها رينٌ يرى به الباطل حقا، ولا عاصم إلا الله. 

ولهذا تجد من علماء السوء هؤلاء الذين انتدبوا للمحاماة عن ولاة الجور، من يأنف من موعظته وتذكيره بما هو عليه من مظاهرة الظلم وأهله، لما ركبه من زهو وبـهرج السلطان، وقد قال معاذ بن جبل رضي الله عنه وذكر علماء السوء: (من إِذا وَعَظَ عَنَّف، وإذا وُعِظَ أَنِف، فذاك في أول درك من النار).

وقال ابن مسعود رضي الله عنه: (سيأتي على الناس زمان يملح فيه عذوبة القلوب فلا ينتفع بالعلم يومئذ عالـمُهُ ولا مُتعلِّمُهُ، فتكون قلوب علمائهم مثل السِّباخ من ذوات الملح، ينزل عليها قطرُ السماء فلا يوجد لها عذوبة).

وما أجود ما قال ابن القيم رحمه الله في (فوائده): (علماء السوء جلسوا على باب الجنة يدعون إليها الناس بأقوالهم، ويدعونـهم إلى النار بأفعالهم، فكلما قالت أقوالُهم للناس: هلموا، قالت أفعالُهم: لا تسمعوا منهم، فلو كان ما دعوا إليه حقا كانوا أول الـمُستجيبين له، فهم في الصور أدلاء وفي الحقيقة قطاعُ طريق) وما أصدق ما قال الشاعر في عالم السوء ممن يزين جور الولاة والطغاة:

وأنت كجرو الذئب ليس بآلف ... أبى الذئب إلا أن يخون ويظلما

وليُعلم أن هذا الذم الوارد في الشرع، مقصور على من وصفنا من علماء السوء، فليس ينبغي التذرع به للطعن على عامة علماء الشريعة الذين هم أولياء الله وخاصته من خلقه، وأمناؤه على وحيه، وخلفاء أنبيائه ورسله، كما يحاوله عبثا بعض غلاة العلمانيين بقصد تشكيك العامة بأهل العلم كي ينفروا عنهم يستأثروا هم بـهم استكثاراً وغلبة من حيث عجزوا عن إقناعهم بالحجة، وقد عُلم أن للعلماء من الحرمة والشرف بشرف ما تحملوه من أمانات علوم الإسلام، ما يستوجب الطعن على من تنقص من مقامهم، واستطال في أعراضهم، فإن لحومهم مسمومة، وسنة الله في منتقصهم معلومة.

كيف وفي (الصحيح) عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: (من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب) وقد قال الإمام أحمد: (لحوم العلماء مسمومة، من شمَّها مرض، ومن أكلها مات) وحكى مخلد قال: حدثنا بعض أصحابنا قال: ذكرت يوما عند الحسن، ابنَ ذكوان بشيء، فقال: (مَهْ، لا تذكر العلماء بشيء، فيميت الله قلبك) وحكى الحافظ في (الدرر الكامنة) أن الجمال الريمي كان يقع في الإمام النووي، فقال الجمال المصري إنه شاهده عند وفاته وقد اندلع لسانه واسودَّ، فكانوا يرون أن ذلك بسبب كثرة وقيعته في النووي.

وقال الإمام الحافظ أبو العباس الحسن بن سفيان لمن أثقل عليه: (ما هذا؟! قد احتملتك وأنا ابن تسعين سنة، فاتق الله في المشايخ، فربما استجيبت فيك دعوة) وقال الإمام أحمد بن الأذرعي: (الوقيعة في أهل العلم ولا سيما أكابرهم من كبائر الذنوب) وقد بينا فضل العلم وشرف أهله في جزء (تعظيم قدر العلم) وبالله تعالى التوفيق.

والحمد لله رب العالمين

وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين