فقه السيرة (48) غزوة بني المصطلق

 تاريخ الغزوة وأسبابها 

 بنو المصطلق  هم بطن من خزاعة ،والمصطلق جدهم ، وهو جذيمة بن سعد بن عمرو بن ربيعة بن حارثة بن عمرو بن عامر ماء السماء. 

   اختلف العلماء في تاريخ الغزوة والراجح أنها كانت قبل غزوة بني قريظة  التي كانت في ذي القعدة من السنة الخامسة لحضور سعد بن معاذ فيها .

   و من أهم الأسباب لهذه الغزوة:

أ- تأييد هذه القبيلة لقريش واشتراكها معها في معركة أحد ضد المسلمين، ضمن كتلة الأحابيش التي اشتركت في المعركة تأييدًا لقريش. 

ب- سيطرة هذه القبيلة على الخط الرئيسي المؤدي إلى مكة، فكانت حاجزًا منيعًا من نفوذ المسلمين إلى مكة. 

ج- أن الرسول صلى الله عليه وسلم بلغه أن بني المصطلق يجمعون له، وكان قائدهم الحارث بن أبي ضرار ينظم جموعهم، فلما سمع بهم خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له: المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فهزمهم شر هزيمة. 

أحداث غزوة بني المصطلق 

عندما شعر رسول الله صلى الله عليه وسلم بحركة بني المصطلق المريبة أرسل بريدة بن الحصيب الأسلمي للتأكد من نيتهم، وأظهر لهم بريدة أنه جاء لعونهم فتأكد من قصدهم، فأخبر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك. 

وفي يوم الاثنين لليلتين خلتا من شهر شعبان من السنة الخامسة للهجرة خرج الرسول صلى الله عليه وسلم من المدينة في سبعمائة مقاتل وثلاثين فارسًا متوجهًا إلى بني المصطلق، ولما كان بنو المصطلق ممن بلغتهم دعوة الإسلام، واشتركوا مع الكفار في غزوة أحد، وكانوا يجمعون الجموع لحرب المسلمين، فقد روى البخاري ومسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أغار عليهم وهم غارون -أي غافلون- وأنعامهم تُسقى على الماء، فقتل مقاتلهم وسبى ذراريهم، وأصاب يومئذ جويرية بنت الحارث .  

زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من جويرية بنت الحارث .

قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق، وكان من بين الأسرى جويرية بنت الحارث، وكانت بركة على قومها ولنسمع قصتها من السيدة عائشة رضي الله عنها حيث قالت: (لما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم سبايا بني المصطلق وقعت جويرية بنت الحارث في سهم لثابت بن قيس بن شماس، أو لابن عم له، فكاتبته على نفسها وكانت امرأة حلوة ملحة لا يراها أحد إلا أخذت بنفسه، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم لتستعينه في كتابتها. 

قالت: فوالله ما هو أن رأيتها على باب حجرتي فكرهتها، وعرفت أنه سيرى منها ما رأيت، فدخلتْ عليه فقالت: يا رسول الله أنا جويرية بنت الحارث بن أبي ضرار سيد قومه، وقد أصابني من البلاء ما لا يخفى عليك، فوقعت في السهم لثابت بن قيس بن شماس أو -لابن عم له- فكاتبته على نفسي فجئتك أستعينك على كتابتي. قال: «فهل لك في خير من ذلك؟». 

قالت: وما هو يا رسول الله؟ قال: «أقض عنك كتابك وأتزوجك». قالت: نعم يا رسول الله، قد فعلت. قالت: وخرج الخبر إلى الناس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تزوج جويرية بنت الحارث. فقال الناس: أصهار رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسلوا ما بأيديهم. قالت: فلقد أعتق بتزويجه إياها مائة أهل بيت من بني المصطلق، فما أعلم امرأة أعظم بركة على قومها منها. وجاء الحارث بن أبي ضرار بعد الوقعة، بفداء ابنته، إلى المدينة، فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام فأسلم. 

تعتبر غزوة المريسيع من الغزوات الفريدة المباركة التي أسلمت عقبها قبيلة بأسرها، وكان الحدث الذي أسلمت القبيلة من أجله هو أن الصحابة حرروا وردوا الأسرى الذين أصابوهم إلى ذويهم بعد أن تملكوهم باليمين في قسم الغنائم، واستكثروا على أنفسهم أن يتملكوا أصهار نبيهم عليه الصلاة والسلام، وحيال هذا العتق الجماعي، وإزاء هذه الأريحية الفذة، دخلت القبيلة كلها في دين الله. 

إن مرد هذا الحدث التاريخي وسببه البعيد، هو حب الصحابة للنبي صلى الله عليه وسلم وتكريمهم إياه، وإكبارهم شخصه العظيم، وكذلك يؤتي الحب النبوي هذه الثمار الطيبة، ويصنع هذه المآثر الفريدة في التاريخ. 

لقد كان زواج رسول الله صلى الله عليه وسلم من جويرية بنت الحارث له أبعاده، وتحققت تلك الأبعاد بإسلام قومها، فقد كان الزواج منها من أهدافه الطمع في إسلام قومها، وبذلك يكثر سواد المسلمين، ويعز الإسلام، وهذه مصلحة إسلامية بعيدة يسر الله هذا الزواج، وباركه، وحقق الأمل البعيد المنشود من ورائه، فأسلمت القبيلة كلها بإسلام جويرية، وإسلام أبيها الحارث، فقد عاد هذا الزواج على المسلمين بالبركة والقوة، والدعم المادي والأدبي معًا للإسلام والمسلمين. 

  أصبحت جويرية بنت الحارث زوجة لسيد المرسلين وأمًّا للمؤمنين، فكانت رضي الله عنها عالمة بما تسمع، وعاملة بما تعلم، فقيهة عابدة، تقية ورعة، نقية الفؤاد مضيئة العقل، مشرقة الروح، تحب الله ورسوله، وتحب الخير للمسلمين. 

  وكانت رضي الله عنها تروي من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ناقلة لحقائق الدين من خزائنها عند من تنزلت عليه صلى الله عليه وسلم، يرويه عنها سدنة العلم من علماء الصحابة رضي الله عنهم، لينشروه في المجتمع المسلم علمًا وعملاً، وفي عامة المجتمع الإنساني دعوة وهداية .

وكانت أم المؤمنين جويرية بنت الحارث -رضي الله عنها- من الذاكرين الله كثيرًا والذاكرات والقانتات الصابرات في مجال مناجاة الله تعالى وتحميده وتقديسه وتسبيحه فهذه أم المؤمنين جويرية تحدثنا عن ذلك فتقول: إن النبي صلى الله عليه وسلم خرج من عندها بكرة حين صلى الصبح وهي في مسجدها ثم رجع بعد أن أضحى وهي جالسة، فقال: «ما زلت على الحال التي فارقتُكِ عليها؟» قالت: نعم، قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لقد قلت بعدك أربع كلمات، ثلاث مرات لو وزنت بما قلت منذ اليوم لوزنتهن، سبحان الله وبحمده، عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته». 

وقد توفيت رضي الله عنها سنة خمسين، وقيل: ست وخمسين. 

 محاولة المنافقين إثارة الفتنة بين المهاجرين والأنصار

خرج في غزوة بني المصطلق عددٌ كبيرٌ من المنافقين مع المسلمين، وكان يغلب عليهم التخلف في الغزوات السابقة، لكنهم لما رأوا اطراد النصر للمسلمين خرجوا طمعًا في الغنيمة.

   وعند ماء المريسيع كشف المنافقون عن الحقد الذي يضمرونه للإسلام والمسلمين، فكلما كسب الإسلام نصرًا جديدًا ازدادوا غيظًا على غيظهم، وقلوبهم تتطلع إلى اليوم الذي يهزم فيه المسلمون لتشفى من الغل، فلما انتصر المسلمون في المريسيع سعى المنافقون إلى إثارة العصبية بين المهاجرين والأنصار، فلما أخفقت المحاولة سعوا إلى إيذاء الرسول صلى الله عليه وسلم في نفسه وأهل بيته فشنوا حربًا نفسية مريرة من خلال حادثة الإفك التي اختلقوها، ولنترك الصحابي     زيد بن أرقم وهو شاهد عيان ومشارك في الحادث الأول يحكي خبر ذلك قال: (كنت في غزاة فسمعت عبد الله بن أبي يقول: لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا من حوله، ولئن رجعنا من عنده ليخرجن الأعز منها الأذل، فذكرت ذلك لعمي فذكره للنبي صلى الله عليه وسلم فدعاني فحدثته، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبد الله بن أبي وأصحابه، فحلفوا ما قالوا، فكذبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدقه فأصابني هم لم يصبني مثله قط، فجلست في البيت، فقال لي عمي: ما أردت إلا أن كذبك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك؟ فأنزل الله تعالى: ( إذا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللهِ وَاللهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ ) [المنافقين: 1] فبعث إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ، فقال: «إن الله قد صدقك يا زيد». 

   ويحكي شاهد عيان آخر هو جابر بن عبد الله الأنصاري ما حدث عند ماء المريسيع، وأدى إلى كلام المنافقين لإثارة العصبية وتمزيق وحدة المسلمين، قال: (كنا في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «ما بال دعوى الجاهلية؟». 

قالوا: يا رسول الله، كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فقال: «دعوها فإنها منتنة» فسمع بذلك عبد الله بن أبي فقال: فعلوها؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقام عمر فقال: يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «دعه، لا يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه».

  وفي رواية قال عمر بن الخطاب: مُرْ به عباد بن بشر فليقتله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فكيف يا عمر إذا تحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، لا، ولكن أذن بالرحيل»، وذلك في ساعة لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يرتحل فيها، فارتحل الناس. 

وقد مشى عبد الله بن أبي ابن سلول إلى رسول الله حين بلغه أن زيد بن أرقم قد بلغه ما سمعه منه، فحلف بالله ما قلت ما قال ولا تكلمت به، فقال من حضر رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأنصار من أصحابه: يا رسول الله عسى أن يكون الغلام قد أوهم في حديثه. فلما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقيه أسيد بن حضير، فحياه بتحية النبوة وسلم عليه ثم قال: يا نبي الله لقد رحت في ساعة منكرة، ما كنت تروح في مثلها، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أو بلغك ما قال صاحبكم؟». قال: وأي صاحب يا رسول الله؟ قال: «عبد الله بن أبي؟» قال: وما قال؟ قال: «زعم إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل». قال: فأنت يا رسول الله تخرجه منها إن شئت، هو الذليل وأنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله، ارفق به، فوالله لقد جاءنا الله بك، وإن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه فإنه يرى أنك استلبت ملكه. 

ثم مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح، وصدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس، ثم نزل بالناس، فلم يلبثوا أن وجدوا مس الأرض فوقعوا نيامًا. 

وإنما فعل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليشغل الناس عن الحديث الذي كان بالأمس، من حديث عبد الله بن أبي، ونزلت السورة التي ذكر فيها المنافقون في ابن أبي ومن كان على مثل أمره، فلما نزلت أخذ رسول الله بأذن زيد بن أرقم، ثم قال: هذا الذي أوفى الله بأذنه. 

فقه الموازنات في امتناع الرسول صلى الله عليه وسلم من تصفية المنافقين .

   إن في قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم للمنافقين مصلحةً كبيرةً تتمثل في التخلص من الطابور الخامس الذي يعكر على المسلمين صفو حياتهم، وتطهيرٌ للصف المسلم من عناصر التخذيل والإفساد، وفيه إعزازٌ للدين بقمع الكفر، ولكن هذه المصالح ستؤدي إلى مفاسد عظيمة تربو عليها فالكف عنهم يدرأ هذه المفاسد التي من أعظمها هز الثقة بالمسلمين، وزرع قالة السوء عنهم حيث سينتشر بين الناس أن محمداً يعامل معتنقي دينه بالقتل والتصفية الجسدية، فالتغاضي عن قتلهم هو الأولى لما يحقق من مصالح تربو على مصلحة استئصالهم لذا اقتضت حكمة الرسول دفع المفسدة الكبرى بارتكاب المفسدة الصغرى، أو التخلي عن المصلحة الصغرى، تحقيقاً للعديد من المصالح والتي منها:

1. درء السمعة السياسية والإعلامية السيئة التي ستشاع عن الرسول ودعوته، فالفرق كبيرٌ جدًّا بين أن يتحدث الناس عن حب أصحاب محمدٍ محمدًا، وبين أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه، ولا شك أن وراء ذلك محاولات ضخمة من العدو للدخول إلى الصف الداخلي في المدينة، بينما هم يائسون الآن من قدرتهم على شيء أمام ذلك الحب وتِلكُم التضحيات

يقول ابن  قيم الجوزية  رحمه الله في ذلك: "أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكف عن قتل المنافقين مع كونه مصلحةً، لئلا يكون ذريعةً إلى تنفير الناس عنه، وقولهم: إن محمداً يقتل أصحابه، فإن هذا القول يوجب النفور عن الإسلام ممن دخل فيه، ومن لم يدخل، ومفسدة التنفير أكبر من مفسدة ترك قتلهم، ومصلحة التأليف أعظم من مصلحة القتل".

2. الحفاظ على وحدة الصف المسلم، وذلك لأن لابن أبي أتباعًا وشيعةً مسلمين مغرورين، ولو فتك به لأرعدت له أنوفٌ، وغضب له رجالٌ متحمسون له، وقد يدفعهم تحمسهم له إلى تقطيع الوحدة المسلمة، وليس في ذلك أي مصلحةٍ للمسلمين ولا للإسلام، وإنها لسياسةٌ شرعيةٌ حكيمةٌ رشيدةٌ في معالجة المواقف العصبية في حزمٍ وقوة أعصابٍ وبُعد نظر.

3. كما أن في العفو مصلحةٌ شرعيةٌ، وهي تأليف قلوب قومه وتابعيه، فقد كان يدين له بالولاء فئةٌ كبيرةٌ من المنافقين، فعسى أن يتأثروا ويرجعوا عن نفاقهم ويعتبروا ويخلصوا لله ولرسوله، ولو لم يجب ابنه وترك الصلاة عليه قبل ورود النهي الصريح لكان سبةً وعاراً على ابنه وقومه، فالرسول الكريم اتبع أحسن الأمرين في السياسة إلى أن نهي فانتهى.

   لقد كان لتسامح الرسول صلى الله عليه وسلم مع رأس المنافقين أبعد الآثار فيما بعد، فقد كان ابن أبي ابن سلول كلما أحدث حدثًا كان قومه هم الذين يعاتبونه ويأخذونه، ويعنفونه، ويعرضون قتله على النبي صلى الله عليه وسلم، والرسول يأبى ويصفح، فأراد رسول الله أن يكشف لسيف الحق عن آثار سياسته الحكيمة، فقال: «كيف ترى يا عمر؟ أما والله لو قتلته يوم قلتَ لي لأرعدت له أنوفٌ لو أمرتها اليوم لقتلته»، فقال عمر: قد – والله – علمت لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظم بركة من أمري.

4. إكرام ابن عبد الله بن أبي المسلم الصادق وعدم فتنته عن دينه بفعل ما قد يخدش شعوره ويهز علاقته بإخوانه المؤمنين، لذلك رأيناه هونفسه يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليقول له: "يا رسول الله، بلغني أنك تريد قتل أبي ابن سلول فيما بلغك عنه، فإن كنت فاعلاً، فمرني به، فأنا أحمل إليك رأسه، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان بها من رجل أبر بوالده مني، وإني لأخشى أن تأمر به غيري فيقتله، فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل أبي يمشي بين الناس، فأقتله، فأقتل رجلاً مؤمنًا بكافر فأدخل النار"، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل نترفق به، ونحسن صحبته ما بقي معنا".

جميع المقالات المنشورة تعبِّر عن رأي كُتَّابها ولا تعبِر بالضرورة عن رأي رابطة العلماء السوريين